الأربعاء، يوليو 23، 2008

دراسة في رسالة الغفران


نبذة مختصرة 1

المعرّي هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان. ولد في معرّة النعمان في شمال سوريا سنة ثلاث وستين وثلاثمائة هجرية (973 ميلادية) وفي الرابعة من عمره أصيب بالجدري وفقد بصره. درس على أبيه الذي مات وهو في الرابعة عشرة من عمره، فرحل إلى حلب حيث كانت الحركة الثقافية التي ازدهرت في ظل سيف الدولة لاتزال نشيطة، ومن حلب إلى أنطاكية، وكانت لاتزال تدافع عما بقي لها من تراثها البيزنطي، ومن أنطاكية توجّه إلى طرابلس الشام، ومرّ باللاذقية فأخذ عن بعض الرهبان ما وجده عندهم من علوم اليونان وآرائهم الفلسفية.

في عام 398 هجرية رحل إلى بغداد حيث مكث عامين عاد بعدهما إلى معرّه النعمان ليجد أمه قد لحقت بأبيه فاعتزل الناس إلاّ خاصة طلاّبه وخادمه الذي كان يتقاسم معه دخله السنوي وهو ثلاثون دينارًا كان يستحقها من وقف. ورحل المعري سنة تسع وأربعين وأربعمائة هجرية .




--------------------------------------------------------------------------------



خـط سـير مفصّـل 2



نشأ "أبو العلاء المعري" في أسرة مرموقة تنتمي إلى قبيلة "تنوخ" العربية، التي يصل نسبها إلى "يَعرُب بن قحطان" جدّ العرب العاربةويصف المؤرخون تلك القبيلة بأنها من أكثر قبائل العرب مناقب وحسبًا، وقد كان لهم دور كبير في حروب المسلمين، وكان أبناؤها من أكثر جند الفتوحات الإسلامية عددًا، وأشدهم بلاءً في قتال الفرس.
وُلد أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان في بلدة "معرَّة النعمان"
ونشأ في بيت علم وفضل ورياسة متصل المجد، فجدُّه "سليمان بن أحمد" كان قاضي "المعرَّة"، وولي قضاء "حمص"، ووالده "عبد الله" كان شاعرًا، وقد تولى قضاء المعرَّة وحمص خلفًا لأبيه بعد موته، أمَّا أخوه الأكبر محمد بن عبد الله (355 - 430هـ = 966 – 1039م) فقد كان شاعرًا مُجيدًا، وأخوه الأصغر "عبد الواحد بن عبد الله" (371 – 405هـ = 981 - 1014م) كان شاعرًا أيضًا.

وعندما بلغ أبو العلاء الثالثة من عمره أُصيب بالجدري، وقد أدَّى ذلك إلى فقد بصره في إحدى عينيه، وما لبث أن فقد عينه الأخرى بعد ذلك.ولكن هذا البلاء على قسوته، وتلك المحنة على شدتها لم تُوهِن عزيمته، ولم تفُتّ في عضده، ولم تمنعه إعاقته عن طلب العلم، وتحدي تلك الظروف الصعبة التي مرَّ بها، فصرف نفسه وهمته إلى طب العلم ودراسة فنون اللغة والأدب والقراءة والحديث.فقرأ القرآن على جماعة من الشيوخ، وسمع الحديث عن أبيه وجدِّه وأخيه الأكبر وجدَّتِه "أم سلمة بنت الحسن بن إسحاق"، وعدد من الشيوخ، مثل: "أبي زكريا يحيى بن مسعر المعري"، و"أبي الفرج عبد الصمد الضرير الحمصي"، و"أبي عمرو عثمان الطرسوسي".وتلقَّى علوم اللغة والنحو على يد أبيه وعلى جماعة من اللغويين والنحاة بمعرَّة النعمان، مثل: "أبي بكر بن مسعود النحوي"، وبعض أصحاب "ابن خالوية".وكان لذكائه ونبوغه أكبر الأثر في تشجيع أبيه على إرساله إلى "حلب" – حيث يعيش أخواله – ليتلقى العلم على عدد من علمائها، وهناك التقى بالنحوي "محمد بن عبد الله بن سعد" الذي كان راوية لشعر "المتنبي"، ومن خلاله تعرَّف على شعر "المتنبي" وتوثقت علاقته به.ولكن نَهَم "أبي العلاء" إلى العلم والمعرفة لم يقف به عند "حلب"، فانطلق إلى "طرابلس" الشام؛ ليروى ظمأه من العلم في خزائن الكتب الموقوفة بها، كما وصل إلى "أنطاكية"، وتردد على خزائن كتبها ينهل منها ويحفظ ما فيها.وقد حباه الله تعالى حافظة قوية؛ فكان آية في الذكاء المفرط وقوة الحافظة، حتى إنه كان يحفظ ما يُقرأ عليه مرّة واحدة، ويتلوه كأنه يحفظه من قبل، ويُروى أن بعض أهل حلب سمعوا به وبذكائه وحفظه – على صغر سنه – فأرادوا أن يمتحنوه؛ فأخذ كل واحد منهم ينشده بيتًا، وهو يرد عليه ببيت من حفظه على قافيته، حتى نفد كل ما يحفظونه من أشعار، فاقترح عليهم أن ينشدوه أبياتًا ويجيبهم بأبيات من نظمه على قافيتها، فظل كل واحد منهم ينشده، وهو يجيب حتى قطعهم جمعيًا.


عاد "أبو العلاء" إلى "معرة النعمان" بعد أن قضى شطرًا من حياته في "الشام" يطلب العلم على أعلامها، ويرتاد مكتباتها.وما لبث أبوه أن تُوفي، فامتحن أبو العلاء باليُتم، وهو ما يزال غلامًا في الرابعة عشرة من عمره، فقال يرثي أباه:
أبي حكمت فيه الليالي ولم تزل
رماحُ المنايا قادراتٍ على الطعْنِ

مضى طاهرَ الجثمانِ والنفسِ والكرى
وسُهد المنى والجيب والذيل والرُّدْنِ

وبعد وفاة أبيه عاوده الحنين إلى الرحلة في طلب العلم، ودفعه طموحه إلى التفكير في الارتحال إلى بغداد، فاستأذن أمه في السفر، فأذنت له بعد أن شعرت بصدق عزمه على السفر، فشد رحاله إليها عام (398هـ = 1007م).
واتصل "أبو العلاء" في بغداد بخازن دار الكتب هناك "عبد السلام البصري"، وبدأ نجمه يلمع بها، حتى أضحى من شعرائها المعدودين وعلمائها المبرزين؛ مما أثار عليه موجدة بعض أقرانه ونقمة حساده، فأطلقوا ألسنتهم عليه بالأقاويل، وأثاروا حوله زوابع من الفتن والاتهامات بالكفر والزندقة، وحرّضوا عليه الفقهاء والحكام، ولكن ذلك لم يدفعه إلى اليأس أو الانزواء، وإنما كان يتصدى لتلك الدعاوى بقوة وحزم، ساخرًا من جهل حساده، مؤكدًا إيمانه بالله تعالى ورضاه بقضائه، فيقول تارة:

غَرِيَتْ بذمِّي أمةٌ
وبحمدِ خالقِها غريتُ

وعبدتُ ربِّي ما استطعـ
ـتُ، ومن بريته برِيتُ

ويقول تارة أخرى:

خُلِقَ الناسُ للبقاء فضلَّت
أمةٌ يحسبونهم للنفادِ

إنما ينقلون من دار أعما
لٍ إلى دار شقوة أو رشادِ


ولم يكن أبو العلاء بمعزل عن المشاركة في الحياة الاجتماعية والفكرية في عصره؛ فنراه يشارك بقصائده الحماسية في تسجيل المعارك بين العرب والروم، كما يعبر عن ضيقه وتبرمه بفساد عصره واختلال القيم والموازين فيه، ويكشف عن كثير مما ظهر في عصره من صراعات فكرية ومذهبية، كما يسجل ظهور بعض الطوائف والمذاهب والأفكار الدينية والسياسية.
وقد عرف له أهل بغداد فضله ومكانته؛ فكانوا يعرضون عليه أموالهم، ويلحُّون عليه في قبولها، ولكنه كان يأبى متعففًا، ويردها متأنفًا، بالرغم من رقة حالة، وحاجته الشديدة إلى المال، ويقول في ذلك:

لا أطلبُ الأرزاقَ والمو
لى يفيضُ عليَّ رزقي

إن أُعطَ بعضَ القوتِ أعـ
ـلم أنَّ ذلك فوق حقي

وكان برغم ذلك راضيًا قانعًا، يحمد الله على السراء والضراء، وقد يرى في البلاء نعمة تستحق حمد الخالق عليها فيقول:

"أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر".


لم يطل المقام بأبي العلاء في بغداد طويلاً؛ إذ إنه دخل في خصومة مع "المرتضي العلوي" أخي "الشريف الرضي"، بسبب تعصب "المعري" للمتنبي وتحامل المرتضي عليه؛ فقد كان أبو العلاء في مجلس المرتضي ذات يوم، وجاء ذكر المتنبي، فتنقصه المرتضي وأخذ يتتبع عيوبه ويذكر سرقاته الشعرية، فقال أبو العلاء: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قصيدته: "لك يا منازل في القلوب منازل" لكفاه فضلاً.
فغضب المرتضي، وأمر به؛ فسُحب من رجليه حتى أُخرج مهانًا من مجلسه، والتفت لجلسائه قائلاً: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر تلك القصيدة؟ فإن للمتنبي ما هو أجود منها لم يذكره. قالوا: النقيب السيد أعرف! فقال: إنما أراد قوله:

وإذا أتتك مذمَّتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأنِّي كامل


وفي تلك الأثناء جاءت الأخبار إلى أبي العلاء بمرض أمه، فسارع بالرجوع إلى موطنه بعد نحو عام ونصف العام من إقامته في بغداد.


غادر أبو العلاء بغداد في (24 من رمضان 400 هـ = 11 من مايو 1010م)، وكانت رحلة العودة شاقة مضنية، جمعت إلى أخطار الطريق وعناء السفر أثقال انكسار نفسه، ووطأة همومه وأحزانه، وعندما وصل أبو العلاء إلى بلدته كانت هناك مفاجأة قاسية في انتظاره.. لقد تُوفِّيت أمه وهو في طريق عودته إليها.ورثاها أبو العلاء بقصيدة تقطُر لوعة وحزنًا، وتفيض بالوجد والأسى. يقول فيها:

لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعت
أسباب دنياكِ من أسباب دنيانا

ولزم داره معتزلاً الناس، وأطلق على نفسه "رهين المحبسين"، وظلَّ على ذلك نحو أربعين عامًا، لم يغادر خلالها داره إلا مرة واحدة، عندما دعاه قومه ليشفع لهم عند "أسد الدولة بن صالح بن مرداس" - صاحب حلب - وكان قد خرج بجيشه إلى "المعرة" بين عامي (417،418هـ = 1026،1027م)؛ ليخمد حركة عصيان أهلها، فخرج أبو العلاء، متوكئا على رجُل من قومه، فلما علم صالح بقدومه إليه أمر بوقف القتال، وأحسن استقباله وأكرمه، ثم سأله حاجته، فقال أبو العلاء:

قضيت في منزلي برهةً
سَتِير العيوب فقيد الحسد

فلما مضى العمر إلا الأقل
وهمَّ لروحي فراق الجسد

بُعثت شفيعًا إلى صالح
وذاك من القوم رأي فسد

فيسمع منِّي سجع الحمام
وأسمع منه زئير الأسد


فقال صالح: بل نحن الذين تسمع منَّا سجع الحمام، وأنت الذي نسمع منه زئير الأسد. ثم أمر بخيامه فوضعت، ورحل عن "المعرة".


وكان أبو العلاء يأخذ نفسه بالشدة، فلم يسع في طلب المال بقدر ما شغل نفسه بطلب العلم، وهو يقول في ذلك:
"وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب، ولا أتكثر بلقاء الرجال، ولكن آثرت الإقامة بدار العلم، فشاهدت أنفس مكان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه".ويُعدُّ أبو العلاء من أشهر النباتيين عبر التاريخ؛ فقد امتنع عن أكل اللحم والبيض واللبن، واكتفى بتناول الفاكهة والبقول وغيرها مما تنبت الأرض.وقد اتخذ بعض أعدائه من ذلك المسلك مدخلاً للطعن عليه وتجريحه وتسديد التهم إليه، ومحاولة تأويل ذلك بما يشكك في دينه ويطعن في عقيدته.وهو يبرر ذلك برقة حاله وضيق ذات يده، وملاءمته لصحته فيقول:

"ومما حثني على ترك أكل الحيوان أن الذي لي في السنة نيِّفٌ وعشرون دينارًا، فإذا أخذ خادمي بعض ما يجب بقي لي ما لا يعجب، فاقتصرت على فول وبلسن، وما لا يعذب على الألسن.. ولست أريد في رزقي زيادة ولا لسقمي عيادة".
وعندما كثر إلحاح أهل الفضل والعلم على أبي العلاء في استزارته، وأبت به مروءته أن يرد طلبهم أو يقطع رجاءهم، وهم المحبون له، العارفون لقدره ومنزلته، المعترفون بفضله ومكانته؛ فتح باب داره لا يخرج منه إلى الناس، وإنما ليدخل إليه هؤلاء المريدون.فأصبح داره منارة للعلم يؤمها الأدباء والعلماء، وطلاب العلم من كافة الأنحاء، فكان يقضي يومه بين التدريس والإملاء، فإذا خلا بنفسه فللعبادة والتأمل والدعاء.وكما لم تلن الحياة لأبي العلاء يومًا في حياته، فإنها أيضًا كانت قاسية عند النهاية؛ فقد اعتلّ شيخ المعرَّة أيامًا ثلاثة، لم تبق من جسده الواهن النحيل إلا شبحًا يحتضر في خشوع وسكون، حتى أسلم الروح في (3 من ربيع الأول 449هـ = 10 من مايو 1057م) عن عمر بلغ 86 عامًا.
وقد ترك أبو العلاء تراثًا عظيمًا من الشعر والأدب والفلسفة، ظل موردًا لا ينضب للدارسين والباحثين على مر العصور، وكان له أكبر الأثر في فكر وعقل كثير من المفكرين والعلماء والأدباء في شتى الأنحاء، ومن أهم تلك الآثار:
- رسالة الغفران: التي ألهبت خيال كثير من الأدباء والشعراء على مَرِّ الزمان، والتي تأثر بها "دانتي" في ثُلاثيته الشهيرة "الكوميديا الإلهية".
- سقط الزند: وهو يجمع شعر أبي العلاء في شبابه، والذي استحق به أن يوصف بحق أنه خليفة المتنبي.
- لزوم ما لا يلزم (اللزوميات)، وهو شعره الذي قاله في كهولته، وقد أجاد فيه وأكثر بشكل لم يبلغه أحد بعده، حتى بلغ نحو (13) ألف بيت.




--------------------------------------------------------------------------------

المعرّة - معرّة النعمان



معرة النعمان: مدينة في محافظة إدلب، شمال وسط سوريا. هي أهم مدن المحافظة بعد إدلب، ومسقط رأس الشاعر العربي الشهير أبو العلاء المعري. أهم آثارها المسجد الجامع والمدرسة الشافعية وخان أسعد باشا العظم زخان مراد باشا، الذي يضم اليوم متحفاً لآثار المنطقة.

المسرح والسياسة


يوسف الطالبي

لا محيد للفعل الثقافي، من أجل عرض الأفكار ونشرها، عن المؤسسة (البنية التحتية) التي تدخل ضمن اشتغالات الحكم وسلطته، ولا مندوحة للمبدع عن خلفية فكرية تحكم توجهه، وهو ما يعني موقفه من (أدلوجة) الدولة، على حد تعبير عبد الله العروي، والتي تحدد بالتالي لونه السياسي. ومن ثمة فإن العلاقة القائمة بين الإبداع عموما، والسلطة السياسية تحديدا، موغلة في القدم، وقد عرفتها مختلف الثقافات كإشكالية صدامية، تتردد بين الإقبال والإدبار، وتتأرجح بين التبعية والانفصال. وبين التوافق أو المواجهة التي تحكم علاقة الفني بالسياسي، استمر الجدال والصراع إلى اليوم وعلى طول التاريخ.[1]. لذلك و"برغم الانطباع الأولي الذي يوحي به موضوع العلاقة بين الأدب والسياسة، من أنه موضوع مطروق "مستهلك" فإنه يظل محتاجا إلى التحليل وإعادة النظر"[2]. وهو ما سنحاول ملامسته في هذه المقاربة.
إن الفن الكبير يخدم أهدافا كبرى. وأحد الأسس التي يرتكز عليها فهمنا للفن، هو ذلك الرأي الذي يعتقد أن الفن العظيم، يؤثر بصورة طبيعية ومباشرة من الشعور إلى الشعور[3]. والمسرح الهادف، أو مسرح الأطروحة (Théâtre à thèse)، هو الذي يرصد تحرك الشارع، وينقل نبض الجماهير الشعبية، ويترجمها أفكارا صارخة، تبسط على الخشبة، لتسلط عليها الأضواء الكاشفة، من أجل الملاحظة الثاقبة، والنقد اللاذع، والمناقشة الساخنة، في أفق البحث عن مخرج لأزمة قد تطول كلما تمكن الخوف من الإنسان، وغزا الصمت الأماكن القصية المعتمة. بهذا المعنى الإيتمولوجي (Etymologie) يمكن اعتبار كل مسرح عملا سياسيا، أو كما يقول أوجستو بول (Augusto boal) "كل مسرح هو سياسي بالضرورة، لأن كل أنشطة الإنسان سياسية، والمسرح واحد من هذه الأنشطة، وأولئك الذين يحاولون فصل المسرح عن السياسة يحاولون تضليلنا، وهذا نفسه موقف سياسي"[4]. فالمسرح السياسي (Théâtre politique) إذن يقوم على الرغبة في انتصار نظرية مرتبطة باعتقاد اجتماعي، في أفق تحقيق مشروع فلسفي طموح، ليغدو علم الجمال خاضعا للمعركة السياسية، بانصهار الشكل المسرحي داخل جدل الأفكار[5].
إن النص المسرحي في نماذجه الجادة والجيدة، نص مشكوك فيه رسميا. لأنه مشاكس، معاند، مشاغب، وغير منضبط، أو بكلمة واحدة "نص فضولي" يمارس هجاء الواقع.. إنه نص للتعرية وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية[6]، حيث يرى بسكاتور (Piscator) أننا نعيش في حقبة تغلي بالمتغيرات السياسية، ولهذا فإن "السياسة" تحتل المستوى الأول من الاهتمام. من هنا علينا ألا نطلب من المسرح شيئا آخر غير السياسة[7]، ما دامت هناك صلة قوية "بين الأدب المسرحي والسياسية فهي في داخله في تكوينه ملتصقة به، وهو ملتحم فيها لا ملحق بها لا مجال للفصل بينهما، وحدتهما الحياة التي ينتميان إليها، ويشكلان خلاصة من أهم خلاصاتها"[8].
فعلى المسرح –انطلاقا من وعيه بحقيقة الصراعات الدائرة- أن يفضح ويكشف طبيعة تلك الصراعات، عليه أن يستفز الجمهور، ويعلمه، وهو يعرض عليه أوضاعه بكثير من التحليل من أجل تنويره. ومن ثمة تحفيزه على العمل لتغيير قدره. إنه مسرح القلق والغضب، مسرح لا مجال فيه للراحة والانفراج، بل هدفه التصعيد حد الضيق والاحتقان. "وكم هو دقيق وشفاف الخيط الفاصل بين خاتمة تشحن وأخرى تفرغ."[9]، وهو ما يحدد اختيار الفنان المسرحي وتوجهه نحو سياسة تكرس الوضع القائم، على القمع والقهر والمصادرة والتسلط، أو سياسة تدفع باتجاه التغيير نحو ما هو أفضل. لهذا فالمسرح "السياسي التحريضي هو المسرح الذي يطرح الحالة المراد توصيلها ليتخذ المشاهد موقفا فكريا ومبدئيا من تلك الحالة […] إنه عملية تحريك، عملية نقل إلى حيز الفعل"[10].
ومن ثمة، فالمسرح يتيح للإنسان إمكانية تأمل واقعه ومصيره وردود فعله إزاء الأحداث والوقائع، وتقييمها من أجل الخروج باقتراحات للحياة فكرا وممارسة لذلك، فالمسرح من الفنون التعبيرية، التي عبرت عن الإنسان وقضاياه، منذ زمن سحيق، وما الواقع الذي يصدر عنه إلا نقطة البداية، لتوضيح التناقضات الاجتماعية، التي يأخذ منها عناصر اتهام للمجتمع، وعناصر دعوى إلى التغيير.
ومن التصورات الخلاقة، التي اشتغلت في أطروحاتها على إشكالية العلاقة بين الإبداع والسياسة، وتستند إلى الاعتبارات الفلسفية والجمالية، وتجد مرجعيتها في الماركسية، نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر، جورج لوكاتش، لوسيان كولدمان وبرتولت برشت (Pertolt Brecht)، دون إغفال المحاولات الرائدة، التي دشنها واحد من أبرز أقطاب المسرح العربي، ونعني بذلك سعد الله ونوس، الذي نهضت تجربته على الممارسة المسرحية والوضوح النظري، فهو صاحب موقف تقدمي تغييري، إذ تعتبر مسألة "التسييس" لديه الثيمة (Thème) المهيمنة على مشروعه المسرحي.
في هذه المقاربة إذن، سنعمل على تسليط الضوء على كل من مسرح برتولت برشت، وسعد الله ونوس في علاقتهما بالسياسة.
برتولت برشت: جدلية المسرح والسياسة:

