الأحد، يوليو 27، 2008

الإحداث في "حدث أبو هريرة قال"

بقلم صالح الزناتي



مسيرة أبي هريرة الوجودية : مفهوم المرض والرحيل

I- علاقة أبي هريرة بذاته : التجربة الحسية
بطل القصة أبو هريرة يعيش في مكة التي ترمز إلى الانغلاق والروابط الاجتماعية والتقيد بالطقوس الدينية. فهو ملتزم بعباداته متزوج بطريقة شرعية، يمثل الرجل التقليدي فارغ الكيان إلى أن يجيئه صديق له يدعوه إلى الخروج عن المألوف" أصرفك عن الدنيا عامة يوم من أيامك" فالبعث الأول منطلقه عوامل خارجية عن أبي هريرة الذي لم يكن مستعد للرحيل. كان الخروج من مكة فجرا. هذا الفجر يرمز به إلى ابتداء المغامرة الوجودية . ويتجاوز تحديد الزمان بتحديد المكان : الصحراء رمز الانطلاقة والحرية التي تقابلها قيود مكة وانغلاقها ، على رمال هذه الصحراء اللطيفة سيتمتع أبو هريرة وصديقه بمشهد الفتى والفتاة عاريين وهما يرقصان. هذا المشهد صرف أبا هريرة عن صديقه فكان بدء الانفصال عنه وقد هزه الطرب. عندها يبدأ أبو هريرة في التحول وذلك ما رغب فيه صديقه الذي عاد مرارا إلى هذا المكان ولبّى دعوة الدنيا وقد لخص المسعدي هذه الدعوة في قول الفتى:" نعم دعوة الدنيا ، دعوة الكون ، ترى هذه الأشجار وهذا الماء وهذا النور وهذا الفضاء وهذا الخلاء(ص 56-57).
أصبح أبو هريرة متهيئا لتلقي الدعوة. فقد عاد إلى مكة جسدا بلا روح يقول (ص 58) "وبقيت عامة يومي مصروف البال إلى أمر الجارية وفتاها" لكنه لم يتخلص بعد من ثقل الماضي فيقول " فكلما كان من الغد جمعت غرمي وأعرضت عن الدعوة وعدت إلى الصلاة فقصيتها واستغفرت الله " فأبو هريرة يتأرجح بين الصلاة والدعوة إلى الدنيا لم يمكنه التوفيق بينهما في حين أن صديقه قرر مصيره فاتخذ جارته وترك أهله فكأن الزواج بمفهومه الشرعي لا يتناسب والتجربة الحسية...
وينتهي أبو هريرة باللحاق بصاحبه. لقد فشل في العودة الى واقعة فيقول (ص 58) فذهب ذلك بما تضعت من العزم فكان البعث" .
كان البعث الأول إذن بعث الحس في الإنسان وقوة الطبيعة جنس وطبيعة كانا غائبين عنه : جنس يستره بنياب وطبيعة يقيدها بدين يقول الأستاذ توفيق بكار في تقديمه ص 21 "فيستجيب فيترك مكة والزوجة والصلاة وقد " بعث من بين الأموات" إلى الفردوس .. ليس فردوس السماء الذي ما فتىء يحلم به حتى أحياه بنفخة من طينة من جنة موعودة الى جنّة موجودة – مدى البعث مجازيا ومداه دلاليا انقلاب في التفكير من لا هويته مغرقة ترتقي بكل الحياة إلى الآخرة."لهم الدنيا ولنا الآخرة" إلى إنسانية معتدة تنزل بكل الحياة إلى الدنيا حتى تعمل لها " كأنها تعيش أبدا .. فكأنما "عدت الروح " إلى أبي هريرة بعودته إلى" الطبيعة الأم" يتخذ معنة الحياة من زخر مائدتها . فهي التي بعثته من رميم الرجل القديم الذي كأنه فهب إنسانا جديدا يسعى بكل حواسه إلى ملاقاة الكون للعب من نبع الوجود ونكهته".
وريحانة هي التي سينطلق منها أبو هريرة في مسيرته في تجربة عاطفة الحب معها. لهذا الاسم بعدان: بعد حسي من حيث علاقته بانتعاش الحواس وبعد ثان تمثل في التجربة الحسية وهي رمز للمتعة الحسية ، شبيهة بأبي هريرة في بعض خاصياته : هي نفور لا تستقر على حال وفي حديث المزج والجد" يتحدث عنها رجل من الأنمار قائلا: أقبلت على شبان الحي وكنت منهم ، غفر الله لنا جميعا فكانت تعاشر الواحد منا ، ثم تهجره إلى غيره ، وكانت في ذلك تلقي لنا فتبسط الأيدي ، فتمسك عنا وتولي حتى تهيجنا كغبار في يوم إعصار"(ص61 – 62 ) فهي تأبى الزواج وتعتبره عبودية. وهي إلى ذلك تحس بالغربة إذ لم تجد التجاوب مع أحد وهجرها للرجال دليل على أن الحس كما يتعاطاه الناس ليس المقصود بل الحس فلسفة عندها وستعثر على ضالتها في أبي هريرة.
وتعرف بنفسها قائلة :" أنا آخرة قومي وقد أكلتهم النار جميعا " وقد أصر المسعدي على قتل أهل ريحانة بالنار كما قتلت زوجة أبي هريرة بالنار أيضا فما مدلول النار؟ للنارمدلولان: مدلول سلبي تمثل في الإتيان على كل شيء ليكون رمز التخلص من القيم والقيود والثوابت الاجتماعية. وللنار مدلول ايجابي باعتبارها عامل نضج يولّد إخصابا وعلاقة جديدة بين ريحانة وأبي هريرة ، علاقة شبيهة بأسطورة أساف ونائلة رمز الخطيئة وتحدي القيم فتكون ريحانة الأرض التي تنتظر من يخصبها وقد قدم المسعدي لوحة فيها عملية الإخصاب في حديث القيامة " فشبه الحس بالزوبعة الممطرة (ص 84) " فما كدت أبرح الضيعة حتى جاءت المعصرات بالأنواء وكان البرق يستطير فتنطلق السماء وركامها والأشجار والجبال... فالمطر فالريح فالشدة فأنا أملأ ما أكون" ويضيف المسعدي عنصرا إضافيا للإخصاب الماء فبقدر ما عبر العنصر الأول " النار" عن النضج مثل الثاني الحياة.