تجدر الإشارة، إلى أن برتولت برشت، رجل مسرح قبل أن يكون رجل سياسة، ولقد حاول جاهدا أن يغير المجتمع، ويحرر الناس من الشقاء، عن طريق مسرح مخصب بلون السياسة. لقد كان "يحمل فضائع هذا العصر في أعصابه، في دمه، ويشعر شعورا جسديا بما في زمانه من فوضى وعفن وفساد"[11]. لهذا فقد نقل قضايا المجتمع وتناقضاته ومصير الإنسان من الشارع إلى الخشبة، وعنده أن "المسرح بدون جمهور شيء لا معنى له"[12]. حيث استهدف تثويره من خلال تعليمه وتوعيته وكشف الواقع، وتعرية التاريخ أمامه، قصد استفزازه للثورة على حاله المتردي، والتصدي عمليا لتغييره[13]. ومن أجل أن تصبح الأحداث الاجتماعية، في الحياة مفهومة، رأى برتولت برشت ضرورة عرض الوسط الاجتماعي أمام المشاهد عرضا واسعا، بكل ما ينطوي عليه هذا الوسط من أهمية[14]. فالمسرح، عنده مدرسة لتنوير المجتمع، وصقل الوعي الإنساني، وتربيته، لكي يصبح هذا المسرح فيما بعد مسرحا سياسيا وثوريا[15]. فهو يرى "أنه لا يحق للمشاهد أن يستسلم عن طريق الاندماج البسيط في العالم النفسي لشخصيات المسرحية، لمعاناتها العاطفية بلا أدنى موقف انتقادي"[16]. إذ على المتلقي، أن يخلق مسافة تسمح له، بالتحكم في الفرحة، وبالتالي تأسيس قراءة نقدية عالمة، بدل التعاطي الاستيهامي الحالم. حيث أن برتولت برشت "لا يريد أن يترك المتفرجون عقولهم مع قبعاتهم قبل دخول المسرح كما يحدث عادة في المسرحيات التقليدية، ولا يريد أن يخرج المتفرج وقد أحس بالراحة والتوازن، بل على العكس يريد أن يقلقه ويدفعه إلى التفكير ومن ثم يفقد توازنه، ليسعى إلى استعادته عن طريق العمل الإيجابي الخلاق"[17].
إن المتأمل في فكر برتولت برشت، ومسرحه الملحمي، يلمس ذلك النزوع الملفت إلى خلق التوتر العالي، لدى المتلقي والتأثير فيه إيجابا، من أجل إقناعه بجدوى الفعل والسعي إلى تكريسه في أفق خلق شروط التغيير، الذي يحفظ للإنسان كرامته ووجوده. من ثمة، فإن الأطروحة المركزية للمسرح الملحمي، تنهض على التغريب والتأرخة والديالكتيك (Dialectique) باعتبارها مرتكزات نظرية، لا محيد عنها من أجل مسرح يخدم الإنسان على مستوى التعليم والتربية والوعي.. لذلك، يرى برتولت برشت، أن خلق هذا الوعي الفعال في المجتمع، لا بد أن يمر "من خلال توضيح المفاهيم والتحليلات الصائبة للتاريخ. إن الحاضر يصبح بعدئذ مغربا كما أن التاريخ يصبح المجال الحيوي لجعل الديالكتيك القانون الرئيسي للتاريخ"[18].
وإذا كان أرسطو في كتابه "فن الشعر" قد اعتمد مفهوم التطهير (Catharsis) محورا لنظريته عن المسرح (الكلاسيكي)، فإن برتولت برشت قد عمل على تقويض هذه النظرية من أساسها، وطرح البديل النظري والعملي، لها من أجل مسرح فاعل غير منفعل، فجاء بمفهوم التغريب (Distantiation)[19].
والتغريب، هو جعل المألوف غريبا، والتوصل إلى تغريب الحادثة أو الشخصية، يعني فقدانها لكل ما هم بديهي ومألوف وواضح، بالإضافة إلى إثارة الدهشة والفضول بسبب الحادثة نفسها[20]. ففي "التغريب" يصبح الاعتيادي والمعروف، ملفتا للانتباه ومفاجئا، والبديهي غامضا. كل ذلك من أجل أن تظهر الأمور مفهومة أكثر، وهذا ما يرمي غليه "تأثير التغريب" أساسا. "إننا نستخدم عادة "تأثير التغريب" عندما نسأل أحدهم: هل نظرت يوما بانتباه إلى ساعتك؟ إن السائل يعرف أني أنظر باستمرار إلى ساعتي، غير أنه بسؤاله قد قضى على اعتيادية الأمر بالنسبة لي، وللسبب ذاته قضى على تصوري للساعة الذي لم يكن ليعني لي شيئا، إنني أنظر إلى الساعة باستمرار لأحدد الوقت، غير أنه عندما أسأل بإلحاح وإصرار عندها أفهم أني لم أنظر إلى الساعة نظرة مليئة بالدهشة، وأنها من نواح عديدة تعتبر ماكنة مدهشة"[21]. إذن فالطبيعي، يجب أن يبدو مدهشا، ومن خلال الاستغراب والدهشة، ينبثق فهم جديد للموقف الإنساني.. ومن أجل الحصول على "تأثير التغريب" حسب برشت "يتعين على الممثل أن ينسى كل ما تعلمه عندما كان يحاول أن يحقق، بواسطة تمثيله الاندماج الانفعالي للجمهور بالشخصيات التي يخلقها، فإذا كان الممثل لا يهدف إلى الوصول بجمهوره إلى حالة من النشوة والوجد، عليه من باب أولى أن لا يقع هو نفسه في مثل هذه الحالة"[22]. بمعنى، أنه عليه أن يترك المسافة قائمة بينه وبين الشخصية التي يمثلها، محاولا في ذات الحين استفزاز المشاهد، وإثارته لإصدار موقف انتقادي اتجاه تلك الشخصية. من هنا، فإن الجدار الرابع الذي هو التحام الصالة بالخشبة يعد مجالا مثمرا للمشاهد، لقطع الصلة بينه وبين الممثل، حيث يقول المشاهد مع نفسه: "لم يخطر على بالي هذا الشيء.. لا يجوز أن يقوم المرء بهذا العمل.. أو.. هذا عجيب وملفت للنظر ولا يمكن تصديقه.. ويجب إيقاف ومنع هذا العمل عند حده.. أو.. أن عذابات هذا الإنسان ومعاناته تهزني، إذ ينبغي أن يوجد لها مخرج أو حل ناجع.. أو.. أنه حقا فن رائع ولا يوجد هنا شيء حاسم وبديهي.. إنني أضحك على الباكين وأبكي على الضاحكين.."[23] فالممثل إذن، يبلور الحدث الصغير، من خلال أهميته ويجعله غريبا ومدهشا.." ويذكر برشت ثلاثة طرق من أجل تجسيد علة التغريب على المسرح:
ـ نقل الدور إلى الشخص الثالث.
ـ الانتقال إلى الماضي.
ـ ربط توجيه التمثيل والتعليقات في الحوار"[24].
إن برتولت برشت، يخدم عملية صقل الوعي، من خلال استخدامه لعملية التغريب، وتأرخة الأحداث، لكي يصبح الإنسان واعيا بأحداث وجوده الاجتماعي، وممارسة النقد من أجل تغيير هذا الوجود للوصول إلى أهداف الثورة الاجتماعية[25]. فبرشت يتناول نصوص التراث المسرحي بالتبديل والتغيير، رغبة منه في إخضاعها للتغريب، وفي العروض المسرحية الملحمية، يلجأ إلى كثير من الوسائل لإحداث التغريب ومن أهمها، شخصية الراوي، الذي يفسر ما هو كائن وما يجب أن يكون[26].
وللاقتراب أكثر من مسرح برشت، لا بد من الوقوف بالضرورة على الديالكتيك، باعتباره المحرك الرئيس لجميع أفكاره وأعماله. فما هو الديالكتيك؟[27].
الديالكتيك هو الجدل، أي محاولة الوصول إلى الحقيقة، فمن خلال رأيين متناقضين، ينشأ حوار ثالث يقودنا إلى الحقيقة والصواب.. وقد ربط برشت هذا القانون بالمسرح، حيث أن الصراع الدرامي هو صراع جدلي، مما دفعه إلى الانشغال طويلا بضرورة نقل الديالكتيك إلى المسرح، ليكشف للمشاهد التناقضات الاجتماعية والاقتصادية، التي تحرك التاريخ وتطور المجتمعات، ما دام الإنسان وليد التناقضات الاجتماعية المنعكسة على مساره الحياة –التي لا يمكن أن تظل جامدة- وعلى تصرفاته وأخلاقه وحاجاته المستمرة للتغيير ونبذ الركود.. إذ أن قانون الديالكتيكي يفرض نفسه حيث لا توجد حتمية للأشياء، لأنها في تغيير مستمر[28] وقديما قيل "إنك لا تستحم في النهر مرتين" أو على حد تعبير هرقليطس "إن مثل هذا التغيير ينبغي أن يعتمد على العقل والحكمة لأن الحاكمين عبر التاريخ لم يتنازلوا طواعية عن امتيازاتهم وظلمهم للناس دون أن يعمل البشر على إثارة عملية التغيير. إذ لا توجد ثمة سلطة تساعد بل وساعدت الإنسان عبر التاريخ على تغيير مسار حياته دون أن يشارك هو نفسه في هذه العملية"[29]. إن أثر برتولت برشت على المسرح العالمي، كان يتسم بالثورة على تناقضات المجتمع، وكانت كتاباته التي تتفجر أسئلة عن واقع الإنسان وحقائق المجتمع، تؤدي لتحريك التفكير وجذب القارئ والمشاهد، إلى حلبة الصراع الدرامي والمساهمة في إصدار الأحكام والحلول الناجعة[30]. ما دام المسرح يشكل واجهة ثقافية إستراتيجية للدولة من أجل ترسيخ نمطها السياسي. "إن المجتمع السائر نحو التغيير وصراع الإنسان ضد أزمات وتناقضات الحياة هما الموضوعان الرئيسيان في مسرح برشت كما أن أفكاره وطريقة تصويره لهذه الصراعات تقودنا إلى التعرف على علة التغريب التي ابتكرها برشت لاستفزاز المشاهد من خلال تعايشه مع الأحداث اليومية، وهذه الأساليب تمنح المسرحية قدرة كبيرة على استخدام الديالكتيك وكيفية التعامل اليومي معه حيث يصبح بالنسبة للمشاهد نوعا من المتعة اليومية، وكان برشت يميل دائما إلى تسمية مسرحه بالمسرح الديالكتيكي، وكان يقول: من خلال استخدام الديالكتيك في المسرح يمكن للمرء أن يكشف عن التناقضات المثيرة"[31].
سعد الله ونوس ومسرح التسيس:
نشأ المسرح سياسيا وما يزال حسب رأي سعد الله ونوس، والنص المسرحي عنده يسير في خط مسرح "التسييس" الهادف إلى تحسيس الجمهور وتفتيح عيونه. "وهذا الخط يضع فرقا أساسيا بين ما يقال له "مسرح سياسي" وبين المسرح "التسييسي".. فكل مسرح هو بالنهاية، مسرح سياسي.. والمهم أية "سياسة" يخدمها هذا النص المسرحي أو ذاك؟ باتجاه تكريس الوضع القائم أم باتجاه التغيير لمصلحة التقدم الاجتماعي؟"[32]. وما دامت فكرة "المسرح السياسي" فضفاضة، عائمة وغير محددة.. كان لا بد لسعد الله ونوس، أمام هذا الوضع من التفريق بين المسرح السياسي ومسرح "التسييس" أي تعميق وتوضيح الهم السياسي في العمل المسرحي.. بمعنى الانتقال إلى التسييس.
فمفهوم التسييس عنده يعني محاولة "طرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية، وأنك تحاول استشفاف أفق تقدمي لحل هذه المشاكل"[33]. إذن بالتسييس أراد سعد الله ونوس أن يمضي "خطوة أعمق في تعريف المسرح السياسي بأنه المسرح الذي يحمل مضمونا سياسيا تقدميا. ومن نافل القول أن الطبقات الفعلية التي تحتاج إلى التسييس هي الطبقات الشعبية"[34].
لقد بدأ المسرح العربي الحديث، بعد نكسة 1967 مرحلة جديدة، عندما وجد نفسه مواجها بسؤال كبير: "من نحن، إلى أين، كيف؟" وهذا يؤكد أن المسرح أداة ثورية بالغة الأهمية، من أجل تجاوز الهزيمة والتمزق والتخلف[35]. "ولقد خضع المسرح بعد النكسة لمراجعة إحساسية واتخذ طريقا جديدة لرؤياه محاولا إعادة اكتشاف الواقع العربي وكشفه والإسهام في تغييره بدءا برسم الحاضر بكل تناقضاته لتحديد أفق المستقبل بنظرة مغايرة"[36]. وكانت الخطوة الأولى، في تعميق، وإغناء علاقة التجربة المسرحية بالواقع الذي تنمو فيه، تقر على أن "للمسرح علاقة بالسياسة وأن المسرح لا يستطيع أن يدير ظهره للأحداث السياسي القائمة في مجتمعنا"[37]. وهذا ما ذهب إليه رفيق الصبان في قوله: "إن المسرح أداة سياسية بالدرجة الأولى ولا يكمن أن يجد مسوغا لوجوده إذا ابتعد عن معالجة القضايا السياسية والاقتصادية النابعة من العصر"[38]. وهذا ما يزكيه سعد أردش بقوله: "وفي المسرح الملتزم يختار رجل المسرح موقفه من المجتمع، ويلتزم به وهو بطبيعة الحال موقف واضح في جانب الجماهير، وعلى وجه الدقة في جانب الطبقات المستغلة، ويدخل في التزام رجل المسرح السياسي أيضا أمر توصيل المسرح إلى هذه الطبقات"[39]. إلا أن هناك جانبا آخر للتسييس، يتحدد في الجانب الجمالي، إذ عليه أن يبحث عن أشكال اتصال جديدة ومبتكرة، لا يوفرها دائما التراث الإنساني، كما يرى ذلك سعد الله ونوس.
فلا بد إذن، من مواجهة ما هو سائد من تفاهة وذوق ساقط سقيم، وخلق جماليات جديدة ومبتكرة، أو كما يرى (بسكاتور) أنه يجب على المسرح أن يخدم الحركة الثورية، ومعنى هذه الخدمة "أن يقدم المسرح لجماهير هذه الطبقة عروضا مسرحية تحرره علميا وثقافيا بما يتوازى مع قيام المؤسسة السياسية بالإعداد للتحرير الاجتماعي"[40] ليكون بذلك مسرح التسييس، إطارا للعمل والتجربة.
ولقد التقط سعد الله ونوس، في تجربته صورة من صور الإنسان العربي، أو كما عبر عنها "الصورة التي هزتني وأثرت في وبالتالي انعكست في أعمالي هي صورة الإنسان العربي المهزوم المقهور، والذي يلتمس إمكانية أن يتفتح وأن يحمل قدره بنفسه ولكنه لا يجد حوله إلا الصعوبات والعراقيل والأكاذيب. عراقيل سببها بالدرجة الأولى الوضع السياسي الذي يعيش فيه، سببها القمع المنظم الطويل الذي خضع له، سببها أيضا شراسة القوى الخارجية التي تحاول هزيمته ومنعه من أن يتفتح ويحمل قدره بنفسه"[41].
من ثمة فإن سعد الله ونوس، يريد أن يبني وعيا لا أن يعطي وعيا جاهزا، فتأملوا معي يقول سعد الله ونوس أن "يأتي الجمهور وهو يحمل أحزان يومه وهموم حياته فنمتص نقمته على الواقع ونحولها إلى ضحكات تملأ فراغ الصالة، ولا يتجاوز تأثيرها عتبة النفس والمسرح، ونفرغه من شحنة غضب كان يمكن أن نوجه إليها سهاما ونفجرها في ذاته نارا حارقة"[42].
إن بناء الوعي، يمكن أن يتم عبر عرض ما هو سلبي، كأن نأخذ عيبا من العيوب ونظهر آثاره، وبذلك نكون قد قدمنا مثالا حيا ودرسا فعليا لهذه الحالة. دون أن ننسى أن المسرح أساسا، عملية جدلية بين الصالة والخشبة.
إذن فهاجس ونوس، هو البحث في المجتمع عن مشاكله وقضاياه.. وعن النماذج التي تتحكم في سيرورته وحركته، من هنا حاول بناء مسرح عربي عبر طرح إشكالية المجتمع العربي[43] دون أن يطمح إلى أن يكون المسرح عمل تغيير فوري وراهن "إن فاعلية المسرح في تقديري الآن [كما يقول سعد الله ونوس ] هي بالضبط ألا يشغل نفسه في التغيير الثوري والسريع هي أن يكون وسيلة معرفية توسع أفق المتفرج معرفيا، وأن يكون في الوقت نفسه، كما قلت وألححت على هذه النقطة، وسيلة جمالية توقد في ذهن المتفرج قابليات للذوق والتذوق مختلفة، وتتقاطع مع القيم الجمالية التي يعممها الفن والإعلام السائد"[44]. لقد أدرك ونوس أن "جدوى الإنسان الرئيسة أو الجوهرية هي أن يكون سياسيا، وأن على كل منا أن يعمل ما يستطيع"[45]، واضعا نصب عينيه هدفين: الوضوح الفكري السياسي أولا، ثم طبيعة المتفرج الذي يريد مخاطبته. وإذا كان هذا هو ما يطلب من المبدع المسرحي، فما هو المطلوب من المتفرج أو المتلقي من أجل خلق تواصل فعال يحقق التغيير؟
إن المسرح في أعم تعاريفه، ظاهرة اجتماعية تتحدد في أبسط أشكالها من متفرج وممثل، وأي تطوير للمسرح يتعلق بهما معا.. "فلا معنى لأي إبداع يتطور من غير أن يكون هناك تطور مشابه ومماثل على مستوى الجمهور"[46]. فبإمكان المتفرج أن يقوم بدور كبير في توجيه المسرح، لذا وجب تعليمه، وتشجيعه، حتى يباشر وظيفته كمتفرج بشكل فعال، وأول ما يجب أن يقوم به المتلقي، هو أن يغير من سلوكه داخل قاعة العرض، ويتخلى عن سلبيته المتمثلة في جلسته السكونية، التي هي أشبه ما تكون بالخضوع للمناهج التعليمية العتيقة، والتي هي إلى الاستسلام أقرب منه إلى التعلم، الذي يحث على مناقشة ما يجري وتمحيصه وانتقاده وإبداء الرأي فيه.
ينبغي على الجمهور، أن يعي أهميته في أي عرض مسرحي، وكل ما يدور على الخشبة يستهدفه، ويهمه، ويعنيه، لذا عليه أن يتخذ موقفا منه وبناء على هذا الموقف تتحدد قيمة العرض.. على المتفرج، أن يحس بالمسؤولية وبأن لمواقفه نتائج هامة وخطيرة أيضا، عليه وعلى أوضاع بلاده[47]. فالمتفرج هو الطرف الأساس، لأي عرض مسرحي، لذلك عليه أن يمارس حقوقه كاملة، عليه أن يؤدي دوره بشكل تام وإيجابي. عليه أن يملأ حيزه في كل نشاط مسرحي، وأن يقبل ويرفض.. أن يضغط ويقاطع، عليه ألا يكون سلبيا يأخذ ما يقدم له دون اعتراض ودون تمحيص[48]. وأو عليه حسب سعد الله ونوس "أن يكون واعيا ووقحا، وبذلك فقط يمكن أن تتساقط كثير من التفاهات والأكاذيب، وأن يصبح المسرح نشاطا اجتماعيا وثقافيا فعالا يجمع الخشبة والصالة في علاقة جدلية وثيقة وعنية"[49].
بهذا سيكون العرض المسرحي، هو الحدث المقلق الذي يجمع عددا من الناس، لا يلبثون عند انصهار الخشبة والصالة في وحدة لا تتجزء، أن يحسوا وحدة مشاكلهم وحميميتهم، عبر الارتجال، وأحيانا المشاركة في العرض. ولنا أن نتصور ما يمكن أن ينتج عبر هذا التفاعل بين المتفرجين؟![50].
وصفوة القول، أن سعد الله ونوس مبدع صنع بالكلمات مسرحيات رائعة، كان يطمح من ورائها إلى تأسيس "الكلمة/الفعل" ويناضل بقلمه كما يناضل الجندي ببندقيته، وعاد يمشي على جرحه وهو يقول: "المناضل الذي أريد أن أكونه، ليس في النهاية سوى كاتب فعله الكلمات […] إنه ما من هزيمة لعبت فيها الكلمات الدور الذي لعبته في هزيمة حزيران. كنت أحس الكلمة شركا سقطنا في حبائله. كانت خديعة، أو جثة تتحلل، وتتحول غازاتها في دخائلنا خجلا صامتا وعارا باردا […] وما فائدة الكلمات حين يكون ما نحتاجه هو "الفعل" الذي يغسلنا من دجل الكلمات وعفونتها التي فاحت رائحتها في قيظ الهزيمة؟ ما فائدة الكلمات إن لم يندغم فيها الفعل ويكونها؟"[51].
وبدأ بحثا دائبا عن طموحه الذي يتأسس بالكلمة/الفعل، كلمة عارية مكثفة تكشف الواقع وتغيره في آن.. وانتصب السؤال ثانية: هل تستطيع الكلمة أن تكون فعلا حقيقيا؟ وفي فترة اعتقد أن ذلك ممكنا، وغمره إحساس بالتوازن[52]. وبعد مخاض صعب، جاءت لحظة الوضع العسير، وجاء معها ونوس يحمل على أكتافه ثقل التجربة والممارسة.. ولسان حاله يقول: "اهتز حلمي، وأخذت تترمد الصورة المتقدة التي اشتعلت في رأسي وأنا أكتب"[53]. ليخلص إلى القول والأسى يعتصر قلبه: "الكلمة كلمة، المسرح مسرح، وأن الكلمة ليست فعلا وأن المسرح ليس بؤرة انتفاضة. كان الاستنتاج مخيبا ومرا. وكان الحلم ينأى منطويا في سراب أو وهم، نعم تبدد الحلم وانطوى، أما الإشكال فبقي في مواجهتي يقلقني، ويدفعني إلى رحلة بحث جديدة"[54]. ولم يتحقق حلمه، فربما "كان خطأ في العمل أو في الحلم نفسه، وربما كان هناك كسل في تحقيق التجربة ومواصلتها"[55]. فلماذا جاءت النتيجة سوداء حالكة كليل حزيران؟ ويأتينا الجواب من سعد الله ونوس: "إنني (مشروع) دائب وقلق كي أكون فعالا في زمني وبيئتي [لكنني ] أجد هذا المشروع مطوقا بالصعاب، مهدوجا بالشوك والوساوس. وما فعلته حتى الآن لا يستوعب ما أريده"[56] مضيفا، لقد: "كنت أطمح إلى إنجاز "الكلمة-الفعل" التي يتلازم ويندغم في سياقها حلم الثورة وفعل الثورة معا [… لكن ] كيف أصوغ "الكلمة-الفعل" وكيف أنجز بالكتابة طموحا مزدوجا أو ربما متعارضا أم أن هذه المحاولة مستحيلة، ومحكومة دائما بالإخفاق"[57].
هكذا كانت النتيجة التي توصل إليها سعد الله ونوس مخيبة ومرة، صادمة، وربما كارثية أيضا.
وختاما، هل يسمح لنا الحضور البرشتي، في أعمال سعد الله ونوس بإطلاق حكم عام مفاده أن سعد الله ونوس تأثر حد النخاع ببرتولت برشت؟!
إن ركوب هذه الموجة، مغامرة محفوفة بالمخاطر، وغير مأمونة العواقب.. خاصة وأننا تطرقنا لقضية واحدة دون سواها، فحصل التقاء ربما قد يكون وليد (الصدفة)، في حين قد يكون بينهما اختلاف كبير في العديد من القضايا الأخرى –وهذا أمر وارد دون أدنى شك- وجانبناه بحكم احترامنا للخط المرسوم سلفا لهذه المقاربة. والحال، أن كل نظرية أو دعوة –كيفما كانت- لا يجب انتزاعها من تربتها ومحاولة زرعها ثانية، وبشكل تعسفي في أرض غير الأرض، وتربة غير التربة، ونجاح أو فشل تجربة، يجب محاكمتها تحت سمائها وليس تحت أي سماء أخرى؛ أي جيب موضعتها في إطارها التاريخي والسوسيوثقافي.
من ثمة، فإن الحضور البرشتي في أعمال بعض المسرحيين العرب، هو حضور مؤقت أو بكلمة أكثر دقة، إنه تقليعة (Mode) نادت بها ظروف معينة تراجعت بتراجع تلك الظروف. أما بالنسبة لسعد الله ونوس، فمراجعته تعفينا من الخوض في المتاهات التي يمكنها أن تبعدنا عن صلب الموضوع، إذ يقول: "اكتشفت أنه من الصعب جدا، رغم موافقتي التامة وتبني الشخصي لأهم مقولات برشت أنه من العسير جدا تقديم مسرحية لبرشت كما هي لبيئة محلية كبيئة دمشق مثلا"[58]. وهو ما يعني أن سعد الله ونوس قدم اجتهادات وتجارب، تراعي خصوصيات المجتمع العربي، دون النقل المحايد والبارد لأهم مرتكزات المسرح الملحمي، مقدما مسوغات للصعوبات التي ذكرها، في قوله: "نحن كجمهور عفوي –وهذا امتياز- ليست لدينا تقاليد مسرحية ثقيلة تنيخ على أكتافنا وتمنعنا مثلا، من معاناة تجربة مسرحية بتلقائية مختلفة، ليس لدينا جمهور متيبس وليست لدينا عادات وتقاليد في الفرجة، وليست لدينا صالات مقسمة تقسيما اعتباطيا وليست لدينا بنية ذهنية للمسرح أو المسرحية المتيبسة، ونطالب بأن نجدها دائما في كل مسرح ندخله"[59]. أي أن لدينا مكتسبات تحتفظ بها الذاكرة الجماعية، وتراثنا المشترك في وطننا العربي الكبير، يسعفنا في صقل تجربتنا المسرحية الفتية، "لذلك فإن التجديدات التي اقتطعت الكثير من الجهد والوقت لدى برشت هي مبذولة لنا بشكل تلقائي، وبعض محاولاته لكسر الإيهام المسرحي تبدو بالنسبة لنا غير مفهومة لأننا لم نعش مرحلة الإيهام المسرحي، أو لم تترسخ لدينا تقاليد فرجة تتضمن الإيهام المسرحي"[60].
ومهما يكن من أمر سعد الله ونوس، استجابت ممارسته لتنظيراته أو عاكسه الحظ، حقق الكلمة/الفعل في مسرحه، أو أخفق في ذلك، وجد واقعا لحلمه أو ظل حلمه يحلق في الفضاء دون أن يجد أرضا تأويه أو سماء تقيه.. سواء تكلم قليلا أو غزاه الصمت طويلا، أو العكس، تأثر ببرتولت برشت حد النخاع، أو لامس أهم مقولاته دون التغلغل فيها.. فإنه يبقى "عاشق المسرح بامتياز ووجها من انضر وجوهه المعاصرة، أثبت جدارته في أعماله الطويلة […] قضيته كانت واحدة: من نحن، ولماذا يحدث لنا وفينا ما يحدث؟ عين إلى الفهم وغلى التحليل وأخرى إلى الحفز والتحريض، عين إلى الواقع المعيش وأخرى إلى التراث والموروث، عين إلى مجددي فن المسرح في الغرب وأخرى إلى الراوي والحكواتي، عين إلى وضوح الفكر ونصاعته وأخرى إلى أحكام العمل الفني وإثرائه، بعبارة واحدة: عين إلى الفعل وأخرى إلى المتعة"[61].
لقد ظل سعد الله ونوس ممزقا بين موقعين "لم يتخل عن الخصوصية الإبداعية لنصوص المسرحية ولم يتخل عن طموحه إلى تغيير البنى السياسية الاجتماعية بهذه الأداة مما يطرح عليها تحديا كبيرا […] والمتمثل في عجز الإبداع والتعبير على مستوى النص من الانتقال إلى مستوى الواقع السياسي والاجتماعي. فقد نجح في إضاءة إشكالية المسرح وفي تحليل الانقطاعات، لكنه قد مسرح الحل أو حوله إلى حكاية، إلى مسرحية ثانية إلى حلم بجماعية الكلام وعفويته"[62].
ليبقى المسرح والسياسة؛ الإنسان والقضية.
--------------------------------
الهوامش:
[1] - يمكن الرجوع إلى مداخلة محمد برادة الموسومة بـ: الأدبي والسياسي: جدلية معاقة؟ مجلة البحث العلمي، العدد: 43/44، السنة الثلاثون 1997. والتي تعرض فيها لهذه الإشكالية في الثقافة العربية. يقول: "ما كتب عندنا حول إشكالية علاقة الأدب بالسياسة، لا يندرج ضمن اهتمام نظري أساسي، يكون تراكما وينجز تحيينا للأسئلة، ويرصد التبدلات في طرائق التفكير وبالمقارنة مع الممارسة الأدبية والوعي السياسي"، ص149.
[2] - المرجع نفسه، ص149.
[3] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، ترجمة: جميل نصيف، عالم المعرفة، بيروت، بدون طبعة، بدون تاريخ، ص14.
[4] - أوجستو بول، نقلا عن: فؤاد دوارة، مسرح المقهورين، رؤية جديدة تهدم نظرية أرسطو من أساسها، مجلة العربي (الكويتية)، العدد 272، يوليوز 1981، ص146.
[5] - أحمد بلخيري، معجم المصطلحات المسرحية، مطبعة سندي، مكناس، الطبعة الأولى، 1997، ص118.
[6] - عبد الكريم برشيد، كتابتنا المسرحية في أفق التساؤل، مجلة الوحدة، العدد 58/59، يوليوز/غشت، 1989، ص128-129.
[7] - سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد 19، يوليوز 1979، ص201.
[8] - علي عقلة عرسان، سياسة في المسرح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، بدون طبعة، 1978، ص7.
[9] - سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، دار الفكر الجديد، بيروت، الطبعة الأولى، 1988، ص41.
[10] - أحمد العشري، المسرح التحريضي، الإثارة والدعاية، مجلة عالم الفكر (الكويتية)، العدد: الأول، أبريل/ماي/يونيو 1987، ص103-104.
[11] - هوبرت هرنج، نقلا عن: علي عقلة عرسان، سياسة في المسرح، مرجع سابق، ص284.
[12] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، مرجع سابق، ص11.
[13] - سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، مرجع سابق، ص206.
[14] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، مرجع سابق، ص87.
[15] - عدنان رشيد، مسرح برشت، دار النهضة العربية، بيروت، بدون طبعة، 1988، ص85.
[16] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، مرجع سابق، ص88.
[17] - فؤاد دوارة، مسرح المقهورين، مرجع سابق، ص149.
[18] - عدنان رشيد، مسرح برشت، مرجع سابق، ص93.
[19] - يطلق على التغريب في اللغة الألمانية: Verfremdung، وباللغة الإنجليزية: Alienation، وعند نقاد الدراما في أمريكا: Estrangenent، وفي اللغة الفرنسية فما هو كما ذكرنا: Distantiation، أما في لغتنا العربية فقد درج الدارسون على ترجمته: التغريب أو الإغراب أو الإبعاد في القليل الناذر، ولا شك أن الكلمة الأولى لائقة وشائعة.
[20] - برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، مرجع سابق، ص124.
[21] - المرجع نفسه، ص143.
[22] - المرجع نفسه، ص235.
[23] - عدنان رشيد، مسرح برشت، مرجع سابق، ص237.
[24] - المرجع نفسه، ص243.
[25] - المرجع نفسه، ص90.
[26] - سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، مرجع سابق، ص210.
[27] - Dialectique جدلي، ديالكتيكي. وهو: فن حوار يرتفع به العقل من المحسوس إلى المعقول (حسب أفلاطون)، استدلال على وجه الاحتمال (حسب أرسطو)، منطق الوهم (حسب كانط)، إبراز تماسك التناقضات ووحدتها (في نظر هيغل)، استدلال يعتمد المتناقضات وتفاوت الأفكار ليصل من بعد إلى عملية تركيبية (في رأي المحدثين)..
[28] - انظر: عدنان رشيد، مسرح برشت، مرجع سابق، ص61-62-63-235.
[29] - المرجع نفسه، 235.
[30] - المرجع نفسه، 71.
[31] - المرجع نفسه، 76.
[32] - حوار مع سعد الله ونوس، أجراه نبيل حفار، مجلة الطريق، العدد الثاني، أبريل/ماي، 1986، ص95.
[33] - المرجع نفسه، 98.
[34] - المرجع نفسه، 98.
[35] - أحمد العشري، المسرح التحريضي، مرجع سابق، ص124.
[36] - المرجع نفسه، ص124-125.
[37] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص97.
[38] - رفيق الصبان، نقلا عن عبد الله أبو هيف، التأسيس، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، بدون طبعة، بدون تاريخ، ص51.
[39] - سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، مرجع سابق، ص193.
[40] - المرجع نفسه، ص201.
[41] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص105.
[42] - علي عقلة عرسان، سياسة في المسرح، مرجع سابق، ص21.
[43] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص107-108.
[44] - المرجع نفسه، 116.
[45] - إسماعيل فهد إسماعيل، سعد الله ونوس ورحلة الالتزام والوضوح، مجلة الآداب، العدد 6، يوليوز 1978، ص128.
[46] - هيئة التحرير، التأسيس، الورقة الأولى، مجلة التأسيس، العدد الأول، يناير 1978، ص12.
[47] - سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، مرجع سابق، ص42.
[48] - المرجع نفسه، 43-44.
[49] - المرجع نفسه، 43-44.
[50] - كان المتفرجون أيام الثورة الفرنسية يتعاركون ويختصمون ويقتتلون أثناء العرض المسرحي ثم ما لبثت أن تبدأ المعركة الحقيقة خارج المسرح.
[51] - سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، مرجع سابق، ص384.
[52] - المرجع السابق، ص284-285.
[53] - المرجع السابق، ص286.
[54] - المرجع السابق، ص286.
[55] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص102.
[56] - إسماعيل فهد إسماعيل، الكلمة/الفعل في مسرح سعد الله ونوس، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، ماي 1981، ص222.
[57] - سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، مرجع سابق، ص283-286.
[58] - حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، مرجع سابق، ص101.
[59] - المرجع نفسه، ص101.
[60] - المرجع نفسه، ص101.
[61] - فاروق عبد القاهر، صراع المساحات عند سعد الله ونوس، ربيع المسرح، العدد 1، الجمعة 25 ماي 1990، ص2.
[62] - خالدة سعيد، لغز النص القاتل بين السلطة الكاتبة والرأس المكتوب (قراءة في مسرح سعد الله ونوس)، مجلة الطريق، العدد الثاني، ماي 1985، ص216.

العلم بين الحقيقة والنّمذجة (تحقيق محمّدعلي كسيرة)

قبل الشّروع في قراءة هذه الدّراسة ينبغي علينا الاطّلاع على برنامج وتوجيهات المحورالعلم بين الحقيقة والنّمذجة قصد الاستفادة من هذه الدّراسة وفق متطلّبات المحور:


II- العلم بين الحقيقة والنّمذجة :

1- أبعاد النّمذجة
أ - البعد التّركيبي
الأكسمة – البنية – التّرييض – الصّورنة
ب – البعد الدّلالي
الافتراضي – القانون - الملائم - النّظريّة - الواقعي.
ج – البعد التّداولي
التّفسير – التّحقيق – الفهم – النّجاعة.
2- النّمذجة ومطلب الحقيقة
أ- الحدود الابستيمولوجيّة
الاختزاليّة – التّاريخيّة – الأنظمة التّقنيّة.
ب – الحدود الفلسفيّة
الحقيقة – المسؤوليّة – المعنى.


تتمحور هذه المسألة حول النّمذجة العلميّة باعتبارها التّمشّي المشترك بين مختلف الحقول العلميّة والمميّز لها عن أشكال الخطاب الأخرى، وتتعلّق بمنزلة النّموذج العلميّ المزدوجة بين انشداده إلى مرجع خارجي عنه وسعيه إلى بناء واقع مستحدث، أي بين ضرورة تلزم النّموذج، ومواضعة موسومة بالتّعدّد والنّسبية.

ذلك ما يبرّر تفصيل القول في النّمذجة العلميّة على جهات ثلاث (تركيبيّة ودلاليّة وتداوليّة) تتصادى مع توتّرات ايبستمولوجيّة ثلاثة :

- توتّر بين تمثيل الظّواهر باللّغة الطّبيعيّة وتمثيلها بواسطة أنظمة رمزيّة اصطناعيّة.

- توتّر بين معطيات التّجربة العيانيّة ومقتضيات الإنشاءات التّجريديّة.

- توتّر بين معرفة نظريّة مطلوبة لذاتها وإرادة نجاعة التّحكّم في الظّواهر.