لا يعتبر الحس مجرد متعة مبتذلة بل تجربة مقدسة جعلت بيت ريحانة- قبل أن تنتقل مع أبي هريرة إلى منزل بالمدينة – في الطريق الواصلة بين مكة والمدينة حجا آخر " الناس بين داخل وخارج" وريحانة في اختلافها عن النساء لا تمثل المرأة بقدر ما تمثل بعدا من أبعاد الكيان البشري فالإنسان لا يخضع بحسّه إلى أي نظام اجتماعي بل يعود به إلى العالم الفطري فالتجربة رمز إليها بريحانة هي تجربة الإنسان الفطرية والتخلص من القيم ليس معناه التمرد على المجتمع بل عودة إلى ما قبل المجتمع (وهذه التجربة الحسية في " حدث أبو هريرة قال" نزلت إلى الإجراء، التطبيق وقد نظرت لها ميمونة في دعوتها غيلان ان يمكنا يوما في الكهف (في السد الذي ألفه محمود المسعدي لاحقا لحدث أبو هريرة قال).
ستلتقي ريحانة مع أبي هريرة في حديث" التعارف على الخمر" فيشتركان في نزولهما ضيقين في حي من أحياء العرب وقد تم التعارف في مجلس الخمر أي عالم الحس. هذا التعارف انتهى بدخول ريحانة دين الحس. وقدمت صورة تعارف ريحانة بأبي هريرة في شكل صراع تقول" وهممت ألطم وجهه لطمة تذهب بخمره" لكن أبا هريرة أحسن التملك فننصهر فيه رياحانة لتصبح جزء منه فتقول " فما كدت أهم به حتى أخذني واحتملني وأنا اضطرب، فجعلني تحت سمره إلى الأرض وانصب علي فوجدته صاحبا من أشد الرجال ثم شدني إليه حتّى صرت منه (ص 71-72)
هذا الانصهار دلالة على كون ريحانة جزء من أبي هريرة ، جانب الحس في الإنسان وهو بعد من أبعاده.
وحديث " القيامة" يصف بداية ممارسة التجربة الحسية بينهما في إطار مكاني يوحي بالغرابة والرهبة لتعميق مفهوم الحس ليجعل الكون كله قائما على الإخصاب فالحس ليس مكتسبا بل هو فطري يقول المسعدي في "تأصيل الكيان " إن سر البقاء وتواصل الحياة هو التجربة الحسية ولو لا المتعة الحسية لما وجد الإنسان".
II – علاقة أبي هريرة بالكون : محطة تأملية
إن ممارسة التجربة الحسية التي اندفع فيها أبو هريرة بكل حواسه والتي تقول فيها ريحانة في حديث "الوضع" "وأكلته فأكلني وأفنيته وأفناني (ص 102) أورثته جوعا فنتيجة هذه التجربة الحسية سلبية إذ أن أبا هريرة غير قانع بها لشعوره بنقصان كيانه فيقول لريحانة " لقد علمتني الطعام ما لذته.. فهل علمتك باريحانة الجوع ؟ وهو إلى ذلك يشعر بالموت "زهرة على القبر" فتطرح عليه قضية الوجود والعدم المتمثلة في إدراك الإنسان ووعيه بمآله : الفناء (هذا الشعور أصاب أبطال المسعدي رغم عشقهم للحياة).
يبرز مفهوم المرض وتختلف الموافق بينهما : المرض عند ريحانة مرض جسدي عادي فتسيل الدموع حرقة على أبي هريرة في حين يكون المرض عنده أزمة وجودية تمثلت في رغبته في الابتعاد عن الجمود ولن يحدث ذلك إلا بتجاوز التجربة الحسية بعد أن استنفد كل أنواع اللذة من العلاقة الطبيعية مع ريحانة إلى التطرف في هذه التجربة مع مخنث المدينة.
نتبين خروج أبي هريرة من حالة الاطمئنان إلى حالة القلق التي ستؤدي به إلى التحول باعتبار إن الحيرة والتساؤل من مسؤولية الإنسانية. فالمرض إذن سيبعث الحياة والاستفاقة والإدراك بأن المتع لا تحقق إنسانية الإنسان. ستؤدي بأبي هريرة إلى الرحيل إلى التفكير المستمر فهو يكره الأشياء السهلة ويبحث عن الحقيقة. فالصحة تساوي الجمود في انعدام التساؤل وفي الاستقرار. فهو يخاف الاستقرار إذ نقول فيه ريحانة في حديث " الوضع شديد الكره للنزول يرتاد ولا ينزل ويقتله الطمع ويحييه اليأس ويخاف أن يستقر الجهد" ليصل إلى مرحلة تأملية في رحلة الإيمان بعبثية الكون والحياة نتجت عن تجربة الحس الفاشلة فعاش أبو هريرة دوامة من الحيرة والوحشة والتساؤلات الواردة في المجلس الخمري حين قص حياة أخته المعاقة وتساؤلاته عن سبب إعاقتها فيكون هذا المجلس الخمري منبها ليساعد على المأساة التي يعيشها البطل وتمثلت أولا في عدم التلذذ بالخمرة (وهي عالم الحس) وثانيا في امتناعه الدال على تأمله في هذا العالم الخمري الحسي الذي أصبح غريبا عنه. فهذا العالم الخمري يصبح عاملا من عوامل تنشيط المأساة حيث يتدرج به ثالثا إلى إمساكه عن الكلام لنتبين أنه يعيش حالة مخاض فكري : فعجزه عن فهم الوجود دلالة على وصول البطل إلى أرقى مستويات التأزم الوجودي ليصل الى التفكير في تحقيق ذاته بالفعل، بالبناء مع العدد .

III – علاقة أبي هريرة بالمجتمع : تجربة العدد : التجربة الجماعية
يدخل أبو هريرة طور العزلة عن الناس في واد فتكشف له الريح عن جمجمة رمز موت الإنسان وضعفه فزادته تأزما لكنه نام فحلم بالإنسان تأله وأخذ يشيد من الطين صرحا فرغم ضعف الإنسان المخلوف من الطين (حسب التراث الإسلامي) ينشد هذا الضعيف من الطين الخلود. فالحلم يأخذ معنى التصورات الفكرية: الفعل فهذا الطين يضع ويبدع ومنه ينشد الخلود. أنذاك ينطلق أبو هريرة في التجربة الجماعية من حالة العزلة الفردية إلى الفعل الجماعي، فهذا الحلم ألهمه" القدرة الإنسانية الخلافة التي تنفي العدم".
وينطلق الحديث عن التجربة الجماعية بنتيجتها الفاشلة إذ يصف كهلان أبا هريرة: فكان يحدثني حديث الميت يبعث كرها ويتوق إلى موته . فيبدي أبو هريرة رأيه في الناس" عشت في الناس ثلاثين. فلم أرو الله في واحدة منها إلا ذئبا ينهش ذئبا أو صاديا يشرب فيشتد صداه" (ص 149) ويقول (ص 51) خرجت أريدهم على البناء وبذلك يركز على ومضات ورائية لذكر هذه التجربة. فقد دعاهم إلى الخلق والتعاون وقعت هذه التجربة في مجتمع متخلف ينتظر " الحلول الغيبية" لإنقاذهم من الفقر.دعوة أبي هريرة هذا العدد "دعوتهم" يفيد أن التجربة لم تنبع من المجموعة ذاتها فيكون خطأ أبي هريرة من المنطلق إذ لم يعودهم على العمل والبذل بل وفر لهم ما يشتهون فعلمهم التواكل عليه فقالوا" دعانا داعي الرحيل قلت كأنكم مثلي لكن هيهات" فرحيل أبي هريرة ايجابي لأنه قائم على البحث واستقصاء معنى الوجود في حين أن رحيل الجماعة اكتسى معنى الحيرة الجوفاء ومجرد البحث عن الراحة والاستقرار فخرج بهم إلى صحراء لحثهم على الخلق والتغيير فتآكلوا رمزا للتناحر الاجتماعي والفتن والحروب.
ويبلغ أبو هريرة درجة الثائر الداعي إلى التمرد ومّما يؤكد نزعة الانا في هذا العمل الاجتماعي والسياسي إن أبا هريرة قد جنى من هذه التجربة لذة فيقول ووجدت في الفعل لمثل سكرة الخمرة وحسبته من العدد وخصب الكثرة " لكنها تفشل فيقـــــــول ( ص 156) " هذه يا كهلان قصة الطالب الكثرة جئتهم فسألتهم روحا فإذا هم أفرغ من نفخة إسرافيل" فتبين أن الأنا إذن هي باعث التجربة الجماعية ، فهناك إرادة فردية للبناء لم تنبع من المجتمع فأبو هريرة يريد البناء ليحقق ذاته في هذا البناء لذلك تفشل هذه التجربة ومن ورائها المسعدي فإفشال تجربة العدد نتيجة لرؤية فلسفية ليواصل مسيرة أبي هريرة الوجودية.
محطة تأملية ثانية : إن تجربة العدد تعقب بفترة تأملية مثل نظيرتها الفترة التأملية التي أعقبت تجربة الحس. تطرح التساؤلات على أبي هريرة فإذا به يعيش حيرة. هل يفهم الإنسان معناه حين يقتل الحس ؟
IV – علاقة أبي هريرة بالإله : التجربة الدينية الروحية
ويصعد أبو هريرة الى دير العذاري وقد حددت موقعه الجبلي راهبة الدير ظلمة الهذلية بقولها " وكان قليلا من يطرق علينا لمنعه الجبل وشدة الدير وعسره وانفصاله عن الأرض" فهو قريب من السماء رمز الغيب والماورائيات، ليكون التعبد والانفصال عن الحس والعدد ويرغب أبو هريرة في التخلص من الحس ، هذا التخلص الذي ستروضه عليه هذه الراهبة وتحدث المفاجأة وإذا بأبي هريرة يبعث الحس في هذه الراهبة ظلمة انطلاقا من كلمة " اللذة" وإذا بسواكن الحس تنفجر عندها وكانت قد كابدت للسيطرة على حواسها منذ حداثتها فيدخل أبو هريرة في علاقة حسية وراء المحراب . أراد أن تصعده ظلمة إلى السماء فأنزلها بدوره إلى الأرض وبذلك تفشل هذه التجربة الروحية ويهتدي البطل إلى" أن الغيبة تطلب فلا تدرك" فتؤدي به إلى تأملات.
يعيش أبو هريرة فترة تأملية يستقي فيها نتائج هذه التجربة الروحية فيستخلص أن الكائن البشري مركب من عدة أبعاد : لم يعش طمأنينة في الحس كما أنه لم يعشها في الروحانيات دلالة على أن الإنسان لا يستطيع الانسلاخ عن طبيعته فيرفض الحيوانية الصرفة ولا يستطيع التأله الإنساني.
أمّا الاستخلاص الثاني فيتمثل في رفضه للسبل المسلّمة التي يتطلبها التسليم للوصول إلى الاستقرار الروحي مما يؤدي ذلك إلى حيرته.
لم ينهزم أبو هريرة بل اكتسب جزء من كيانه ومن هنا نفهم رؤية المسعدي للمأساة : تأرجح الإنسان بين الحيوانية والألوهية وهذه منزلة الإنسان الأرضية- فلا يجد أبو هريرة الخلاص إلا بتجاوز هذه المأساة وهذا التجاوز لا يكون إلا بتخطي الدهر الذي سيظهر في خاتمة " حدث أبو هريرة قال" " في البعث الآخر".