إنّ مقاربة الممارسة العلميّة بواسطة النّمذجة تتيح لنا قراءة نقديّة للإنتاج المعرفيّ العلميّ تمكّن من تجاوز تشتّت حقوله، ومن تقصّي حدوده الايبستيمولوجيّة والفلسفيّة.

-----------------------------------الدّراسة المنقولة---------------------------------------------

النمذجة وآفاق التنظير في الخطاب النقدي الحديث

-------------------



هذه الدّراسة منقولة -تحقيق ومطالعة -الأستاذ محمّد علي كسيرة -

1 - النمذجة وبناء النماذج:

1.1- مفهوم النموذج:

لقد اكتسب مصطلح النموذج (Modèle) "حمولة منهجية واسعة في الدلالة على كل الأشكال والإنتاجات المنذورة لخدمة مرامي المعرفة"(1). ويذهب "H. Wermus" (1983) إلى استبعاد العلاقة المباشرة التي يمكن افتراض نشوتها بين النموذج والمجال الواقعي إذ ما يميز النموذج بوجه خاص هو كونه بناءا (Construction) يصاغ في الغالب من بعض الخواص المنتقاة من الواقع. ويتم ذلك بسند (ضمني) من نظرية مسبقة قد تكون ساذجة. وعلى غرار ذلك فإن الفكر التنظيري (P. Théorisante) أو الصوري، يستعيض عن "الفكر" كما هو، بهندسة مفهومية معينة تنطلق من اللغات والمكونات الأخرى (الرمزية) لتؤسس، مع ذلك، أنسقة متنوعة وذات طاقة تعبيرية هائلة. والمفروض في النظرية تمثيل وشرح واشتقاق الوقائع من النموذج المعطى بل العمل على إثرائه بعلاقات جديدة واحتوائه ضمن الاتجاه الذي ينحو إليه البحث العلمي. وثمة وفرة من الإجراءات الخاصة لتأسيس النماذج والنظريات تظل بالضرورة وفي مجموعها، مجالا يوظف فيه الباحث-بصورة غالبا ما تكون ضمنية-كفاءته وإبداعيته ونوازعه(2). فالعلاقة الناهضة إذن بين النموذج والعالم الخارجي، أي شكل الخطاب (التمثيل الخطاطي R. Schématique) الذي ينتجه والذي يحدد بشبكة علاقاته الداخلية نوعية ودينامية الروابط الممكنة مع موضوعه الخارجي.

ويلزم عن هذا التحديد، ضرورة التمييز بين نمطين أساسيين من النماذج:



أ - النموذج المادي: ويؤسس بالاستناد على المعطيات التجريبية للموضوع.

أ.أ- النموذج النظري: ويسمح-انطلاقا من نموذج الموضوع- بصياغة نظرية معينة تجعل من الظاهرة المدروسة ظاهرة أكثر عمومية وشمولية، محجوجة ومسنودة بالتجربة مع فسح المجال أكثر لتعدد الفرضيات (Hypothèses) التي قد تتيح إمكانية تجاوزها(3). لكننا نذهب إلى وجود نوع من النماذج النظرية القابلة للتعديل والمراجعة في ضوء التشكيلات النظرية النقيضة. فأهميتها الإجرائية تكمن بالنسبة إلى "الخطابات النقدية الشارحة" في كونها تناقح أساسا عن طبيعتها النظرية عبر خرق ما يسمى بالامتحان التجريبي أو معياري المقبولية واللامقبولية المصوغين في نطاق التجريبية المنطقية والوضعية المحدثة.

وبعبارة أخرى فالذي يحدد فاعلية هذا النمط النموذجي يتمثل بوجه خاص في أسلوب مقاربته للمشاكل المطروحة. وليس هذا ما يميز النموذج النظري وحده في سيره نحو تحسين كيانه، فالأهمية الاستراتيجية للعلم نفسه في تصور Larry Laudan تكمن بالأساس في اقتراحه حلولا ناجعة لمشاكل مطروحة بحيث تشكل هذه افعالية، سواء أكانت متعلقة بمشاكل تجريبية أم مفهومية، وحدة قاعيدة في مسار تبلوره وتقدمه(4). ولذلك تنحو النماذج النظرية هذا المنحى بما ينتصب عاملا محددا ومترجما لقدراتها الإجرائية-التداولية.

إن تطلب التجريبية للشرط التجريبي اكتنف أيضا حدها للنموذج ذاته. فالنماذج عند (Jean-Pierre Changeux) لا تعدو كونها "تمثيلات مبسطة ومصورنة عن الواقع الخارجي يقترحها رجل المعرفة العلمية ويقارنها به (أي بالواقع) عن طريق التجربة، جاهدا في البرهنة على صلاحيتها بالارتكاز على "معايير صريخة وذات صبغة بتية"(5). وهو مفهوم نلحظه عند غريماس وكورتيس (1979) اللذين يشترطان في لنماذج مطابقة مزدوجة: مكابقة للنظرية (استنباط) ومطابقة للمعطيات التجريبية (إثبات VS تفنيد) [ فقرة التصور الغريماسي للنمذجة رقم 1-3-1].

ونظرا لما يستلزمه الأساس التجريبي، رغم كونه خارجا عن مقاصد النموذج التكويني الذي سنقترحه لاحقا من وقفة إبستمولوجية متأنية، فقد وزعنا هذا القسم المنهجي إلى الفقرات التالية:

ا-مشكلة النمذجة من خلال منظوري روني طوم وبتيتو كوكوردا.

اا-التصور الغريماسي للنمذجة

ااا-النمذجة في نظرية الأدب.

على أن إدراج الفقرة (ااا) إنما يرد في سياق التمثيل ما أثمرته بعض النماذج النظرية-النقدية المتاخمة للخطابات العملية والإبستمولوجية المعاصرة من التساؤلات جوهرية تمس في الصميم قضية إيجاد نموذج تحليلي للظواهر الأدبية.

1.2.1-مشكلة النمذجة عند "طوم" و "كوكوردا":

طرحت مشكلة النمذجة (Modélisation) في سياق مراجعات مبادئ النظرية السيميو سردية عند غريماس. وقد تم تأطير تلك المراجعات تأطيرا نموذجيا كارثيا (نسبة إلى نظرية الكوارث) يرتكز على بلورة تصور عقلاني متعال لمفهوم وأساسيات النمذجة. ومن شأن هذا التوجه الإبستمولوجي أن يعيد النظر في الأسس العقلانية الغريماسية مع "التمييز بعنياة بين نمذجة الظواهر، وتمثيل المفاهيم"(6). وقبل إبراز الملامح العامة لتصور بتيتو (1985) (أ) واستلزاماته على مستوى الاختيار المنهجي المدافع عنه في هذا القسم، بل والخلفيات النظرية الموجهة لصيغته العامة، نريد أن نقف هنا عند العلاقة الجوهرية الكاشفة عن عمق التضافر الإجرائي بين الحدود الصورية المعتمدة لدى بتيتو، ومرجعياتها الإبستمولوجية ضمن نظرية روني طوم.

1-منذ مشروع (الاستقرار البنائي وتكون الشكل) طوم (1977)، الذي حمل كعنوان فرعي/ "بخيث في النظرية العامة للنماذج"(*) برز إلى الوجود مفهوم موسع لنظرية المعرفة ولشروط قيام إبستمولوجيا عامة مسكوت عنها في أغلب الدراسات التي انضوت تحت لواء النزعة التجريبية. وقد لخص بتيتو (1987) نقود طوم على التجريبية في مأخذين متقابلين:

أ-تبعية الحقيقة النظرية للسلطة العملية للتجربة وما نتج عنها من تحويل تدريجي للعلم إلى مشروع خبرة نافذ ونشي لالتزاماته الأدبية التي يتصدرها معرفة الكائن(7)

ب-أدلجة (Idéologisation) القدرات النظرية الجديدة في شكل معرفة جديدة أو علم جديد (Nuova Scientia)(8).

وأما الطبيعة التقابلية التي يتشح بها المأخذان كلاهما وما قد ينجم عن المراوحة بينهما من صعوبة تلمس موقف نظري متجانس، فتكمن بخاصة في تناقض حدي الثنائيتين اللتين يولدهما ذانك المأخذان. وهاتان الثنائيتان هما:

أ-الفلسفة العقلانية – المعرفة التقنية المغالية(Techniciste)

ب-العلم العقلاني - الفلسفة التأملية (النظرية).

ولقد تبلور الموقف الأول قبل أواسط العقد السابع من هذا القرن، حين عرض طوم (1972) تساؤلاته حول حاضر العلم وكبيعة إشكالاته النوعية، فأوضح مأزق التجريبية الساذجة الذي وقعت فيه الدراسات التجريبية حين انساقت وراء إنماء ومراكمة أنسقة وصفية للواقع، وتغافلت عن استكناه "آليات الضمنية" (Sous-Jacents) للسيرورات التي ينصب عليها التحليل"(9). وهذا الخطأ المنذر بغربة السؤال النظري-التأملي- في بيئة المستجدات العلمية- ومحاولة اختزاله إلى مجرد نماذج كمية، هو الذي أدى إلى انحسار محاولات التفكير في مشروعية النمذجة المجردة وتضخم السبر الاختباري مع تفاحش سلطة المؤسسة العلمية التي تحتضنه(10).

إن فقدان التجريبوية لذاكرتها "النظرية يعتبر لوحده مفارقة شاذة يتعين تصحيح وضعيتها في اللحظة الراهنة ابتغاء تحليل جدلي معمق لأسئلة الهامش النظرية. ولاشك أن صنع النماذج وتداولها اعتباران أساسيان لا غنى عنهما، ولا يمكن بحال من الأحوال، في نظر روني طوم، تقييدهما بشرط المواطأة التجريبية كما تفيد مزاعم الوضعية الساذجة.

فخلافا لهذا المنحى، ما يهم "في النموذج، ليس اتفاقه مع التجربة(..) بل وزنه الأنطولوجي ((Ontologique أو إثباتات النموذج عل صعيد الآليات الضمنية للسيرورة المدروسة"(11). ويظل "اقتصاد الوصف"" معيارا أساسيا في التحقق من "كفاية الصورنة (..) والاقتصاد ذاك يصدر دائما عن فرضية، أي عن تمثل ذهني جزئي للظواهر موضوع الدرس"(12) ويمكن اعتبار ثانوية المحك التجريبي أساسا لإكساب (أو اكتساب) الشرعية (Ausweisung) وبالتالي استلزمنا من الاستلزامات النظرية لهذا المنحى.

2 - لاحظ طوم، من جهة أخرى، افتقار التنظير البنيوي لأي أساس إبستمولوجي مادام لا يؤسس انتقاده للبنيات على تبرير دينامي، وما دام سنده في تبرير انتقائه "اتفاق الخطاطة المجردة، استدلاليا، مع المورفولوجية التجريبية (أي مع المتن المستوعب للمعطيات التجريبية)"(13). وإذ تثير نظرية الكوارث هذا الإشكال الجوهري، فإنها تستأثر وحدها -في نظر طوم- بالقدرة على حله. من ثمة ينبغي النظر إلى أهمية نظرية الكوارث على أنها لا تكمن فقط في كونها مولدة للنماذج أو عملة جديدة في التعامل مع الأنساق، بل وأكثر من ذلك، في كونها تتعدى الحدود التي تؤطرها منظرية متماسكة، لتصير بمثابة منهج وأسلوب في العمل.

3 - أفضى هذا المسار الإبستمولوجي التأسيسي إلى تجسير الهوة بين العلوم الطبيعية (Naturwissenschaften) وعلوم الإنسان (Geistswissesnschaften)، وإلى اقتراح صيغة جديدة سماها روني طوم "سيميوفيزياء" (Sémiophysique). وتقوم بشكل عام على عملية نقل تركيبية أساسها تشغيل العلوم السيميولسانية في مقاربة حقول العلوم الطبيعية. وقد أثبتت هذه الطفرة الجذرية جدواها في قراءة منظومة الفيزياء الأرسطية على أسس جديدة، بعد مرحلة القطيعة الغاليلية (نسبة إلى "غاليليو" 1942).

إن القطيعة التاريخية المكرسة بين المناهج النقدية والإبستمولوجيات الحديثة تشكل -في نظرنا- عقبة كأداء يصعب اقتحامها في سياق البت في كثير من الجوانب الأساسية لنظرية الكوارث التي تشكل قطب الرحى في النموذج التكويني الذي اقترحناه وترتبط هذه الملاحظة أكثر بالمجهود الذي ينبغي بذله لفهم قضية النمذجة كما تبلورت مع بتيتو (1985) على وجه الخصوص. ولعل مظاهر تلك العقبة أن تحول دون تذليل التعقيدات والوعوائق التي يمكن اختزالها في جانبين أحدهما يتعلق باللغة الواصفة التي تأبى إلا أن تتخذ من الصورنة المفهومية الموغلة في التجريد أسلوبا، والتمثيل الرياضي المكثف أداة، مما يؤدي إلى صعوبة استيفاء الدقة في تمثل اللغة الواصفة باعتبارها شرطا أول لاستيضاح طبقات الخطاب النظري العام للمشكلة المطروحة. وحتى إن قهر الدارس هذا العائق واستوثق من موجهات الخطاب وتدبر مستغلقاته، فإنه معرض لا محالة لمشكلة لا تقل عن الأولى صعوبة، وهي مشكلة اختيار اللغة الواصفة (الثانية) الأقل تعقيدا، ولهذه الأسباب جميعها، اقتصرنا على حوصلة الملامح العامة لقضية النمذجة عند "جان بتيتو" (1985-أ)، دون الخوض في جوانبها الرياضية.

2.2.1-طبيعة البناء التركيبي للنموذج:

سنعمل على معالجة النمذجة (Modélisation) وبناء النماذج انطلاقا من مبحث "بتيتو" (1985-أ) المعنون ب: "أطروحات من أجل موضوعية سيميائية"، وفيه حاول "بتيتو" طرح مشروع تصور عقلاني متعال (Transcendantale) للنمذجة شبيه بذلك الذي نصادفه في الفيزياء(14). فعمد في القسم الرئيس من مبحثه إلى استرجاع مفهوم "طوم" للنموذج كما بسطه (G. Geymonat و G. Giorello) في دائرة المعارف الإيطالية (Einaudi). فالنموذج ليس سوى تناظر بين ظاهرة معينة (نرمز لها بحرف x) وموضوع مركب (M) هو النموذج، وينبغي أن يفي ما بينهما من الشبه بالإجابة عن السؤال (Q) الذي نطرحه بصدد (X ) ولتحقيق هذا الغرض يجب توافر هذه المجموعة من القيود:

أ - أن يكون السؤال(Q) هو المحدد لتركيب (M)

أأ - أن يكون بمقدورنا ترجمة السؤال (Q) إلى سؤال (Q) يخص ((M

أأأ - أن يكون بمقدور الإجابة ( R) التي يقدمها (M) عن (Q) أن تخضع بعد ترجمتها إلى إجابة موحدة ( R) و (Q) للتحققات والتمحيصات التجريبية (الستويغ الاستدلالي بواسطة: الإثبات-التفنيد)(15).

ويستوجب القيد (ااا) المتعلق بالتسويغ الاستدلالي النهائـي للنماذج عامة، توافر إجرامين متمايزين ومتلازمين يتعلق أولهما بالجانب اللساني في انتقاله من اللغة الطبيعية الوصفية لملاحظة (X) (أي لملاحظة الظاهرة)، إلى اللغة النظرية المصورنة للنموذج (M). بينما يتوقف الجانب الثاني المتصل بالموضوع، على معرفة استراتيجية الانتقال من ظاهرة معطاة إلى موضوع نظري-صوري مركب- Théorético Formel. ويندرج هذا القيد ضمن المحور الإبستيمولوجي بثيماته الكبرى. أما الاختيار الرياضي في هذا المستوى فيمثل حالة خاصة لكونه ينزاح بمنهجه ونوعية اقتضاءاته عن كثير من تلك المعايير والقيود. من ذلك استحالة قابلية للتجريب، وبالتالي خرقه للقيد (ااا) فضلا عن طبيعته القياسية الاحتمالية (Abductive)، إذ لا هو بالاستقرائـي ولا بالاستنباطي. وتظل هذه السمة المميزة للاختيار الرياضي مهجوسة بثقل النظري والتصوري في أبعادها الأنطولوجية الخصيبة للاختيار الرياضي لتتجلى بوضوح كثافة المنظور الظاهراتي (الفينومينولوجي). وهذا الأخير هو -حسب مفهوم "هولطون" (Gerald Holton) "ثيمة" أو اختيار إبستمولوجي مركزي في نظرية الكوارث برمتها.

ولمزيد من الإيضاح يمكن تمثيل الإجراءات الأساسية السابقة، على هذا الشكل(16):

التحقق التجريبي

السؤال (Q) الظاهرة (X)

التسويغ الاستدلالي

-التناظر (Aposteriori)

الترجمة -تسويغ الإجابة (R )

قبلي

الترجمة

السؤال (Q) النموذج (M) الإجابة ( R)

ونخلص مما سبق إلى الأهداف التالي:

-ضرورة ترييض المفاهيم (Mathématisation des concepts).

-أهمية التسويغ القبلي، وضرورة دعم الاختيار الرياضي في هذا السياق

-ما يهم في الخاصية القياسية الاحتمالية المنوه بها آنفا من حيث كونها إجراء في صوغ الفرضيات كما نص على ذلك "بتيتو" هو "علاقتها بالابتكار المفاهيمي، والخيال النظري"(17).

-إمكانية مد الجسور بين الدلالة المجردة، وموضوعية الظواهر.

-توفير الزخم الأنطلوجي بوصفه ضرورة من ضرورات النمذجة والتأسيس النظري.





1.3.1-التصور الغريماسي للنمذجة:

يعتبر (A. Gulien Greimas 1992) من أبرز منظري السيميائيات السردية، فهو إلى جانب نموذجه الشهير في نحو السرد ومارقيه، يتميز بانفتاح ملحوظ على قطاعات علوم الإنسان وإفادته منها في إثراء تصوراته، وإكسابها صبغة صورية خاصة استأثرت إلى حد كبير بعناية المنظرين الكارثيين وفي مقدمتهم بتيتو كوكوردا (1985 أ- 1985ب).

ونريد هنا أن نقف وقفة متأنية مفهوم غريماس للنموذج وفقا لمجموعة من المبادئ والتحديات النظرية التي لا تخفى تعقيداتها وخصوصياتها في الآن معا. وسنكون بهذه الخطوة الأساسية -إضافة إلى ما تقدم- قد مهدنا لجوهر هذا العمل الذي سيبلور موقفا شاملا -نسبيا- من مجمل القراءات النظرية المطروحة في مسألة النمذجة في الوقت الذي يكون فيه حقلا لانعكاساتها في مستوى نسقه واستراتيجيته المنهجية.

نحتاج قبل ذلك كله إلى سوق موجهات إجرائية صدر عنها غريماس (1966) في مقدمة كتابة: "الدلالة البنيوية/بحث في المنهج" لوثاقة صلتها بما هو آت.