المنتهى : البعث الآخر
قد صورت ظلمة أبا هريرة وما يشعر به من شوق إلى المطلق " فإذا عينه أشد ما رأيت شوقا إلى ما لا تراه غيرها من العيون... وكان يقول ( أبو هريرة) أليس فيكم من يحذق صنع الأصوات تحضر الآلهة وتكسر الزمان المحدود".
تنتهي به الرحلة إلى بعث أخر إلى ( معراج) تطلب فيه الغيبة فتدرك. يطلب أبو هريرة من أبي المدائن أن يخرج به يوما ليس من الدهر خارجا عن محدودية الزمان ويكون ذلك عند مغرب الشمس ( رمز نهاية مسيرة أبي هريرة). يصعدان جبلا حزيزا ينشد النهاية. حركة أبي هريرة حركة تصاعدية من الرمال إلى قمم الجبال دلالة على صعوبة الملتقى ووجود الحقيقة وتنتهي مسيرة أبي هريرة بالرضي والقبول يقول " هذا ما كنت أطلب" رحلته لم تكن عبثا بل مكنته من بناء كيانه ومفهوم هذه المسؤولية مستمد من الفكر الإسلامي الذي يفيد من النصوص الدينية تحمل الإنسان مسؤوليته وتحقيق هذه المسؤولية سعي ترجم عنه الشعر على لسان الهاتف – هاتف الغيب المسحون بمصطلحات صوفية كالحق والحب. إن علاقة الحب بين أبي هريرة والله أول نتيجة يفوز بها بعد نجاحه في القيام بمسؤوليته الإنسانية أما مصطلح الشوق فهو دافع أبي هريرة لهذه الرحلة لحاجة المعرفة فرحلته تتعطش إلى المعرفة التي لم تستجب لها أية تجربة فيجيب أبو هريرة على الهاتف بمفهوم الفناء في الله.
أما أبو المدائن فيمثل صورة من أبي هريرة في البعث الأول .وصف أبي المدائن نهاية أبي هريرة وصف غامض فنحن أمام لوحة فيها صوتان: صوت حيواني
" صهيل " وصوت بشري " صحية" إلا أن الصوت الحيواني اقترن لحالة نفسية : ألم والصوت البشري اقترن بحالة نفسية : فرح فيمكن أن يرمز بالألم إلى موت الحصان أي موت الجانب الحيواني في الإنسان ويمكن أن يرمز بالفرح إلى صعود أبي هريرة إلى السماء أي انعتاق الجانب الإلهي في الإنسان.
فلا أثر لموت أبي هريرة أ, انتحار لأن معنى الموت أو الانتحار ورد على لسان أبي المدائن "وإذا دم على الصخر" فهل يجوز المسعدي الانتحار في كتاباته ؟
إن المناجاة الصوفية في البعث الآخر لا يدل على معنى الانتحار فالانتحار في الفكر الوجودي نهاية الإيمان بعبثية الحياة. ولو أراد الانتحار كسلوك عملي لا ينتحر عند شعوره بالموت وعند الحديث عن أخته إن في " البعث الآخر" يكتمل كيان أبي هريرة لأنه وصل إلى المعرفة في أرقى مستوياتها.
وعلاوة على مفهوم الرحمة اللغوي فإن مدلول الرحمة الحضاري يفيد الغفران الذي يوحي بأن أبا هريرة قد تحول إلى عالم آخر ، عالم الخلود ويعتبر الأستاذ توفيق بكار أن الخاتمة تفتح بابين للتأويل:
1/" أنا الحق يناديك" قد يكون الحق هو الموت فالإنسان لا يدرك الحقيقة إلا عندما يموت فيكون أبو هريرة اختار الموت وهو شهيد لأن في الموت إدراكا للحق.
2/ يمكن أن يكون أبو هريرة قد فني في الحق وذاب في المطلق فخرج عن الزمان والمكاني ومن النسبة إلى المطلق ويكون قد اخترق الحدود بين الدهر والخلود وقد أصاب معنى وجوده بالقصة قصة جهاد كلل بالنجاح وتكون مسيرة أبي هريرة مأسوية إلى حديث " الجمود" إذ في البعث الآخر يفوز بعد البحث الطويل.
ويعتبر الأستاذ طرشونة في " الأدب المريد" أن فشل أبي هريرة ليس سوى نقل لحقيقة المنزلة الوجودية فإرادة بلوغ عالم المطلق في حدث أبو هريرة قال يجيلنا على جملة من التصورات الإسلامية تبعد المسعدي عن عبثية سيزيف وعن الرؤيا الوجودية الغربية فلغة النصوص صوفية في" البعث الآخر" أساسا.
وعلي هذا الأساس نتبين بناء " حدث أبو هريرة قال" الخارجي :
1- 1- التمهيد: تقديم شخصية أبي هريرة التقليدي(بعث أول)
: تحديد الإطار المكاني : الخروج من مكة إلى الصحراء
: تحديد الإطار الزماني : الفجــــر
2- 2- الأزمة: تساؤلات البطل أبي هريرة عن إدراك المعرفة : مغامرة وجودية
تتناول جميع أطوار حياته.
3- 3- الحـــل: معراج أبي هريرة : التجربة الصوفية(البعث الآخر)
"فحدث أبو هريرة قال" من الأدب الرمزي الذهني. أحداثها ليست بواقعية. كل الإحداث ترمز إلى مسيرة أبي هريرة الوجودية من المبتدأ إلى المنتهى هذه الإحداث تقمصتها شخصيات منها الشخصية الرئيسية البطل أبو هريرة وهي ترمز إلى الإنسان في تحمل مسؤوليته الإنسانية في الوجود. ومنها الشخصيات الثانوية التي ترمز إلى أبعاد الإنسان من الحس إلى الروحانيات (ريحانة و ظلمة). هذه الإحداث عن طريق شخصياتها تستقطبها أطر مكانية تتناسب وسلوك أبي هريرة في مسيرته من انغلاق إلى انفتاح حسي إلى الاقتراب من السماء إلى الانعتاق ( مكة – الصحراء الرملية- المجالس الخمرية الدير في الجبل الجبل الحزيز ). كل هذه المسيرة ستحدد بأطر زمانية داخلية خاصة منها ما يرمز الى بداية مغامرة أبي هريرة الوجودية إلى منتهاها ( من الفجر إلى مغرب الشمس).
إن معطيات السرد من أطره وشخوصه لا تقصد لذاتها وإنما استعملت ألفاظها للدلالة على مفاهيم معنوية ذهنية فانتمى هذا الأثر إلى الأدب الرمزي الذهني حيث يقع تجاوز المدلول المادي إلى المدلول المعنوي وهذا التجاوز هو مذهب المسعدي في كتاباته حيث يصرح " ملتزم الرمز اجتهادا" فيجعل الشخصية خلاصة الشخصيات.
هذا الأدب الرمزي من صنف الرمزية الوجودية إذ اتبع المسعدي مراحل الوجودية الغربية الأربع : علاقة الإنسان بذاته وبالكون وبالمجتمع وبالله تأثرا بها لكنه تصرف فيها ووظفها وفق هويّته الإسلامية : وهو إلى ذلك يلتزم بخصوصيات هوتيه العربية رغم نزعته الإنسانية . يظهر ذلك في الرجوع إلى التراث العربي كزمن خارجي فبدت البيئة عربية بصحرائها وبأسماء مدنها وبنمط شخصياتها خاصة منها البطل "أبو هريرة " وبالشكل الأدبي " الأحاديث" وبأساليبه العربية التي تذكرنا بأساليب أشهر الكتاب القدامى.



المصدر : " حدث أبو هريرة قال"
المراجع :- تقديم الأستاذ توفيق بكار" لحدث أبو هريرة قال"
- الأدب المريد للأستاذ محمود طرشونة


التعريف بمحمود لمسعدي

صالح الزناتي

محمود المسعدي (1915 - 16 ديسمبر 2005) كاتب ومفكر تونسي. ولد في قرية تازركة بولاية نابل بتونس. وبدأ تعليمه في كتّاب القرية حيث أتم حفظ القرآن قبل أن يبدأ مرحلة التعليم الابتدائي في قربة. ثم أتم الدراسة الثانوية في المعهد الصادقي عام 1933. وفي العام نفسه، التحق بكلية الآداب بجامعة السوربون ليدرس اللغة العربية وآدابها. وتخرج منها عام 1936، وشرع في إعداد رسالته الأولى " مدرسة أبي نواس الشعرية "، ورسالته الثانية حول " الإيقاع في السجع العربي "، إلا أن الحرب العالمية الثانية قد حالت دون إتمامهما. ونشرت الثانية، لاحقاً، بالعربية والفرنسية. وقام المسعدي بالتدريس الجامعي في كل من تونس وفرنسا.
وإلى جانب التدريس الجامعي، انخرط المسعدي في السياسة، حيث تولى مسؤولية شؤون التعليم في حركة الإستقلال الوطني التي التحق بها مناضلا ضد الإستعمار الفرنسي، كما لعب دورا قياديا في العمل النقابي للمعلمين.
بعد الاستقلال عام 1956، تولى المسعدي وزارة التربية القومية، وحيث أسس الجامعة التونسية. وقبلها، كان قد تمكن من إقرار مجانية التعليم لكل طفل تونسي. وفي 1976، تولى المسعدي وزارة الشؤون الثقافية. قبل أن ينهي حياته السياسية كرئيس مجلس النواب وبالإضافة إلى تلك المسئوليات، كان للكاتب نشاط وافر في منظمتي اليونسكو و الأليكسو و مجمع اللغة العربية في الأردن. وكذلك أشرف على مجلة " المباحث " عام 1944، ثم على مجلة "الحياة الثقافية" عام 1975.
كتب المسعدي أعماله الهامة بين العامين 1939 و 1947. وتكشف هذه الأعمال عن التأثير القرآن على تكوينه الفكري والعقائدي وعلى أسلوبه. كما تنم أعماله عن إحاطته بأعمال المفكرين المسلمين في مختلف العصور، وبالأدب العربي القديم التي بدأ اهتمامه بها منذ مرحلة دراسته الثانوية، بالإضافة إلى اطلاعه الواسع العميق على الآداب الفرنسية خاصة والغربية عامة.
مؤلفات المسعدي
• حدّث أبو هريرة قال (1939، وطبع العمل كاملا عام 1973)،
• السد (1940، وطبع العمل كاملا عام 1955)، الترجمة الألمانية نشرت في أكتوبر 2007.
• مولد النسيان التي نشرت للمرة الأولى عام 1945، وترجمت إلى الفرنسية (1993) والهولندية (1995). الترجمة الألمانية صدرت في مارس 2008.
• "تأصيلا لكيان" الذي جمع فيه شتات كتاباته الأدبية والفكرية طوال حياته.
• "من أيام عمران"


• " لا تسلني يا ولدي كيف اكتب نصوصي الادبية .. انها عبارة عن ومضات معبرة عن شحنات التفكير في هاته الحياة " .