لقد شكل "الإدراك" (Perception) زاوية أساسية لفهم سيرورة الدلالة (Signification) وتمظهراتها في مبحث غريماس. وهو في هذا التوجه يستند على "نظرية الإدراك" كما تطورت في فرنسا مع "ميرلوبونتي" (Merleau Ponty) بخاصة. ولئن كان قد حدد موقفه النظري من المرجعية الفلسفية في هذا الشأن، فإنه لم يحدد دينامية التفاعل المحايث بين الآلية الإدراكية والآليات الدلالية، وأبعادها الإشكالية العميقة، بل اقتصر على التماس التعضيد المناسب لموقفه هذا في ظل متغيرات العلوم الإنسانية الأخرى؛ محيلا مثلا على النموذجين السلوكي والجشطلتي اللذين شكلا ردة فعل إزاء الذرية الترابطية (Atomisme Associatonniste)، وحلا محل سيكولوجيات "الاستبطان" و"الملكات". ويمكن تأويل ميله -في السياق نفسه- إلى تبئير الإبدال الإدراكي للأثر الأدبي في مجال تفسير الظواهر الجمالية، بقصور التمثيل المفهومي لكيفية اختمار واشتغال المكون الإدراكي في صميم البنيات الدلالية. ولعل وجاهة هذه الملاحظة تستبين بشكل واضح في حد علم الدلالة (Sémantique) لديه؛ حيث لا تخرج -في نظره- عن كونها "محاولة لوصف عالم الخواص المحسوسة"(18).

إن ترسيخ(*) الإدراك في النظرية الغريماسية لا يعفيها من طابع "الإغضاء عن الموضوع" (Ignoration elenchi) حيث تظل إبستيمية الإدراك مفصولة عن أي علاقة ممكنة بالبنية الدلالية المحايثة. على أن إصرار غريماس على طائلة التحليل الكيفي ووروده بإلحاح قوي في توصيف الظاهرة الدلالية، مؤشر جد إيجابي على فهم الإبدالات النوعية في الرؤية الإبستمولوجية الراهنة. وأحد تلك الإبداعات الأساسية، إغناء مجال تبني وممارسة التحليلات الكيفية بالنظر إلى مساهمتها في "سد الثغرة الحاصلة حاليا بين علوم الطبيعة التي درج العلماء على اعتبارها علوما كمية، وعلوم الإنسان التي -رغم المظاهر المخادعة- تظل علوما كيفية"(19). وهنا يلوح تقارب ملحوظ- رغم اختلاف منطلقاته- بين التصور الغريماسي ومشروع روني طوم الآنف الذكر.

وبعد هذا التمهيد أريد هنا أن أقف وقفة متأنية عند مفهوم غريماس (1979) للنموذج وفقا لمجموعة من المبادئ والتحديدات النظرية التي ستكون لها انعكاسات هامة على الإستراتيجية المنهجية للنموذج التكويني الكارثي المقترح.

-يستند القاموس المشترك لغريماس وكورتيس (1979) على تصور خاص لمفهوم "النموذج" وجهازه المفاهيمي:

(ا)-فالنظرية بالنسبة إليهما تركيب "أو بناء متماسك وقابل للتحقق يتوسط بين المفاهيم اللامعرفة ((Indéfinissables، ومواجهة المعطى التجريبي"(20). والنظرية بأوسع مفهوم "تراتبية من اللغات الواصفة التي تتدرج من مستوى الظواهر التجريبية إلى لغة الوصف والمفاهيم الإجرائية: فاللغة المنهجية المسوغة للتوصيفات، فاللغة الإبستمولوجية في آخر المطاف" وهذا المستوى الأرقى درجة والمشتمل على المفاهيم اللامعرفة والفرضيات التي لا يقام عليها دليل، يتموضع كنسق من البديهيات التي لا تقبل البرهنة أو: (Axioma).

(اا)-والمستوى المنهجي يتمثل في "تحليل المفاهيم الوصفية (كمفاهيم العنصر والوحدة والفئة والمقولة الخ) وتحليل الإجراءات (أو الطرائق: التعيين، التقطيع، الاستعاضة، الإبدال، الخ) وهي الطرائق الإجرائية التي تتيح التمثيل النظري للموضوع (أي وصفه)" ويحيل نعت "الإجرائية" على ممارسة الفعل العلمي (Le faire scientifique) الفعال حسب الظاهر" سواء أتعلق الأمر بمفهوم ما أو قاعدة أو غيرهما، رغم كونهما غير محددين بصرامة كافية.

(ااا)-أما المستوى الإبستمولوجي فيشكل من حيث هو فعالية تحليلية البديهيات والفرضيات وجرد للمفاهيم اللامعرفة المذكورة "سمة جوهرية لكل نظرية صلبة المبنى".

(Vا)-قوام البناء (Construction) "لغته الواصفة الكاشفة تدريجيا عن النظام المحايث للأشياء". والبناء يندرج ضمن فاعلية الذات العارفة (الذات الإبستيمية الجماعية)، ومن ثم فإنه معرض لأن يلتبس بالوصف، وهذا الخلط قد يرتفع إذا تبين أن الموضوع المبني لا يكون كذلك إلا إذا دل على أو وصفه يتم عبر لغة واصفة مبنية أيضا.

((V-بناء لغة (واصفة للبناء) إنما هو التمثيل المنطقي الدلالي المرتكز، بشكل عام، على "تأويل رموز اللغة الصورية"…

(اV)-اللغات الواصفة (أو الشارحة) التي يجري توظيفها في الوصف، متمايزة عن لغات التمثيل (Langages de représentation) التي تمظهرها وتجليها. وليس متعذرا إمكان توافر "تمثيلات مختلفة "لواقعة" واحدة".

(ااV)-الصورنة (Formalisation) "نقل للغة الشارحة المتعلقة بالوصف إلى اللغة الصورية" وعليها المعول في روز "تماسك النظرية واستخلالص النتائج". والصورنة "لا تتدخل-مبدئيا- إلا في المقام الأخير بعد أن تكون النظرية قد اكتمل بناؤها المفهومي من قبل".

(اااV)-"يتسم الصوري بتقابله مع المضمون" و"النسق الصوري نسق اصطلاحي" أي هو عبارة عن "حساب رمزي غير ذي دلالة". وإن اعتبار كونه "خلوا من المعنى" و"متعلقا بشكل المفهوم" حسب تعبير هيلمسليف ومتطابق الوجهين: "التعبير/المضمون" الخ، كل ذلك يجعله معدا لأن "يؤول دلاليا".

(Xا)-النماذج -في نظر غريماس- هي بمثابة ممثالات ((Simulacres مؤسسة تتيح تمثيل مجموعة من الظواهر. وبتعبير آخر، هي بناءات مجردة وافتراضية يتم استخلاصها من النظرية في إطار المنهج الافتراضي-الاستنباطي، وتنجز في نطاق لغات تمثيل ملائمة، كما يلزمها أن تلبي شرط "مطابقة مزدوجة": مطابقة، من جهة، للنظرية (استنباط)، ومطابقة للمعطيات التجريبية من جهة ثانية (إثبات/تفنيد أو دحض)".

((X-في إطار لغات التمثيل "تخصص النماذج" (…) الملفوظات المستنبطة من المفاهيم اللامعرفة ومن بديهيات النظرية". وتضطلع تلك الملفوظات بما هي "إجراءات استكشاف Procédures de découverte)" بوظيفة أساسية:-فإذا كانت إجراءات الوصف مؤدية إلى بناء اللغة الواصفة، فإن "إجراءات الاستكشاف"، تلك، صيغ صريحة (Explicites ) للعمليات المعرفية (Cognitives) المؤدية إلى إجراءات الوصف". ونظرا لخاصيتها الإجرائية، فهي تقتضي تقويما مزدوجا؛ تقويما أول من الناحية المنهجية، وتقويما ثانيا من الناحية الإبستمولوجية: [أي (اا) و(ااا) آنفا].

2.3.1-مناقشة:

مهما يبدو جليا انخراط غريماس في "الحساسية الإبستمولوجية الجديدة" المجانية للدوغمائية التجريبية، فإنه ما برح يصالح في أكثر من موطن وكما تشف عن ذلك مواقفه المتأخرة-حتمية مبدأ الاتفاق التجريبي/النظري. ولاشك أن هذا المبدأ يعكس مفهوما معينا يجافي حقيقة التحولات التي غيرت أطر النظريات و أنساقها. إن الحساسية الجديدة تنقل مسألة المطابقة التي تقدم تحليلها، من أفقها المعياري الضيق إلى أفق يحتفظ للسبك النظري بكيانه النوعي الخاص. معنى ذلك أن النظريات "التي بلغت درجة من العمق التفسيري في مجال محدود، يجب ألا تنحى بمجرد تقديم الحجة على أنها تتعارض مع التجربة كما تظهر في الإحساس العادي، ويجب أن يتوفر الاستعداد عند الباحثين لاحتمال أن تظهر بعض الظواهر بدون تفسير"(21). وحتى الرياضيات التي تمثل أرقى أدوات الصورنة إلى حد جعل طوم يقرر أن "التنظير الوحيد الممكن ذو طبيعة رياضية"(22) كانت إلى حدود القرن الماضي باعثة على ترسيخ الدور الافتراضي لمبادئها حيث "لم يعد بالإمكان التمييز بين المبادئ الرياضية على أساس أن بعضها أصدق من بعض أو أكثر وضوحا، وإنما أصبحت هذه المبادئ(..) مجرد فروض بالمعنى الرياضي للكلمة، أي أنها توضع وضعا، ولاتكون قط موضع إثبات، ولا يخامر واضعها شك في أنها توضع خارج الصدق والكذب كمجرد قرار واتفاق"(23). وقد تمت، من جهة أخرى، بلورة جملة من المواقف الإبستمولوجية النقدية إزاء نسيج العلائق اللامتكافئة بين العلوم الطبيعية-التي تريد لنفسها أن تكون نموذجا أصليا (Prototype) وبعض العلوم الإنسانية (مثل التحليل النفسي)، مع إعادة النظر -منهجيا- في الأحكام القاسية الصادرة بهذا الخصوص.

إن مشروعية النماذج -في تقدير غريماس- تأتي من "مطابقتها للنظرية و/أو التجربة"(24). وأي نموذج، على هذا الأساس، ليس سوى "ممثال" ينتظر منه أن يعمل جاهدا على تنحية "المضمون أو المحتوى الأنطولوجي".

إن نعت "المشروعيى" الذي يجرد على النماذج المستجيبة (أو المتوقع منها أن تستجيب) للمبدأ المذكور آنفا، يساعدنا على فهم الافتراضات التي تحكمها، وتكوين نظرة عن الكيفية التي تؤسس النظرية-في ضوئها- نظام تحديداتها الذاتية: -فحين نعلم متى "يكتسب" نموذج ما مشروعيته ومتى "تجرد منه"، نستطيع أن ندرك الحدود المرسومة له، ونطاق قدرته أو كفايته التحليلية. وفي وفرة من الحالات، يصير السؤال عن المشروعية سؤالا عن الماهية نفسها بإيحاءاتها وظلالها الإيديولوجية. فإذا افترضنا مثلا أن على قول علمي معين (Enoncé Scientifique) أن يخضع - إذا أراد استحقاق علميته- لقاعدة تلزمه بالاستجابة لمجموعة من الشروط الضرورية، فحينئذ تكون المشروعية "تلك السيرورة التي بإيعاز منها، يباح للمشرع (Législateur) الذي يدرس الخطاب العلمي، سن الشروط ذاتها إلى هذا الخطاب، ويحظى بقيمة اعتبارية لدى الأوساط العلمية"(25). وتنقلب المشروعية -بهذه الصورة- إلى مفهوم يجد تفسيره في ظل المؤسسة وأجهزتها الايديولوجية، وتصير المعرفة والسلطة وجهين لسؤال واحد هو: من يقرر ما يكون معرفة، ومن يعرف ما يجدر تقريره؟(26).

لقد أوضحنا، في هذه الفقرة، الإقصاء الذي يطال "المحتوى الأنطولوجي" في النظرية الغريماسية. ولئن ارتكزت سيميائيات غريماس على مبدأ "الاستقلال الأنطولوجي للشكل السيميائي، واعتباره شكلا (Gestalt) وبنية دالة"(27)، فإنها تتذرع بإقصاء البعد الأنطولوجي لتسويغ كثير من الإجراءات (ومنها، على سبيل المثال، " الحفاظ على إجرائية مفهوم البنية"(28)). وقد أبرز بتيتو كوكوردا(1985) حدة المفارقة الناشئة عن حاجة النظرية السيميائية إلى لحظة التأسيس الأنطولوجي الموضوعي، وتبرم غريماس بها تحت ضغط ضرورات شكلية صرف تمليها اعتبارات خارج النظرية أكثر مما تمليها شروط بنائها الداخلي.

1.4.1-النمذجة في نظرية الأدب:

يمكننا إجمال أساسيات البناء المنهجي في النموذج التجريبي، فيما يلي:

أ - المنطلق الافتراضي

ب - بروتوكول التحضير مع تحري الدقة والشمولية

ج - بروتوكول التجربة

د - قابلية التحقق (Vérifiabilité)

هـ - قابلية إعادة الإنتاج (Reproductibilité) بما يتيح استخلاص القانون.

و - الشرط التداولي (Pragmatique) (الفائدة النظرية أو التطبيقية)(29).

ويتتبع عمليات بناء النماذج في نظرية الأدب، نلاحظ أن بعضها يوفر العناصر: أ-د-و، السالفة.

ففي سياق تأسيس "علم الأدب التجريبي" (Emprischen Literaturwissenschaft)، اقترح "شيغفريد شميت" (Siegfried J. Schmidt) نموذجا سماه "تجريبيا" (Empirisch). وهو يقوم على توسيع نطاق إجرائية مجموعة من المفاهيم والآليات ضمن نظرية جديدة هي ما اصطلح "شميت" على تسميته "بنظرية الأفعال". ويشكل مفهوم الأدب أحد المتغيرات الأساسية في هذا الاتجاه لكونه -وفقا للتشغيل التجريبي- لم يعد مؤشرا على "تلك المجموعة المحددة من النصوص المنطوية على خصائص متميزة"(30)، بل اتسع باعتباره كلا مركبا- ليستوعب "المجموعة الكلية من السيرورات الاجتماعية والجوانب المتعلقة عموما بالحياة الأدبية"(31)، وهكذا يتحول مفهوم "الأدب" -في منظور التجريبية المؤسسة- إلى "منظومة اجتماعية فرعية (Social Subsystem) يتعامل أعضاؤها (العوامل Actants) مع الموضوعات أو النصوص التي يعتبرونها أدبية"(32). ودون الخوض في تفريعات نظرية الأفعال، من الملاحظ على نموذج "شميت" كونه يشدد على قابلية التحقق من بعض المواضعات ذات الخاصية الافتراضية (hypothétique) والتقريبية)(33)، ويعيد بناء المرجعية السوسيولوجية والسيكولوجية. وفي هذا الإطار، وإمعانا في توسيع القاعدة المفهومية لسياق القراءة، يتبنى مفهوم "منظومة السامع/المتكلم القبشرطية" (Varus et Zungssystem)، وهي عبارة عن نسق من الأطر المتحكمة في آليتي المقاربة النقدية، والتلقي معا -و"يتضمن كل الشروط التي اكتسبها المتكلم/ السامع على امتداد عملية التكيف الاجتماعي عند الانخراط في المقام التواصلي"(34). والواضح أن المفهوم الجديد/القديم، يأتي استجابة لدافع استراتيجي يهدف إلى تقنين شروط الفعل التواصلي بصورة عامة، تمهيدا لإجراء المطابقة التجريبية مع مرجع الخطاب (النقاط: د، هـ، و، سابقا)، أو المصادرة على تجانس الأفق التواصلي مع شروطه المرجعية (سمة القصدية)(*).

مقابل هذا النوع من النماذج التجريبية، توجد نماذج نظرية تقيم علاقات إنتاجية وتخصيبية مع موضوعاتها في نطاق الحرص على:

أ - الإصغاء المرهف للأسئلة النظرية (دعم خصوصية البناء الافتراضي)

ب - تبئير بنية المفارقة والمشابهة

ج - تكثيف الصيغ الاستعارية للخطاب الواصف كبديل عن لغة الوقائع والتطابقات

د - الانسجام الداخلي بين مكونات النموذج

هـ - توسيع حركية المعنى عن طريق تبسيط الوصف (إغناء المستوى التوليدي للنموذج)

و - إبدال آلية التحقق التجريبي بالحمولة الأنطولوجية-الفلسفية.

ونضرب مثلا على ذلك بمقترح "جان كلود غاردان" (J. Claude Gardin)(1982). ففي دراسة موسومة "بالقراءات الجماعية وعلوم الأدب الفريدة"(35)، يسعى "غاردان" إلى طرح مقترح نظري يرتكز على الدعوة إلى أفق علمي للأدب يقوم مقام النقد أو لتفسير الكلاسيكي للنصوص الأدبية. وتتحدد ملامح هذا الأفق بخاصة في توظيف جهاز تحليلي جديد فضلا عن الاستناد على مناهج أكثر تمفصلا. والأثر في ضوء هذا التوظيف يغدو "موضوعا مجردا يسمى نصا". ولا يتعين الإمساك بجوهر أو معاني هذا الموضوع إلا "بواسطة إجراء تحويلي ينبني على عمليات متتالية لإعادة الكتابة تنطلق من النص -المصدر (الأثر) لتنتهي إلى النص- الهدف (تفسيره)"(36). ويذهب "غاردان" -لمزيد من إيضاح مسعاه النظري- إلى افتراض أسس صورية للجهاز التحليلي يصار بمقتضاها إلى عملية الانتقال من وضع أولي يسميه متنا [ مجموعة من النصوص يؤشر عليها بحرف (م)]، إلى وضع هو خلاصة الفعاليات التأويلية يؤدي إلى ما يسميه "غاردان" بناءا علميا" (Construction scientifique) [يؤشر عليه بحرف (ب)]، ومدار الممارسة على "تحديد متوالية من العمليات الخطابية التي إن هي طبقت على (م) تتأدى إلى توليد (ب)"(37). ويفرز هذا الإجراء ما يمكن أن يسعف على "الإمساك الواثق بالأسس الصورية للتحليل الدقيق والحدود التجريبية لمشروعيته"(38). ويظل الذكاء الاصطناعي إطارا مرجعيا يؤمل منه أن يكشف عن "الموسوعة الضمنية" التي "يتعذر بدونها تسويغ بله فهم عملية الانتقال من (م) إلى (ب)"(39). ونستطيع باستقراء "الموسوعات المحلية" بشكل عام أن نفحص الخواص التي تستضمرها الأجهزة التحليلية وما يمكن أن ينعقد بينها من علائق وصلات أو فوارق واختلافات. ومن ثمة يظهر الدور الأساس الذي ستنهض به هذه الموسوعات المحلية لتزويدنا بقاعدة مرجعية ملائمة للمقارنة بين التحليلات تشمل "أنظمتها المنطقية-الدلالية"(40) [ التي يرمز إليها بحروف (أم د)]. وتتجاوز الوظيفة الموكولة إلى هذه الأنظمة تخصيص الفرادة النوعية لكل موسوعة على حدة عن كريق إبراز "مضمونها الدلالي وبنيتها المنطقية"(41) في صيغتها الفردية إلى صيغة جمعية تستوعب تشكيلة من الموسوعات المحلية. ويمكن -في تصور جان كلود غاردان- بناء أنظمة منطقية- دلالية أكثر شمولية بحيث يشكل مجموع الموسوعات المحلية "دعامة التفسيرات المختلفة المتعلقة بالأثر نفسه"(42). كما يمكن أن تستغرق الـ (أم د) ليس فقط الرؤى والمنظورات النقدية المتضاربة بل أيضا ما يتولد عن تركيبة العناصر المستقاة من هذه التفسيرات أو تلط، من رؤى وتصورات أخرى مضافة. وبذلك ينظر إلى تفسير النصوص "كمتوالية من الاختيارات ضمن مجموع الاستدلالات أو الاشتقاقات الممكنة انطلاقا من (م)، تفضي إلى بناء ما من جملة بناءات. وتشكل هذه الاختيارات أساسها الوحيد في نهاية المطاف"(43). ولئن تم استيفاء المكونات الضرورية للتأسيس النظري في مقترح "غاردان" فإنه يلبث مع ذلك مشوبا ببعض القصور الذي يتجلى في افتقاره إلى قاموم ملائم لتقويم البناءات. وهو قصور التمس "غاردان" تغطيته عن طريق تبني فكرة "جيلبير ديران" (Gilbert Durand) عن كبيعة الإجراء التقويمي في علاقته الوثيقة بالمستوى التوليدي للنموذج. "فالقيمة المعرفية للبناء إنما تقاس بقدرته التوليدية وطبيعة مفعولاته"(44). يضاف إلى ذلك مشروعية اختيار مبادئ خاصة تستلزمها طبيعة البناءات العلمية التي تقرب (م) وتعيد صوغه في نفس الآن. على أن الحسم في حدود تعددية القراءات يبقى مع ذلك مثار تساؤل مادام يهم -في نظرنا- ماصدقية الأنظمة المنطقية-الدلالية المذكورة أكثر مما يتعلق بمشروعية القراءات ذاتها. إنه تساؤل جوهري يستدعي توافر مجموعة من الافتراضات الجديدة لا سيما إذا علمنا درجة الصعوبة التي تكتنف إثبات الضوابط الإجرائية الخاصة بنوعية المنظورات الممكنة لكل (م)، ونوعية المقاربات التي تشتغل عليه، وقد حاول "غاردان" الحد من تلك الصعوبة بافتراض البحث عن القوانين التي تحكم الاستثناءات ضمن الموضوعات المفردة للمجموع المتعدد. فإذا كان من المتعذر تصور مجموع بدون أفراد من الموضوعات، فيكون من الصعب تصور علم يقام على أساس موضوعات مماثلة إلا إذا سعى "إلى البحث عن القوانين التي تحكم الاستثناءات"(45). وهنا تكمن إحدى مظاهر إنتاجية السؤال النظري.

إن مقترح "غاردان" يؤطره هاجس البحث عن مفهوم جديد للتلقي يصاغ في ضوئه نموذج هو "نموذج العلم الاسترجاعي" ((Science rétrospective فهذا الأخير يبدأ من حيث ينتهي القارئ. وهاجس من هذا القبيل، لا ينفي الإمكانية النظرية -على الأقل- لافتراض وجود "قارئ مثالي -أنى تعددت مظاهره وتسمياته- يكون سلوكه موضوع العلم الأدبي"(46).

الهوامش

1 - Modèle in Encyclopedia Univeralis (op.cit) vol(10) p(121).

2 - Les critères de vérité dans la recherche scientifique (ouvrage collectif) du colloque de (A.P.U.G) Moloine S. a éditeur 1983 Paris France. P (182-183).

3 - المرجع الأسبق ص (125-127)

4 - موريس كلافلان: العقلانية والتقدم في مج، الفكر العربي المعاصر. ع64/65، ماي/يونيو 1989، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان- ص(105).

5 - Jean Pierre Changeux: Modèle et mémoire 1988 Ed. Bedon. Paris France p(44).

6 - Jean Petitot: (Thèses pour une objectivité sémiotique) in: Degrés (Revue) 3ème année/N° 42-43 - 1985(A) Bruxelles p (g1) (pagiation par lettres).

(*) René THOM: Stabilité structurelle et morphogénèse. Inter Editions 1977.

7 - Jean Petitot - Cocorda: René THOM et SA (T.C). Universilia (1987) Ency. Univ. France - S.A. p.(638).

قارن بمارثن هيدجر في مقاله "فكرة الظاهراتية والعودة إلى الوعي" (1927) الذي نادى فيه بقيام سيكولوجية صرفة تحيل بما هي علم وضعي للوعي، على العلم المتعالي للذاتية الصرفة. ولأنها "علم وضعي" فإنها "لن تعنى بالمسألة التي تخص بالطريقة نفسها كل العلوم الوضعية، وهي مسألة معنى الكينونة بالنسبة إلى قطاعاتها الأونطولوجية الخاصة" ص(56) من:Cahier de l'Heure: Martin Heidgger. Ed. De l'herne 1983 Paris - France.

8 - بتيتو (1987) ص (638).

9 - René THOM: (La science malgré tout..) in Encyclo. Univ. vol (17). Organum. Novembre (1973). France. P(7).

10 - Tito Tonietti: Catastrofi. 1983. Edizioni Dedalo. Bari. ITALIA. Pp (176-177).

11 - طوم (1973) ص (7)

12 - (ون) (ص ن)

13 - (من) ص (8)

(*) ينظر باستفاضة مشروعنا العلمي لتأسيس نموذج بنيوي دينامي ضمن رسالتنا الجامعية: "الخطاب التكويني/محاولة في تأسيس نموذج" مرقونة بكلية الآداب - جامعة محمد الخامس.

14 - بتيتو (1985) (أ) ص(1 g)

15 - (م ن) ص (10 g)

16 - (م ن) ص (10) g

17 - (م ن) ص (11) g

18 - J.A Greimas: Sémantique structurale (Recherche de méthode) 1966. Ed. Larousse. Paris. France. P (9).

(*) مفهوم الترسخ كارثي

19 - المرجع السابق (ص ن)

20 - بتيتو (1985-أ) (م.م) ص(13 (gويجدر التنبيه إلى أننا اعتمدنا أساسا على هذا المرجع (الصفحات (13) (14) (15 g) ) في صياغة مفهوم النموذج عند غريماس وكورتيس ) من

( i) إلى (X)) فالجمل الواردة بين مزدوجتين مقتبسة من هذه الصفحات.

21 - عبد القادر الفاسي الفهري: اللسانيات واللغة العربية (نماذج تركيبية ودلالية) الكتاب الأول (1985) ط (1) دار توبقال الدار البيضاء (05) المغرب ص (26).

22 - طونييتي (1983) ص (166).

23 - درس الإبستيمولوجيا: عبد السلام بنعبد العالي وسالم يفوت (1985) ط (1) دار توبقال-الدار البيضاء المغرب ص (87).

24 - بتيتو (1985) (م.م) (16 g) و (IX) انفا.

25 - Jean François Lyotard: la condition postmoderne (1979) Ed. De Minuit Paris pp. (19-20).

26 - (م ن) ص (20).

27 - J. Petitot: Morphogenèse du sens. Tome (1) - 1985 (b) P.U de France. Paris. France p. (269).

28 - (م ن) ص(271).

29 - René THOM:Apologie du Logos (1990) Ed. Hachette. Paris. France p. (609-610).

30 - Jan WIRRER: Toward an empurical theory of literature, in Semiotica 52-1/2-1984 Mouton Publishers Amsterdam. p.(131).

31 - (م ن) (ص ن)

32 - ( ص ن)

33 - (م ن) ص(135)

34 - (م ن) ص(134).

(*) هناك من لازال يقصر شرط "قابلية التحقق" (د) على العلوم التجريبية وحدها (انظر مثلا "هايكوتنر" (Heide Göttner) في مقاله "مناهج نظريات الأدب" ضمن العمل الجماعي (نظرية الأدب 1981): مع أن "كوتنر" مضى في الدراسة نفسها يسائل نظرية جاكسون بناءا على هذا الشرط (ص 19-20) بل استند عليه في إثبات صفة العلمية لنظريات الأدب! (ص26)). والواقع أنه حتى بالنسبة للنماذج التجريبية في نظرية الأدب، يتوافر شرط التحقق بصيغة من الصيغ، على مستوى النسق المنهجي.

من تجلّيات النّزعة العقليّة عند الجاحظ


1- منزلة العقل وقيمته عند الجاحظ :

- إعلاء الجاحظ ألمعتزلي من شان العقل إذ يعدّه ميزة ميّز الله بها الإنسان عن سائر المخلوقات من البهائم و الجمادات و فضيلة كرّمه بها.
- العقل أداة المعرفة و وسيلة الإنسان إلى اكتساب العلوم وبقدر اتساع حاجة المرء إلى المعارف وارتقائه فيها يكون اتساع عقله وارتقائه. فالعقل و المعرفة لهما عند الجاحظ طابع وظيفي .
- العقل حكم على صحة العلم بالمدركات أي أن الحواس لا تكون حجّة على العقل لكن العقل حجّة عليها فهو الذي يؤيّد حكمها أو يفنّدها. فعلوم العقل هي الحاكمة على علوم الإدراك الحسي :" فلا تذهب إلى ما تريك العين واذهب إلى ما يريك العقل . و للأمور حكمان حكم ظاهر للحواس وحكم باطن للعقول والعقل هو الحجّة ". لذلك فإنّ الدليل السمعي تابع للدليل العقلي عملا بمبدإ أسبقية العقل على النّقل الذي آثرته المعتزلة.
- بالعقل يتوصّل إلى معرفة الظواهر الطبيعية من حوله وأحوال الاجتماع الإنساني و الأخلاق والقيم فيتبيّن حكمة الخالق في خلقه كما يتبيّن الخير والشّر فيكون العقل سبيلا إلى التوصّل إلى حكمة الخالق ومعرفة ما أودعه الله في الكائنات من بدائع الخلق و وضوح البرهان "اعلم أنّ الجبل ليس بأدلّ على الله من الحصاة ولا الفلك المشتمل على عالمنا هذا بأدلّ على الله من بدن الإنسان وأنّ صغير ذلك ودقيقه كعظيمه وجليلة ولم تفترق الأمور في حقائقها وإنّما افترق المفكرون فيها " . كما قال :" فإيّاك أن تسيء الظّن بشيء من الحيوان اضطراب الخلق ولتفاوت التركيب و لأنه مشنوء في العين أو لأنه قليل النّفع والرّد فإنّ الذي يظن أنّه أقلّها نفعا لعلّه أن يكون أكثرها ردّا فإلاّ يكن ذلك من جهة عاجل أمر الدنيا كان ذلك في أجل ثواب الدّين وعقابه فهما باقيان و منافع الدنيا فانية زائلة". كما يقول في سياق حديثه عن خمسة أشياء يعتمد عليها في أداء البيان بعد إيراد الأربعة "الأولى: " والخصلة الخامسة ما أوجد من صحّة الدّلالة وصدق الشهادة ووضوح البرهان في الأجرام الجاهدة والصامتة والساكنة ..." . و يقول متحدّثا عن الحكمة من خلق بعض الحشرات :" فأما خلق البعوضة و النملة والفراشة والذرة والذباب و الجعلان واليعاسيب والجراد فإياك أن تتهاون بشان هذا الجند...
وفيها معتبر لمن اعتبر وموعظة لمن فكّر وصلاح لمن استبصر....وحجة صادقة وآية واضحة وسبب إلى الصبر والفكرة وهما جماع الخير في باب المعرفة و الإبانة. وفي باب الأجر وعظم المثوبة"(الحيوان).