محمود المسعدي لسيار الجميل ، مارس 1986


العلم بين الأخلاق والسياسة

بقلم صالح الزناتي


تقديم الغاية من هذه الورقة ليس الكلام في العلم، بل الكلام عنه، بمعنى إخضاع العلم لمقتضيات التفكير النقدي، بعد ماآل إليه، وأوصلتنا إليه التقنية. حيث خرج العلم عن مصاره الذي استهدفه، والمتمثل في إسعاد الإنسان. لقد أصبح التطور العلمي عامة والتقني يسائلنا في حياتنا اليومية، خاصة بعد أن أصبح السياسي يتدخل في مصير العلم؛ واصبحت الشركات توجه البحث العلمي نحو هدف واحد أساسي هو الربح المادي. بهذه الكيفية ارتبط العلم بالاقتصاد والسياسة ليصبح العالم في أحسن الأحوال خادما للسياسي وللمقاول. سعينا هو: أ- الكشف عن جذور هذه الأزمة، وكيف انحرفت التقنية من الرغبة في إسعاد الإنسان إلى تهديده في وجوده. ب- تحديد معالم هده الأزمة، بالكشف عن بعض مظاهرها. ج- رسم معالم لتصحيح مسار العلم: تحت شعار تغليب صوت الحكمة. كنا من قبل نتصور أن العلم موضوعي ومحايد. بالتالي، كنا نتق في العالم وما يكشف عنه من نتائج، بدعوى موضوعية العلم وحياد العالم. لكن التطور العلمي والتقني وبالكيفية التي سار به أصبح يسائلنا، خصوصا بعد أن سُخرت التقنية لتحقيق رغبات سياسية واقتصادية. بالتالي، أصبحنا مطالين بالكشف عن أصول هذا اللقاء والتنبيه إلى خطورة المستقبل، مادامت التقنية قد سخرت لتكريس الفوارق وأصبحت مصدر استغلال.
سننظر كذلك في الطريقة التي يتطور بها العلم. فمن قائل بالاتصال إلى متبن لنظرية الانفصال. لنرد على هؤلاء بالقول بأن البحث الابستمولوجي لم يعد كافيا لتفسير العلم. ذلك أن البحث الابستملوجي ينظر إلى العلم من الداخل فقط. وهذا غير كاف، مادام العلم لايختلف عن غيره من المباحث، بما يشهده من صراعات ونزاعات.وهو ما يدعونا إلى طلب اعتماد الحجاج سبيلا لفهم مسارات التطور العلمي. فحلول نظرية محل أخرى يتم عبر الاقناع والاقتناع؛ باعتماد الحجة والحجة المضادة. لننتهي إلى الدعوة إلى إعادة ربط العلم بمحيطه الثقافي والاجتماعي والفكري.
على هذا، يمكن تحديد الأخطارالتي تحدق بالإنسان في مستويين:
-المستوى الفكري عامة، والسياسي والاقتصادي خاصة: حيث الرغبة في فرض نمط فكري واحد وتعطيل كل سعي إلى التعددية و الاختلاف.
-المستوى العلمي عامة، والتقني خاصة: حيث تتقلص يوما بعد يوم فرص حياة الكائنات الحية، بعدما عبتث التقنية بالإنسان وأفسدت الطبيعة.
في هذا المقام سنبين كيف التقت الرغبة الأولى بالثانية. فأمام ما يشهده العالم من محاولات النمذجة وسيطرة القيم المادية على القيم الروحية أصبحت العديد من العلوم تطرح قضايا لم يعهد بها الإنسان من قبل. كما أصبحت التقنية تطرح علينا أسئلة لم تعد معرفية فقط، بل أصبحت وجودية بالأساس. وهو مازاد من مسؤولية المفكر. حيث لم يعد الوضع يتطلب منه البحث عن الحقيقة، بل التصدي كذلك لمختلف السبل المعتمدة لطمسها و تعطيلها. ولذلك وجب عليه مجابهة كل خطاب خادع ومضلل، وكل نظر لا يعمد إلى إعمال الفكر وفق مقتضيين أساسيين هما: التعقل والتخلق.
1- بداية الأزمة
مع بداية العصر الحديث شهدت العديد من العلوم، خاصة الفيزياء تطورات أفضت بالعديد من العلماء إلى الاقتناع بأن الطبيعة كتاب مفتوح. ومن ثم، إمكان صياغة الظواهر الطبيعية بواسطة قوانين موضوعية وثابتة وكلية. الأمر الذي سيفضي بنا في نظرهم إلى التحكم فيها. بالتالي، إمكان التنبؤ بالمستقبل.
بدأ هذا التوجه مع غاليلي حين زعم بان الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات، بشكل يسمح بصياغة قوانينها باعتماد معادلات رياضية. لقد زعم أن بالإمكان تقديم تفسير موضوعي لكل ظواهر الطبيعة، بما يسمح بالتحكم فيها. وبموجب ذلك، يصبح العالم قادرا على التنبؤ بالمستقبل، باعتماد استدلالات قائمة على العلاقات السببية بين الأحداث.
وعليه، تم التسليم بأمرين:
أ - العقل وحده قادر على معرفة الظواهر الطبيعية وصياغتها على شكل قوانين كلية.
ب - العقل الإنساني واحد في استدلالاته وبراهينه وطرق تفكيره. فهو يشتغل وفق قوانين وضوابط محددة وثابتة. فهي كلية وصالحة لكل زمان ومكان. ومن ثم، اعتبرت هذه المبادئ معيارا للعلمية ونموذجا لكل يقين، وأن السعي لتجاوزها هو تحد للعقل. فكانت النتيجة، التسليم بأحادية التفكيرالإنساني.
هكذا قال ديكارت بأن العقل أعدل قسمة بين الناس، وأن الحقيقة قائمة في العقل. فتبنى القسمة الثنائية القائمة على الأنا المفكر في مقابل المادة الممتدة. وهي الثنائية التي تولدت عنها ثنائيات وضعت الذات مقابل الموضوع و الإنسان مقابل الطبيعة. وعليه، في مقابل الأنا الصاعد هبط العالم إلى مرتبة امتداد جامد، وتحولت الطبيعة إلى قوانين ميكانكية. هكذا تم تشييء الطبيعة وأصبح يُنظر إليها على أنها مجرد مستودع لمواد خام؛ فنزعت عنها قيمتها، وتم إفساد البيئة وتدمير الطبيعة.