- الإنسان مسؤول عن استخدام ميزة العقل التي ميزه الله بها لحكمة بالغة وتوظيفها في اجتلاب الخير وإطاعة أوامر الخالق وفي اجتناب الشر والمعصية ليفوز بالسّعادة في الدنيا والآخرة. ويقول مخاطبا :" فإنّك مسؤول عن هذه الفضيلة لأنها لم تجعل لعبا ولم تترك هملا".
فالعقل وسيلة الإنسان للاختيار و الاختبار وأداته لتمييز الخير من الشّر وبذلك يصبح العقل ضرورة من ضروريات التكليف الإلهي نابعة من الإيمان بمسؤولية الإنسان عن أفعاله .
- العقل سلاح حارب به الجاحظ الكثير من الأوهام و الخرافات و الاعتقادات السّاذجة وغير ذلك من الظواهر التي لا تخضع للمنطق مما كان يلتبس بالعلم و المعرفة في المروريات و الأخبار ولعل من ابلغ الأمثلة على هذا ردّ فعله على ذلك الاعتقاد الشائع بين أوساط المسلمين إلى يومنا هذا عن الحجر الأسود الذي نزل من الجنة ابيض ثم اسود من أفعال المشركين حين ذكر أنّه كان يجب أن يبيّضه المسلمون حين اسلموا (راجع البستاني"الروائع"-عدد19 -ص-525).
-على الرّغم من أن الجاحظ يعد أحد أبرز أعلام الفكر الاعتزالي حتى صار له مذهب يسمى باسمه "الجاحظية" (يقوم على جملة المبادئ حاول فؤاد البستاني تلخيصها في أحد الأعداد التي خصّصها لكتاب الحيوان ضمن سلسلة"الروائع "العدد19 ص520-522).فإنّ غلبة العقل عليه وفكره الموسوعي وثقافته الإنسانية الشاملة المتنوعة المشارب و المصادر جعلت الرجل لا يتقوقع في حدود مذهب بعينه فتنحصر رؤاه فيه بل نجده يأخذ بالرأي لما يرى فيه من صواب ومنطق مهما تكن الفرقة التي نادت به ولعل هذا ما جر عليه انتقاد ابن قتيبة إذ قال في ذمّه إنّه :"يحتجّ مرة للعثمانية على الرافضة ومرة للزيدية على العثمانية وأهل السنة...ّ" بالإضافة إلى أخذه عن الفلسفة اليونانية ولاسيما منطق أرسطو الذي تشبّع به و سعى إلى تطويعه لثقافة عصره بما يؤيد الشريعة الإسلامية و لا يتعارض معها.(نجد ملامح هذه النزعة إلى الأخذ من مذاهب عدة عند المعتزلة بعامة فقد أخذوا القول بالاختيار ومسؤولية الإنسان عن القدرية و أخذوا القول بنفي الصّفات وخلق القرآن عن الجهميّة ومبدإ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من الخوارج فلم يجدوا غضاضة في تكوين مذهبهم على أساس انتقاء الأفكار الرشيدة السائدة في عصرهم المستوحاة أصلا من الإسلام و التي صاغوها في مقولات فلسفية مستفدين في ذلك من التراث العالمي وعلى رأسه الفلسفة الإغريقية. ولعل هذا ما حدا ببعض الدّارسين إلى الحديث عن"توجه إنساني" في تفكيرهم .
- على أنّه يعترضنا في ثنايا كتابات الجاحظ الموسوعية – وخصوصا كتاب "الحيوان"- العديد من الأخبار والرّوايات و التعليلات التي تخالف العقل و المنطق مثل قوله أنّ نهر مهران السّند (وهو نهر الهندوس الذي ببلاد الهند) مصدره نيل مصر وقد استدلّ على ذلك بوجود التماسيح فيه مما جعل جغرافيّا كالمسعودي ينتقده لقلّة أسفاره وتقرّيه الممالك (انظر مقال شارل بيلا"الجاحظ" في دائرة المعارف الإسلامية) ومن أمثلة ذلك أيضا حديثه عن الذّباب الذي يخلق من التّعفن ومن الباقلاء إذا عتقت في الأقباء وعن الفراش يخرج من تحت صمامة الآنية المنغلقة حين يقول في حكاية الشيخ و الباقلاء(الحيوان):"وقد علمنا أن الإنسان يأكل الطعام ويشرب الشراب وليس فيهما حيّة و لا دودة فيخلق منها في جوفه ألوان من الحيّات و أشكال من الديدان من غير ذكر ولا أنثى ....و بعد فنحن ننزع الصمامة من رؤوس الآنية التي يكون فيها بعض الشراب فنجد هناك من الفراش ما لم يكن عن ذكر و لا أنثى....و إنّما ذلك لاستحالة بعض أجزاء الهواء وذلك الشّراب إذا انضمّ عليه ذلك الوعاء...ّ" وأشباه ذلك من المعلومات التي تبدو لنا اليوم أوهاما و خرافات لكنها كانت في عصر الجاحظ وظلّت لقرون طويلة من بعده من روايات العلماء كما هو الحال بالنسبة لإسقاط القول"بالتولد التلقائي" مما لم يتوصل العلم إلى إنكاره إلا في القرن التّاسع عشر الميلادي على يد لويس باستور لذلك فلا بد من وضع الآراء و التّمحيصات العلمية للجاحظ في إطارها التاريخي من تقدم العلوم في ذلك العصر. ويظلّ الجاحظ –على الرغم من ذلك- المفكّر العقلاني الذي سلّط العقل حكما على سائر ما يعترضه من قضايا بما في ذلك المسائل الاعتقادية التي أراد أن يكون العقل حجّة لها تؤيدها و لا تتعارض معها لأنّ الغاية من العقل هي الإيمان والبرهنة على حكمة الخالق.
2- مصادر المعرفة :
أ-المصادر النّقليّة:
لقد كان حرص الجاحظ على تحصيل الحقيقة و اكتساب المعرفة شديدا , يقلقه " قلقا معرفيا " و "فكريا " و يحمله على البحث , و التقصي , و الارتحال و التنقل سعيا حثيثا خلف مصادر المعرفة. لذلك حفل الحيوان –شأنه في ذلك شأن باقي مؤلفات الجاحظ –بالأخبار المختلفة يلتقطها من مختلف المصادر : مشافهة أو تدوينا , من القرآن و الحديث, و من متون النصوص الفلسفية ( أرسطو مثلا) أو الأدبية (نصوص الشعر العربي قديمه , و نصوص النثر أمثالا مذكورة و اقوالا مأثورة). كما حرص الجاحظ على أن يتلقف الأخبار من أفواه العامّة و الخاصّة , و أصحاب العلم , و أهل المعرفة و الدّراية : أهل الذكر و الاختصاص . فلم يتوان عن السؤال و الأخذ عنهم , و هو أمر مكّنته منه "شعبيته " إذ بقدر تقربه من الخاصة , كان كثير المخالطة لعامة الناس من ملاحين, و صيادين , و حوائين , و غيرهم ... ممن توطّدت صلتهم بالحيوان و اتصلت أسبابهم بأسبابه . و قد مثّلت الأخبار بالنسبة الى الجاحظ مصدرا من مصادر المعرفة لا غنى عنه , بل إنّ اهتمامه بالخبر جعله يمثله على جهة الضرورة و اللزوم بلذّة العشق الدّاعية الى التناسل , قال " و لولا حلاوة الأخبار و الاستخبار عند الناس , لما انتقلت الأخبار و حلت هذا المحل . و لكن الله عزّ و جل حبّبها اليهم لهذا السبب , كما جعل عشيق النساء داعية الجماع , و لذة الجماع سبيلا للنسل ".(الرسائل).
ب- المصدر العقلي:
لقد تأثر الجاحظ بنزعته المعتزلية , و بدا ذلك جليّا في منهجه العلمي الذي سار عليه و هو يجمع مادّته المعرفيّة من مظانّها النّقليّة . فلم يكتف بالجمع و العرض و إنما تجاوز ذلك إلى النّقد و المناقشة و المقارنة بين الأخبار, و إبداء الرأي فيها , و إتخاذ موقف علميّ منها . و قد حكم عليه عقله المتوقّد المتحفّز بأن يكون قليل الثّقة كثير الشّك في ما يصله من أخبار , لعلمه بطبيعة البشر و ميلهم الى التحريف و التزييف. و لذلك كان منطلق المعرفة لديه الخبر و الأثر , و منتهاها العقل الذي يحكم حكما فصلا بالقبول أو الرفض , أو بالقياس و التّجربة . و يمكن استجلاء العقل في هذا المستوى على صعيدين: صعيد المنهج العلمي, و صعيد الشخصية العلمية.
3- من تجلّيات المنهج العلمي عند الجاحظ :
- دراسة طبائع الحيوان وأساليب عيشه والبيئات التي يعيش فيها وطرق تكاثره وغذائه وأصنافه وجوانب من سلوكه وخصائصه....دراسة يتخلّلها الكثير من الآراء و الأفكار العلمية المتقدمة كالحديث عن تأثير البيئة في الحيوان و الإنسان والشّجر وبعض الأفكار عن الوراثة وتطوّر الأجناس وتأثير الغرائز (راجع في "الحيوان" حديثه عن الخلاسي من الدجاج وعن ابن المذكرة من المؤنث وعن قوة ثأثير الشهوة وطلب النسل يقول :" وعامة اكتساب الرجال وإنفاقهم وهمهم وتصنعهم وتحسينهم لما يملكون إنما هو مصروف إلى النساء و الأسباب المتعلقة بالنساء"-ج1ص104). .
- قيام المنهج التجريبي على الملاحظة المنظّمة للظواهر الطبيعية المراد رصدها وهذه الملاحظة تكون من طريقين:الخبر("قال أبو إسحاق"-"زعم ابن أبي العجوز"- "حدثني صديق لي ..."والعيان (" وقد رأيت بيض الحيات و كسرتها لا تعرف ما فيها )". ومن أمثلة العيان كذلك قوله:" وفي الذّبّان طبع كطبع الجهلان... فهو صنع غريب عجيب (يقصد تماوتها ثم عودتها إلى الحركة) ولو لا أنّ العيان قهر أهله لكانوا خلقاء أن يدفعوا الخبر عنه. " ثم يقول :" وجرّبت أنا ذلك في الخنفساء فوجدت الأمر فيها قريبا من صفة الجعل"). - وهذه الملاحظة هي في الأساس ملاحظة حسّية مباشرة ("فبينا نحن عنده إذ دخل عليه بعض من يجلب الأفاعي من سجستان ويعمل الترقيات فقال له: حدثهم بالذي حدثني به عين الأفعى...."/..."وزعم بغضهم أن لبعض الحيات لسانين وهذا عندي غلط و أظن انه لما رأى افتراق طرفي اللسان قضي بان لها لسانين فهي ملاحظة حسية تعتمد علي الحواس وعلى رأسها البصر مع ما قد يجر إليه دلك من خطا أو توهم "لعمري إنّ الحواس لتخطئ " . . - لكنّه من جهة اخرى تجريب علميّ يرقى إلى مستوى تعمّد العالم وضع الظّاهرة التي يرصدها موضوع الاختبار عن سابق قصد وتحكّم في ظروف إجراء الاختبار . يقول معترضا على بعض الروايات المتّصلة بقتل النّمل : "وقد جرّبنا ذلك ووجدناه باطلا " ولعلّ من أوضح الأمثلة على استخدام المنهج التجريبي ما أورده في حديثه عن الانتباه الغريزيّ للكلب حين قال : " فلمّا كان العشيّ صنعنا به مثل ذلك...وصنعت ذلك بكلب لي أخر..." وكذلك ما أورده في باب الحيّات أيضا في سياق تجربة النّور المنبعث من عيون بعض الأفاعي يقول أبو عثمان رواية عن محمد بن جهم عن أحد بائعي الأفاعي وصنّاع ترياقها بعد أن رأي في ظلام الليل وهو نائم ضياء ينبعث من مكان ترك فيه رأس الافعي: " فقمت فقدحت نارا و أخذت المصباح معي ومضيت نحو السّرير فلم أجد تحته إلا رأس الأفعي فأطفأت السّراج ونمت و فتحت عيني فإذا ذلك الضّوء على حاله فنهضت كصنيعي الأول حتّى فعلت ذلك مرارا قال : فقلت لآخر مرّة لا أرى شيئا إلا رأس الافعي فلو نحّيته فنحّيته و أطفأت السّراج ثم رجعت إلى منامي ففتحت عيني فلم أر الضّوء فعلمت أنّه من عين الأفعى....". - يتجلّى الطّابع العلمى للملاحظة في ما يصاحبها من عملية انتقاء وتركيز تهدف إلى عزل الظاهرة أو الواقعة التي يراد درسها آو تجريبها (عمّا سواها من الظّواهر والوقائع الأخرى التى لا تستوقف البحث ولا تستدعى اهتمامه ) والتي تثير الحيرة العلمية وحبّ الاكتشاف لديه وتسليط الذّهن عليه بغية تعرّفها وفهم خصائصها.
ففي ذلك سلوك - على بساطته- ما يدلّ على خطوة مهمّة من خطوات البحث والمنهج التجريبى الذي ينطلق من التجربة ليستخلص قانونا جزئيا ومن أمثلة هذه القوانين أو القواعد الجزئية ما أورده عن الانتباه الغريزي لدى الكلب حين استنتج " فليس يكون مثل هده إلا ّعن مقدارية بمقدار ما بين الوقتين " أو قوله حول تكرار التّجربة " فلم يجدوه غادرذدلك يوما واحدا ".
- أما الخطوة الثّالثة من خطوات المنهج العلمي التي تتضمّنها هذه الفقرة و مثيلاتها في كتابات الجاحظ، فهي أن الباحث بعد التجربة يخلص إلى الاستنباط العقليّ، ثم يعيد التّجربة مرة ثانية أو مرارا ليتأكّد من صحّة الاستنباط و من تطابق التجربة الواقعية.
مع الاستنتاج النظري: " ثم سألت عن ذلك – أي النور المنبعث من عين الأفعى – فإذا الأمر حق. و إذا هو مشهور في أهل هذه الصناعة"). وقد يخلص إلى تعميم قانون عن طريق الاستقراء كما في قوله بعد حديثه عن قوة الأفاعي :" و كلّ شيء ممسوح البدن ليس بذي أيد و لا أرجل فانه قد يكون شديد البدن كالسّمك و الحية ("الحيوان). - التّعليل أو البحث عن الأسباب، و من المعروف أن هذا سمة من أهم سمات التفكير العلمي، فبالسؤال "لم؟ " يفسر العلم العلاقة بين الأشياء و الظّواهر، و يربط بينهما في تنظيمات فكرية تساعد على تقدّم العلوم و تراكم المعارف، و التعليل أو ربط الأسباب بمسبّباتها من أنماط التفكير التي تكثر في كتابات الجاحظ. اذ نلحظها على مستوى الفكرة و المضمون، كما نلحظها على مستوى اللغة و المبنى (كما سيرد لاحقا)..
- التفكير المنظّم و التدرّج المخطّط مظهر آخر من مظاهر التفكير العلمي و العقلاني، و يتجلى هذا في مواضع كثيرة من أبحاثه حول الحيوان، كما يتجلى في رسائله، مثلما نجد في ذلك التدرّج الذي يسلكه عند توضيح أهمية التّرغيب و الترهيب (النفس مطبوعة على حب الخيرات و اجتناب المكاره + والخيرات موفرة : التأديب ضروري و إلا اختلت الحياة و فسدت/ و التأديب و سيلته الأمر و النهي- و الأمر و النهي و سيلته الترغيب و الترهيب – و هما موافقان لما طبع الله عليه النفس).
- التفكير النقدي: وهو تفكير تحليلي استدلالي نجد له أمثلة متعددة في تمحيص الجاحظ الروايات و تجريحها و إصدار الأحكام بتجريح صحّتها او خطئها او الشّك فيها، فقد اخضع الجاحظ ما تناهى إلى علمه من المرويّات للنقد و التحليل و التّقييم، و رفض ما لا يتفق مع العقل، و ما لا يثبت بدليل .
4- المفكّر المنهجي : الموضوعيّة و الشّكّ المنهجيّ :
الموضوعيّة و التّجرّد :
- رفض التّسرع في الحكم و التعجيل بالتصديق او التكذيب قبل التثبت :"و لا يعجبني الإقرار بهذا الخبر، كما لا يعجبني الإنكار له ". و يظهر ذلك في إيراد الروايات بسند صحيح ثابت كما سمعها أو نقلها إليه الثقات من أصحابه و شيخوخة من دون أي حكم مسبق لها او عليها، مثل إيراده تفصيلات حول طريقة الحيّة في اصطياد العصافير، و طرح وجهات النّظر المختلفة في المسألة التي يدرسها طرحا موضوعيا من غير تدخّل أو إصدار حكم إلا بعد التّمحيص و الشّك و التّحليل، كما فعل حين أورد الرّوايات المختلفة التي سمعها عن طريقة ولادة الأفعى.
- عدم الاغترار بظواهر الأشياء او الاستناد على المظاهر في تقييم الأمور :"أوصيك أيّها القارئ المتفهّم و أيّها المستمع المنصت المصغ ، أن لا تحقر شيئا أبدا لصغر جثّته و لا تستصغر قدره لقلة ثمنه "، ( الحيوان)
- الانطلاق في بحث المسألة بحثا عقليا من رفض الانقياد للمسلّمات او التّسليم لصحّة الأفكار المسبقة مهما تكن أو شائعة . و مهما يكن ثبات الرّواة و الثّقة في علمهم : "زعم ابن أبي العجوز أنّ الدّسّاس تلد و كذلك خبّربني به محمد ابن أيوب ابن جعفر عن أبيه و خبّرني به الفضل بن إسحاق بن سليمان فإن كان خبرهما عن إسحاق فقد كان إسحاق من معادن العلم " إلى أن يقول :" و لم اكتب هذا لتقرّ به ... ".
- بحثه عن المعلومة في مظانّها و مصادرها الأصلية و اتصاله بأصحابه المتخصّصين فيها و أمثلة ذلك كثيرة منها:" وسمعت حديثا من شيوخ ملاحي الموصل ..." " و خبّرني من يصيد العصافير ... وشكا إليّ حواء مرة ... - التّحري و الاقتصاد في الحكم : كثيرا ما يميل الجاحظ إلى التّرجيح و التّغليب أو الشّك و الاستبعاد و لعلّ ذلك من مظاهر تواضعه العلمي و تقديره للثّقات الذين يروي عنهم من أفذاذ العلماء في عصره كما في قوله: "و لا أدري أيّ الخبرين أبعد, أخبر ابن غالب في تفسيخ الثّوب (يقصد تقطّع الثّوب بتأثير سمّ الأفعى ) أو خبر ابن المثنّى في سلامة الفروج على الأفعى" . و لا تكاد تعترضك في كلام الجاحظ أحكام مطلقة أو أراء نهائية مؤكدة إلا متى كان الغلط فيها بيّنا ، كموقفه من ذلك الأعرابي الذي ادّعى وجود حيّة ذات رأسين، فسأله محاجّا:" من أيهما تأكل؟ " و لما أجابه بأنها تتعشّى بفم و تتغدّى بفم ، علّق قائلا :"فإذا به أكذب البريّة ". - استقلاله الفكري و عدم تبعيّته لأحد مهما تعاظمت مكانته العلميّة إلا متى أقرّ بصحّة رأي من أراء أساتذته و وافقه ، فقد رد ّعلى أرسطو في الكثير من المواضع التي نقل فيها عنه ( انظر مقدمة "الحيوان") لعبد السلام محمد هارون ط . مصطفى البابي الحلبي الثالثة- 1965 – ص 22) و من أمثلة ذلك قوله :"و قد سمعنا ما قال صاحب المنطق...و ما يليق بمثله أن يخلد على نفسه في الكتب شهادات لا يحققها الامتحان " (الحيوان) "

الشّكّ :
مثّل الشّك لدى الجاحظ طريقة في التّعامل مع مسائل المعرفة و منهجا من مناهج النّظر في الموجودات و معطيات الواقع الحسّي و الذّهني . و لعلّ الجاحظ أن يكون قد استلهم طريقة " الشّك الموصل الى اليقين " من أستاذه النّظام .
و يرى الاستاذ اليعلاوي أنّها طريقة تعتمد جملة من القواعد يمكن حصرها في :

*-عدم قبول الخبر مسلّما و عدم تكذيبه مبدئيا . يقول " و لا يعجبني الإقرار بهذا الخبر و لا يعجبني الإنكار له "

*-معالجة الخبر لمعرفة مواضع الضّعف فيه و هي الموصلة الى اليقين . يقول " فاعرف مواضع الشّك و حالاتها الموجبة له لتعرف مواضع اليقين و الحالات الموجبة له .. " . فليس الشّك لديه لأجل الشّك في حدّ ذاته و إنّما طلبا لليقين . و مادام الشّك طريق اليقين فلا بدّ من تعلّمه و التّسلح به و إن لم يوصل الى معرفة يقينيّة . يقول " تعلّم الشّك في المشكوك فيه تعلّما فلو لم يكن في ذلك إلا تعرّف التوقف ثمّ التّثبت لكان ذلك ممّا يحتاج إليه ّ . و في تعامل الجاحظ مع الأخبار التي يجمعها إجراء واع لأدوات الشّك و نعني بها اعتماد منهج التجريح و التعديل بالنّظر في مصداقيّة السّند الناقل للخبر و مبلغ ثقته . ثمّ بتقليب المتن و موازنته و مقارنته و عرضه على التّجربة الملموسة أو العقل المستدل أو الخبرة المتراكمة أو المعرفة الحاصلة .

الإحداث في "حدث أبو هريرة قال"


مسيرة أبي هريرة الوجودية : مفهوم المرض والرحيل



I- علاقة أبي هريرة بذاته : التجربة الحسية

بطل القصة أبو هريرة يعيش في مكة التي ترمز إلى الانغلاق والروابط الاجتماعية والتقيد بالطقوس الدينية. فهو ملتزم بعباداته متزوج بطريقة شرعية، يمثل الرجل التقليدي فارغ الكيان إلى أن يجيئه صديق له يدعوه إلى الخروج عن المألوف" أصرفك عن الدنيا عامة يوم من أيامك" فالبعث الأول منطلقه عوامل خارجية عن أبي هريرة الذي لم يكن مستعد للرحيل. كان الخروج من مكة فجرا. هذا الفجر يرمز به إلى ابتداء المغامرة الوجودية . ويتجاوز تحديد الزمان بتحديد المكان : الصحراء رمز الانطلاقة والحرية التي تقابلها قيود مكة وانغلاقها ، على رمال هذه الصحراء اللطيفة سيتمتع أبو هريرة وصديقه بمشهد الفتى والفتاة عاريين وهما يرقصان. هذا المشهد صرف أبا هريرة عن صديقه فكان بدء الانفصال عنه وقد هزه الطرب. عندها يبدأ أبو هريرة في التحول وذلك ما رغب فيه صديقه الذي عاد مرارا إلى هذا المكان ولبّى دعوة الدنيا وقد لخص المسعدي هذه الدعوة في قول الفتى:" نعم دعوة الدنيا ، دعوة الكون ، ترى هذه الأشجار وهذا الماء وهذا النور وهذا الفضاء وهذا الخلاء(ص 56-57).

أصبح أبو هريرة متهيئا لتلقي الدعوة. فقد عاد إلى مكة جسدا بلا روح يقول (ص 58) "وبقيت عامة يومي مصروف البال إلى أمر الجارية وفتاها" لكنه لم يتخلص بعد من ثقل الماضي فيقول " فكلما كان من الغد جمعت غرمي وأعرضت عن الدعوة وعدت إلى الصلاة فقصيتها واستغفرت الله " فأبو هريرة يتأرجح بين الصلاة والدعوة إلى الدنيا لم يمكنه التوفيق بينهما في حين أن صديقه قرر مصيره فاتخذ جارته وترك أهله فكأن الزواج بمفهومه الشرعي لا يتناسب والتجربة الحسية...

وينتهي أبو هريرة باللحاق بصاحبه. لقد فشل في العودة الى واقعة فيقول (ص 58) فذهب ذلك بما تضعت من العزم فكان البعث" .

كان البعث الأول إذن بعث الحس في الإنسان وقوة الطبيعة *** وطبيعة كانا غائبين عنه : *** يستره بنياب وطبيعة يقيدها بدين يقول الأستاذ توفيق بكار في تقديمه ص 21 "فيستجيب فيترك مكة والزوجة والصلاة وقد " بعث من بين الأموات" إلى الفردوس .. ليس فردوس السماء الذي ما فتىء يحلم به حتى أحياه بنفخة من طينة من جنة موعودة الى جنّة موجودة – مدى البعث مجازيا ومداه دلاليا انقلاب في التفكير من لا هويته مغرقة ترتقي بكل الحياة إلى الآخرة."لهم الدنيا ولنا الآخرة" إلى إنسانية معتدة تنزل بكل الحياة إلى الدنيا حتى تعمل لها " كأنها تعيش أبدا .. فكأنما "عدت الروح " إلى أبي هريرة بعودته إلى" الطبيعة الأم" يتخذ معنة الحياة من زخر مائدتها . فهي التي بعثته من رميم الرجل القديم الذي كأنه فهب إنسانا جديدا يسعى بكل حواسه إلى ملاقاة الكون للعب من نبع الوجود ونكهته".

وريحانة هي التي سينطلق منها أبو هريرة في مسيرته في تجربة عاطفة الحب معها. لهذا الاسم بعدان: بعد حسي من حيث علاقته بانتعاش الحواس وبعد ثان تمثل في التجربة الحسية وهي رمز للمتعة الحسية ، شبيهة بأبي هريرة في بعض خاصياته : هي نفور لا تستقر على حال وفي حديث المزج والجد" يتحدث عنها رجل من الأنمار قائلا: أقبلت على شبان الحي وكنت منهم ، غفر الله لنا جميعا فكانت تعاشر الواحد منا ، ثم تهجره إلى غيره ، وكانت في ذلك تلقي لنا فتبسط الأيدي ، فتمسك عنا وتولي حتى تهيجنا كغبار في يوم إعصار"(ص61 – 62 ) فهي تأبى الزواج وتعتبره عبودية. وهي إلى ذلك تحس بالغربة إذ لم تجد التجاوب مع أحد وهجرها للرجال دليل على أن الحس كما يتعاطاه الناس ليس المقصود بل الحس فلسفة عندها وستعثر على ضالتها في أبي هريرة.

وتعرف بنفسها قائلة :" أنا آخرة قومي وقد أكلتهم النار جميعا " وقد أصر المسعدي على قتل أهل ريحانة بالنار كما قتلت زوجة أبي هريرة بالنار أيضا فما مدلول النار؟ للنارمدلولان: مدلول سلبي تمثل في الإتيان على كل شيء ليكون رمز التخلص من القيم والقيود والثوابت الاجتماعية. وللنار مدلول ايجابي باعتبارها عامل نضج يولّد إخصابا وعلاقة جديدة بين ريحانة وأبي هريرة ، علاقة شبيهة بأسطورة أساف ونائلة رمز الخطيئة وتحدي القيم فتكون ريحانة الأرض التي تنتظر من يخصبها وقد قدم المسعدي لوحة فيها عملية الإخصاب في حديث القيامة " فشبه الحس بالزوبعة الممطرة (ص 84) " فما كدت أبرح الضيعة حتى جاءت المعصرات بالأنواء وكان البرق يستطير فتنطلق السماء وركامها والأشجار والجبال... فالمطر فالريح فالشدة فأنا أملأ ما أكون" ويضيف المسعدي عنصرا إضافيا للإخصاب الماء فبقدر ما عبر العنصر الأول " النار" عن النضج مثل الثاني الحياة.

لا يعتبر الحس مجرد متعة مبتذلة بل تجربة مقدسة جعلت بيت ريحانة- قبل أن تنتقل مع أبي هريرة إلى منزل بالمدينة – في الطريق الواصلة بين مكة والمدينة حجا آخر " الناس بين داخل وخارج" وريحانة في اختلافها عن النساء لا تمثل المرأة بقدر ما تمثل بعدا من أبعاد الكيان البشري فالإنسان لا يخضع بحسّه إلى أي نظام اجتماعي بل يعود به إلى العالم الفطري فالتجربة رمز إليها بريحانة هي تجربة الإنسان الفطرية والتخلص من القيم ليس معناه التمرد على المجتمع بل عودة إلى ما قبل المجتمع (وهذه التجربة الحسية في " حدث أبو هريرة قال" نزلت إلى الإجراء، التطبيق وقد نظرت لها ميمونة في دعوتها غيلان ان يمكنا يوما في الكهف (في السد الذي ألفه محمود المسعدي لاحقا لحدث أبو هريرة قال).