ما لبثت هذه المحاولات أن انتقلت إلى مباحث الإنسانيات. فقد جرت العادة منذ قرون أن تقتفي العديد من المباحث الإنسانية أثر ما يسمى بالعلوم الدقيقة في مناهجها وطرق تدليلها، مستهدفة بذلك صياغة نتائجها على منوال نتائج العلوم الدقيقة. من ثم، ساد الاعتقاد بأنه كل ما اقترب الحقل الأول من الثاني ازدادت دقة نتائجه. فلجأت العديد من العلوم الإنسانية إلى اقتراف أثر علوم طبيعية (كما هو حال علم النفس مع البيلوجيا، بل حتى الأدب حين تبنى البعض الأدب الواقعي أو اعتماد المنهج البنيوي في الدراسات الأدبية وغيرها من الدعاوى). فكانت النتيجة سعي العديد منها إلى صياغة نتائجها على شاكلة العلوم الطبيعية(الدقيقة). وعليه، ما لبث الإنسان أن أُخضع لمقومات منطقية ورياضية صارمة يضبط بها يقاس وفقا لها، شأنه في ذلك شأن بقية الظواهر الطبيعية. فتم تحويل الإنسان إلى نظام معلوماتي وقاعدة من البيانات الرقمية، ليصبح مجرد رقم أو رمز قابل للتعديل؛ حاله في ذلك حال أي نظام معلوماتي. بالتالي، ذهبت بعض الدراسات إلى حد القول بإمكان الشخص أن يستغني عن ذاكرته ليعوضها بوسائل تخزين البيانات الالكترونية. فكان من نتائج تصورات من هذا القبيل أن أفقدته مقوماته ومشاعره وأحاسيسه وشككته في معتقداته. فتحولت العلاقات بين الناس من علاقات تواصلية و تفاعلية إلى علاقات توصيلية بين الآلة والإنسان.
لقد انتهت بنا هذه التصورات إلى خلاصة مفادها أن التحكم في الإنسان والسيطرة عليه يتم بتنميطه. فنحن بإمكاننا التحكم في أفعاله ما دمنا نتحكم في القواعد والقواينن التي تضبط سلوكاته. فالبشر يدركون بحواسهم ويستدلون بعقولهم بطريقة واحدة(كما قلنا سابقا). بذلك ترسخت النظرة الشمولية للطبيعة و البشر. لقد زعموا أنه بالإمكان التحكم في الأحداث والظواهر مادام قد ضبطوا القواينن التي تتحكم في سلوك الإنسان؛ متغافلين استحالة قياس الإنسان بالطبيعة.
لما استكان هذا الاعتقاد عند هؤلاء أصروا على وجوب نمذجة العالم وتنميط الإنسان بغاية بناء نموذج اجتماعي وثقافي واحد، وإقامة منظومة قيم عالمية قادرة على خلق "مواطن عالمي"(سياسيا وبيلوجيا). لقد اقتنعوا بأن التحكم في الآخر يجب أن يبدأ بإفساد نظمه الفكرية وأنساقه التصورية، لينتهي بتعطيل فكره وتبديل سلوكاته وأنماط عيشه. بهذا وجدنا أنفسنا اليوم أمام سياسة بلا مبادئ وعلم بلا أخلاق وفكر بلا قيم.
2- معالم الأزمة
يكاد يجمع الكل على أن الصراع الثقافي يعد المحرك الأساسي لمختلف النزاعات الدائرة اليوم. هذا الموقف يجعلنا نستحضر الدور الذي تقوم به بعض الأطراف باستخدامها لمختلف الوسائل بغية إفساد الأنساق التصورية والثقافية داخل المنظومات الفكرية التي تخالفها التوجه. وغالبا ما تبدأ هذه العملية بالسعي إلى خلخلة البنية المفاهمية لهذه الأنساق، إما بإدخال مفاهيم جديدة أو التشويش على معاني مفاهيم موجودة أو تقييد أو إطلاق مدلولات مفاهيم معينة. كل هذا بهدف بناء مفاهيم الغاية منها فرض تصورات معينة وتوجهات سلوكية محددة؛ اقتناعا منها أن التطويع يبدأ بتغيير طرق التفكير، لينتهي بتغيير السلوك.
بموجب هذا، لم يعد صناع القرار العالمي يكتفون باتخاذ قرارات سياسية، بل أصبحوا يستهدفون التاسيس الفكري لمواقفهم وتصوراتهم، اقتناعا منهم أن الهيمنة الفكرية يجب أن تمهد الطريق لأية هيمنة سياسية واقتصادية. بالتالي أصبحت مختلف المواقف السياسية تقتضي التأسيس والتعضيد الفكري لها. ليصبح الصراع الفكري المحدد الأساسي للصراعات المستقبلية. وقد ترسخ لديهم هذا الاعتقاد بعد أن أصبحت تقنية المعلومات من أهم أدوات الاقتصاد وأهم وسيلة لتفعيل القرار السياسي وأهم سبيل لصناعة الثقافة. لتصبح بذلك المعلومة سلعة اقتصادية، وتصبح برامجها وبنوك بياناتها بمثابة أصول اقتصادية. وكانت النتيجة تحالف المؤسسات الاقتصادية والمعلوماتية .
هكذا أصبحنا في عالم أضحت فيه المعرفة قوة قادرة على فرض سلطتها؛ بما يوحي بان معظم النزاعات المستقبلية ستمر بالأساس عبر وسائل الاتصال والتواصل، وستحسم داخل ما يعرف باسم "السوق الثقافية". وهذا ما يبرر ما نراه اليوم من ظهور مجموعات بحث فكرية أو جماعات علمية في إطار ما يسمى بمصانع الأفكار؛ هدفها التأسيس الفكري للمواقف السياسية التي تتخذها بلدانها. وهو ما يفسر كذلك الزخم الإعلامي المرغوب فيه وغير المرغوب فيه؛ بشكل جعل العديد من البلدان تتحول إلى سوق استهلاكية، تستعير المفاهيم والأنساق الفكرية الجاهزة.