ستلتقي ريحانة مع أبي هريرة في حديث" التعارف على الخمر" فيشتركان في نزولهما ضيقين في حي من أحياء العرب وقد تم التعارف في مجلس الخمر أي عالم الحس. هذا التعارف انتهى بدخول ريحانة دين الحس. وقدمت صورة تعارف ريحانة بأبي هريرة في شكل صراع تقول" وهممت ألطم وجهه لطمة تذهب بخمره" لكن أبا هريرة أحسن التملك فننصهر فيه رياحانة لتصبح جزء منه فتقول " فما كدت أهم به حتى أخذني واحتملني وأنا اضطرب، فجعلني تحت سمره إلى الأرض وانصب علي فوجدته صاحبا من أشد الرجال ثم شدني إليه حتّى صرت منه (ص 71-72)

هذا الانصهار دلالة على كون ريحانة جزء من أبي هريرة ، جانب الحس في الإنسان وهو بعد من أبعاده.

وحديث " القيامة" يصف بداية ممارسة التجربة الحسية بينهما في إطار مكاني يوحي بالغرابة والرهبة لتعميق مفهوم الحس ليجعل الكون كله قائما على الإخصاب فالحس ليس مكتسبا بل هو فطري يقول المسعدي في "تأصيل الكيان " إن سر البقاء وتواصل الحياة هو التجربة الحسية ولو لا المتعة الحسية لما وجد الإنسان".

II – علاقة أبي هريرة بالكون : محطة تأملية

إن ممارسة التجربة الحسية التي اندفع فيها أبو هريرة بكل حواسه والتي تقول فيها ريحانة في حديث "الوضع" "وأكلته فأكلني وأفنيته وأفناني (ص 102) أورثته جوعا فنتيجة هذه التجربة الحسية سلبية إذ أن أبا هريرة غير قانع بها لشعوره بنقصان كيانه فيقول لريحانة " لقد علمتني الطعام ما لذته.. فهل علمتك باريحانة الجوع ؟ وهو إلى ذلك يشعر بالموت "زهرة على القبر" فتطرح عليه قضية الوجود والعدم المتمثلة في إدراك الإنسان ووعيه بمآله : الفناء (هذا الشعور أصاب أبطال المسعدي رغم عشقهم للحياة).

يبرز مفهوم المرض وتختلف الموافق بينهما : المرض عند ريحانة مرض جسدي عادي فتسيل الدموع حرقة على أبي هريرة في حين يكون المرض عنده أزمة وجودية تمثلت في رغبته في الابتعاد عن الجمود ولن يحدث ذلك إلا بتجاوز التجربة الحسية بعد أن استنفد كل أنواع اللذة من العلاقة الطبيعية مع ريحانة إلى التطرف في هذه التجربة مع مخنث المدينة.

نتبين خروج أبي هريرة من حالة الاطمئنان إلى حالة القلق التي ستؤدي به إلى التحول باعتبار إن الحيرة والتساؤل من مسؤولية الإنسانية. فالمرض إذن سيبعث الحياة والاستفاقة والإدراك بأن المتع لا تحقق إنسانية الإنسان. ستؤدي بأبي هريرة إلى الرحيل إلى التفكير المستمر فهو يكره الأشياء السهلة ويبحث عن الحقيقة. فالصحة تساوي الجمود في انعدام التساؤل وفي الاستقرار. فهو يخاف الاستقرار إذ نقول فيه ريحانة في حديث " الوضع شديد الكره للنزول يرتاد ولا ينزل ويقتله الطمع ويحييه اليأس ويخاف أن يستقر الجهد" ليصل إلى مرحلة تأملية في رحلة الإيمان بعبثية الكون والحياة نتجت عن تجربة الحس الفاشلة فعاش أبو هريرة دوامة من الحيرة والوحشة والتساؤلات الواردة في المجلس الخمري حين قص حياة أخته المعاقة وتساؤلاته عن سبب إعاقتها فيكون هذا المجلس الخمري منبها ليساعد على المأساة التي يعيشها البطل وتمثلت أولا في عدم التلذذ بالخمرة (وهي عالم الحس) وثانيا في امتناعه الدال على تأمله في هذا العالم الخمري الحسي الذي أصبح غريبا عنه. فهذا العالم الخمري يصبح عاملا من عوامل تنشيط المأساة حيث يتدرج به ثالثا إلى إمساكه عن الكلام لنتبين أنه يعيش حالة مخاض فكري : فعجزه عن فهم الوجود دلالة على وصول البطل إلى أرقى مستويات التأزم الوجودي ليصل الى التفكير في تحقيق ذاته بالفعل، بالبناء مع العدد .



III – علاقة أبي هريرة بالمجتمع : تجربة العدد : التجربة الجماعية

يدخل أبو هريرة طور العزلة عن الناس في واد فتكشف له الريح عن جمجمة رمز موت الإنسان وضعفه فزادته تأزما لكنه نام فحلم بالإنسان تأله وأخذ يشيد من الطين صرحا فرغم ضعف الإنسان المخلوف من الطين (حسب التراث الإسلامي) ينشد هذا الضعيف من الطين الخلود. فالحلم يأخذ معنى التصورات الفكرية: الفعل فهذا الطين يضع ويبدع ومنه ينشد الخلود. أنذاك ينطلق أبو هريرة في التجربة الجماعية من حالة العزلة الفردية إلى الفعل الجماعي، فهذا الحلم ألهمه" القدرة الإنسانية الخلافة التي تنفي العدم".

وينطلق الحديث عن التجربة الجماعية بنتيجتها الفاشلة إذ يصف كهلان أبا هريرة: فكان يحدثني حديث الميت يبعث كرها ويتوق إلى موته . فيبدي أبو هريرة رأيه في الناس" عشت في الناس ثلاثين. فلم أرو الله في واحدة منها إلا ذئبا ينهش ذئبا أو صاديا يشرب فيشتد صداه" (ص 149) ويقول (ص 51) خرجت أريدهم على البناء وبذلك يركز على ومضات ورائية لذكر هذه التجربة. فقد دعاهم إلى الخلق والتعاون وقعت هذه التجربة في مجتمع متخلف ينتظر " الحلول الغيبية" لإنقاذهم من الفقر.دعوة أبي هريرة هذا العدد "دعوتهم" يفيد أن التجربة لم تنبع من المجموعة ذاتها فيكون خطأ أبي هريرة من المنطلق إذ لم يعودهم على العمل والبذل بل وفر لهم ما يشتهون فعلمهم التواكل عليه فقالوا" دعانا داعي الرحيل قلت كأنكم مثلي لكن هيهات" فرحيل أبي هريرة ايجابي لأنه قائم على البحث واستقصاء معنى الوجود في حين أن رحيل الجماعة اكتسى معنى الحيرة الجوفاء ومجرد البحث عن الراحة والاستقرار فخرج بهم إلى صحراء لحثهم على الخلق والتغيير فتآكلوا رمزا للتناحر الاجتماعي والفتن والحروب.

ويبلغ أبو هريرة درجة الثائر الداعي إلى التمرد ومّما يؤكد نزعة الانا في هذا العمل الاجتماعي والسياسي إن أبا هريرة قد جنى من هذه التجربة لذة فيقول ووجدت في الفعل لمثل سكرة الخمرة وحسبته من العدد وخصب الكثرة " لكنها تفشل فيقـــــــول ( ص 156) " هذه يا كهلان قصة الطالب الكثرة جئتهم فسألتهم روحا فإذا هم أفرغ من نفخة إسرافيل" فتبين أن الأنا إذن هي باعث التجربة الجماعية ، فهناك إرادة فردية للبناء لم تنبع من المجتمع فأبو هريرة يريد البناء ليحقق ذاته في هذا البناء لذلك تفشل هذه التجربة ومن ورائها المسعدي فإفشال تجربة العدد نتيجة لرؤية فلسفية ليواصل مسيرة أبي هريرة الوجودية.

محطة تأملية ثانية : إن تجربة العدد تعقب بفترة تأملية مثل نظيرتها الفترة التأملية التي أعقبت تجربة الحس. تطرح التساؤلات على أبي هريرة فإذا به يعيش حيرة. هل يفهم الإنسان معناه حين يقتل الحس ؟

IV – علاقة أبي هريرة بالإله : التجربة الدينية الروحية

ويصعد أبو هريرة الى دير العذاري وقد حددت موقعه الجبلي راهبة الدير ظلمة الهذلية بقولها " وكان قليلا من يطرق علينا لمنعه الجبل وشدة الدير وعسره وانفصاله عن الأرض" فهو قريب من السماء رمز الغيب والماورائيات، ليكون التعبد والانفصال عن الحس والعدد ويرغب أبو هريرة في التخلص من الحس ، هذا التخلص الذي ستروضه عليه هذه الراهبة وتحدث المفاجأة وإذا بأبي هريرة يبعث الحس في هذه الراهبة ظلمة انطلاقا من كلمة " اللذة" وإذا بسواكن الحس تنفجر عندها وكانت قد كابدت للسيطرة على حواسها منذ حداثتها فيدخل أبو هريرة في علاقة حسية وراء المحراب . أراد أن تصعده ظلمة إلى السماء فأنزلها بدوره إلى الأرض وبذلك تفشل هذه التجربة الروحية ويهتدي البطل إلى" أن الغيبة تطلب فلا تدرك" فتؤدي به إلى تأملات.

يعيش أبو هريرة فترة تأملية يستقي فيها نتائج هذه التجربة الروحية فيستخلص أن الكائن البشري مركب من عدة أبعاد : لم يعش طمأنينة في الحس كما أنه لم يعشها في الروحانيات دلالة على أن الإنسان لا يستطيع الانسلاخ عن طبيعته فيرفض الحيوانية الصرفة ولا يستطيع التأله الإنساني.

أمّا الاستخلاص الثاني فيتمثل في رفضه للسبل المسلّمة التي يتطلبها التسليم للوصول إلى الاستقرار الروحي مما يؤدي ذلك إلى حيرته.

لم ينهزم أبو هريرة بل اكتسب جزء من كيانه ومن هنا نفهم رؤية المسعدي للمأساة : تأرجح الإنسان بين الحيوانية والألوهية وهذه منزلة الإنسان الأرضية- فلا يجد أبو هريرة الخلاص إلا بتجاوز هذه المأساة وهذا التجاوز لا يكون إلا بتخطي الدهر الذي سيظهر في خاتمة " حدث أبو هريرة قال" " في البعث الآخر".

المنتهى : البعث الآخر

قد صورت ظلمة أبا هريرة وما يشعر به من شوق إلى المطلق " فإذا عينه أشد ما رأيت شوقا إلى ما لا تراه غيرها من العيون... وكان يقول ( أبو هريرة) أليس فيكم من يحذق صنع الأصوات تحضر الآلهة وتكسر الزمان المحدود".

تنتهي به الرحلة إلى بعث أخر إلى ( معراج) تطلب فيه الغيبة فتدرك. يطلب أبو هريرة من أبي المدائن أن يخرج به يوما ليس من الدهر خارجا عن محدودية الزمان ويكون ذلك عند مغرب الشمس ( رمز نهاية مسيرة أبي هريرة). يصعدان جبلا حزيزا ينشد النهاية. حركة أبي هريرة حركة تصاعدية من الرمال إلى قمم الجبال دلالة على صعوبة الملتقى ووجود الحقيقة وتنتهي مسيرة أبي هريرة بالرضي والقبول يقول " هذا ما كنت أطلب" رحلته لم تكن عبثا بل مكنته من بناء كيانه ومفهوم هذه المسؤولية مستمد من الفكر الإسلامي الذي يفيد من النصوص الدينية تحمل الإنسان مسؤوليته وتحقيق هذه المسؤولية سعي ترجم عنه الشعر على لسان الهاتف – هاتف الغيب المسحون بمصطلحات صوفية كالحق والحب. إن علاقة الحب بين أبي هريرة والله أول نتيجة يفوز بها بعد نجاحه في القيام بمسؤوليته الإنسانية أما مصطلح الشوق فهو دافع أبي هريرة لهذه الرحلة لحاجة المعرفة فرحلته تتعطش إلى المعرفة التي لم تستجب لها أية تجربة فيجيب أبو هريرة على الهاتف بمفهوم الفناء في الله.

أما أبو المدائن فيمثل صورة من أبي هريرة في البعث الأول .وصف أبي المدائن نهاية أبي هريرة وصف غامض فنحن أمام لوحة فيها صوتان: صوت حيواني

" صهيل " وصوت بشري " صحية" إلا أن الصوت الحيواني اقترن لحالة نفسية : ألم والصوت البشري اقترن بحالة نفسية : فرح فيمكن أن يرمز بالألم إلى موت الحصان أي موت الجانب الحيواني في الإنسان ويمكن أن يرمز بالفرح إلى صعود أبي هريرة إلى السماء أي انعتاق الجانب الإلهي في الإنسان.

فلا أثر لموت أبي هريرة أ, انتحار لأن معنى الموت أو الانتحار ورد على لسان أبي المدائن "وإذا دم على الصخر" فهل يجوز المسعدي الانتحار في كتاباته ؟

إن المناجاة الصوفية في البعث الآخر لا يدل على معنى الانتحار فالانتحار في الفكر الوجودي نهاية الإيمان بعبثية الحياة. ولو أراد الانتحار كسلوك عملي لا ينتحر عند شعوره بالموت وعند الحديث عن أخته إن في " البعث الآخر" يكتمل كيان أبي هريرة لأنه وصل إلى المعرفة في أرقى مستوياتها.

وعلاوة على مفهوم الرحمة اللغوي فإن مدلول الرحمة الحضاري يفيد الغفران الذي يوحي بأن أبا هريرة قد تحول إلى عالم آخر ، عالم الخلود ويعتبر الأستاذ توفيق بكار أن الخاتمة تفتح بابين للتأويل:

1/" أنا الحق يناديك" قد يكون الحق هو الموت فالإنسان لا يدرك الحقيقة إلا عندما يموت فيكون أبو هريرة اختار الموت وهو شهيد لأن في الموت إدراكا للحق.

2/ يمكن أن يكون أبو هريرة قد فني في الحق وذاب في المطلق فخرج عن الزمان والمكاني ومن النسبة إلى المطلق ويكون قد اخترق الحدود بين الدهر والخلود وقد أصاب معنى وجوده بالقصة قصة جهاد كلل بالنجاح وتكون مسيرة أبي هريرة مأسوية إلى حديث " الجمود" إذ في البعث الآخر يفوز بعد البحث الطويل.

ويعتبر الأستاذ طرشونة في " الأدب المريد" أن فشل أبي هريرة ليس سوى نقل لحقيقة المنزلة الوجودية فإرادة بلوغ عالم المطلق في حدث أبو هريرة قال يجيلنا على جملة من التصورات الإسلامية تبعد المسعدي عن عبثية سيزيف وعن الرؤيا الوجودية الغربية فلغة النصوص صوفية في" البعث الآخر" أساسا.

وعلي هذا الأساس نتبين بناء " حدث أبو هريرة قال" الخارجي :

1- التمهيد: تقديم شخصية أبي هريرة التقليدي(بعث أول)

: تحديد الإطار المكاني : الخروج من مكة إلى الصحراء

: تحديد الإطار الزماني : الفجــــر

2- الأزمة: تساؤلات البطل أبي هريرة عن إدراك المعرفة : مغامرة وجودية

تتناول جميع أطوار حياته.

3- الحـــل: معراج أبي هريرة : التجربة الصوفية(البعث الآخر)

"فحدث أبو هريرة قال" من الأدب الرمزي الذهني. أحداثها ليست بواقعية. كل الإحداث ترمز إلى مسيرة أبي هريرة الوجودية من المبتدأ إلى المنتهى هذه الإحداث تقمصتها شخصيات منها الشخصية الرئيسية البطل أبو هريرة وهي ترمز إلى الإنسان في تحمل مسؤوليته الإنسانية في الوجود. ومنها الشخصيات الثانوية التي ترمز إلى أبعاد الإنسان من الحس إلى الروحانيات (ريحانة و ظلمة). هذه الإحداث عن طريق شخصياتها تستقطبها أطر مكانية تتناسب وسلوك أبي هريرة في مسيرته من انغلاق إلى انفتاح حسي إلى الاقتراب من السماء إلى الانعتاق ( مكة – الصحراء الرملية- المجالس الخمرية الدير في الجبل الجبل الحزيز ). كل هذه المسيرة ستحدد بأطر زمانية داخلية خاصة منها ما يرمز الى بداية مغامرة أبي هريرة الوجودية إلى منتهاها ( من الفجر إلى مغرب الشمس).

إن معطيات السرد من أطره وشخوصه لا تقصد لذاتها وإنما استعملت ألفاظها للدلالة على مفاهيم معنوية ذهنية فانتمى هذا الأثر إلى الأدب الرمزي الذهني حيث يقع تجاوز المدلول المادي إلى المدلول المعنوي وهذا التجاوز هو مذهب المسعدي في كتاباته حيث يصرح " ملتزم الرمز اجتهادا" فيجعل الشخصية خلاصة الشخصيات.

هذا الأدب الرمزي من صنف الرمزية الوجودية إذ اتبع المسعدي مراحل الوجودية الغربية الأربع : علاقة الإنسان بذاته وبالكون وبالمجتمع وبالله تأثرا بها لكنه تصرف فيها ووظفها وفق هويّته الإسلامية : وهو إلى ذلك يلتزم بخصوصيات هوتيه العربية رغم نزعته الإنسانية . يظهر ذلك في الرجوع إلى التراث العربي كزمن خارجي فبدت البيئة عربية بصحرائها وبأسماء مدنها وبنمط شخصياتها خاصة منها البطل "أبو هريرة " وبالشكل الأدبي " الأحاديث" وبأساليبه العربية التي تذكرنا بأساليب أشهر الكتاب القدامى.

دليلة رداوي باللافي

أستاذة عربية




المصدر : " حدث أبو هريرة قال"

المراجع :- تقديم الأستاذ توفيق بكار" لحدث أبو هريرة قال"

- الأدب المريد للأستاذ محمود طرشونة

تضمين بعض التعابير

صالح الزناتي

.
هل يستطيع أي صحفي أو اعلامي ان يتبرأ من المورثات الثقافيه التي يحملها ..؟؟ هل يقدر على التنصل من اخلاقيات الأديب والمثقف الكاتب؟؟ وهل يستطيع ان يخرج من البيئه التي يعيش بكامل أطرها ومعطياتها ,فيكتب مالا يقبله العقل والقلب ..؟؟ ان الكاتب أو الإعلامي لا بد ان يسير على نهج سلفه الصالح ..وان أمسك قلمه لا بد أن يحمل مع قلمه مشاعره ,احاسيسه ,ثقافته,ومورثاته الخلقية,فتأتي كتاباته تحمل الكروموسومات التي سبق ان حملها سواء من تجارب ثقافية أو مركبات جينية...
على الكاتب ان يزن احرفه وجمله قبل ان يسطرها قلمه فينشرها عبر الإنترت او شاشات التلفاز وأوراق الصحف,لأنه سابقاً قالوا ان غلطة العالم بألف ..فما بالنا بغلطة الكاتب أو الإعلامي .التي غطله واحده كفيله أن تغير او تشتت فكر أناس بسطاء لا يملكون من الدنيا إلا سطحية التفكير و هشاشة العقل

صالح الزناتي

مرحبا بكل من هل علي بالزيارة
مواقع و منتديات هامة و رائعة

tunisia sat

tunisia sat
site web tunisenne

tunisia-sport

منتديات تونس سات

startimes2

kuwait2

hannibal-sat

hannibal-sat
http://www.hannibal-sat.com/vb/

tunisia-web