ما يثير انتباهنا هنا هو طغيان التبرير الأخلاقي للعديد من من المواقف، سواء على مستوى السياسية أوالعلم، من قبل الحديث عن أخلاق الحرب، والمسؤولية الأخلاقية لبعض البلدان في نشر الحرية وتحقيق العدالة. بنفس الكيفية التي نقول بها أن على الدول الغنية مسؤولية اخلاقية تتمثل في العمل على القضاء على الفقر والأمراض في الدول الفقيرة، بما يتطلب تمويل الأبحاث في هذا الاتجاه، مثل تلك المتعلقة بإنتاج أنواع جديدة من النباتات والبذور القادرة على مضاعفة الإنتاج، بما يسمح بتأمين الأمن الغذائي، وغيرها من المواقف المعللة بالرغبة في إسعاد الإنسان.
أ- السعي إلى التحكم في الطبيعة والإنسان
إذا كانت العلوم والتقنية قد مكنت الإنسان من تجاوز العديد من العقبات والتغلب على العديد من المشاكل، فقد أفضت بالمقابل إلى وضع لم يعد بإمكانه أن يتحكم في طرق تصريفها. لقد انتهت به التقنية إلى نتائج لم يعد قادرا على توقع مآلها. ولعل التطور الهائل لأسلحة الدمار، وما يقع على مستوى وسائل الاتصال والهندسة الوراثية والطب، وما يخطط له علماء المعرفة ومهندسي الذكاء الصناعي، وغيرهم، خير دليل على حجم المشاكل التي تواجه الإنسان في الوقت الحاضر.
لقد أثارت هذه المباحث مشاكل أخلاقية وقانونية واجتماعية ونفسية لم نتمكن إلى حد الآن من الحسم فيها. ففي الوقت الذي يتحدث فيه مهندسو الذكاء الصناعي عن فترة انتهاء احتكار الإنسان لملكة الذكاء، أصبحت الهندسة الوراثية تتحدث عن أشياء يصعب أحيانا مجرد تمثلها. حيث إمكان إنتاج كائنات حية معدلة وراثيا. بالتالي، القدرة على التحكم في الجينات بشكل يسمح بنقلها من كائن لآخر. وهو ما سينتهي إلى إمكان خلق إنسان معدل وراثيا له مواصفات محددة سلفا وتحت الطلب. [بذلك تلتقي الرغبة السياسية في خلق مواطن عالمي بالرغبة البيولوجية]. لقد اصبح بإمكان علوم الحياة إدخال تعديلات على خلايا الإنسان لجعله يقوم بوظائف محددة. وأصبح بالإمكان التحكم بموروثات الذكاء بما يمكن من تنميته، بما قد يفضي إلى إنتاج إنسان متفوق. ليتقوى خطر التلاعب بالجينات بشكل يمكن معه خلق إنسان "نموذج عالمي". بالإضافة إلى القدرة على إنتاج حيوانات تحمل جينات بشرية يمكن بعد ذلك نقل أعضائها إلى البشر. أصبح بالإمكان رسم الخريطة الوراثية للجنين بشكل يسمح بالنتبؤ بالخلل والعمل على إصلاحه. كما أصبح بالإمكان تغيير بعض الصفات لأنواع من النباتات بغية الحصول على أصناف جديدة؛ وكذا تهجين الحيوان؛ إلى غير ذلك من الأخطار التي تحدق بالإنسان وتهدد وجوده.
إذا كان هدف السياسي هو التحكم في الإنسان، فيمكن القول بأن هذا المنحى هو الذي أصبح الطاغي في الأبحاث العلمية. حيث انتقل الهاجس من الرغبة في التحكم في الطبيعة إلى التحكم في الإنسان (بيولوجيا). بما جعل بعض المهتمين يقولون بأننا سننتقل من الاستبداد السياسي إلى الاستبداد الجيني.
لما تحالف العلم مع الرأسمال نُقلت العديد من مراكز البحث من الجامعات إلى مختبرات خاصة بالشركات؛ وما تبقى منها فهو أمام أمرين إما أن يدخل معها في شراكة، وإما فشله بفعل قلة المواد وشدة المنافسة. هكذا تم التخلي عن أخلاقية البحث العلمي. فاصبحت العديد من التجارب تجرى في مختبرات سرية؛ واصبح العالم تحت قيود يحددها المقاول، خوفا من إفشاء الأسرارأو إغرائه من طرف شركات أخرى. بالتالي، أًصبح الراسمال هو المتحكم في مسار البحث. فالشركة هي التي تحدد المجال الذي على العالم أن يشتغل فيه، ومتى لم ينجز ما يطلب منه فقد يكون محط عدم الرضا. لهذا كل ماينتظر منه هو أن يحصل على نتائج تكون محط تقدير من مشغله، أي دافعي الأجر ومؤطر البحث. وحتى لو وصل إلى نتائج مهمة من الناحية العلمية، لكنها لاترضي المشغل، فقد يكتمها. (فكم من التجارب والأدوية ذات فائدة عامة احتفظ بها في أماكن سرية،لأنها لاتخدم المصلحة الاقتصادية للراسمال). بهذا اصبح التنافس بين الشركات قويا، وأصبح الصراع بين الجماعات العلمية يعتمد مختلف طرق التغليط، خوفا على سمعتها، و حفاظا على منتوجها. وبالجملة، بما أن غاية المقاولات هو الربح، فهي هي التي تختار الأولويات، وفي أي اتجاه يجب أن يتوجه البحث وما يجب أن يفصح عنه وما يجب أن يبقى طي الكتمان، أو اختيار الوقت والكيفية التي يعلن بها عن المنتوج الجديد. فحتى لو كان البحث في مجال ما يمكن أن يصل إلى نتائج ذات قيمة بالنسبة للمجتمع لكن لايدير أرباحا أكثر فيمكن أن تتخلى عنه وتلزم الباحثين بالاستمرار في مجال آخر. وقد تستعجل الباحث، لاعتبارات تنافسية وقائمة أساسا على الربح. فنجد العالم في وضع تناقضي بين أخلاقيات المهنة والتزاماته تجاه الشركة.
هكذا أفضى بنا التقدم العلمي والتقني إلى مشاكل تعكس الآفات المادية والروحية لعالم اليوم. حيث صاغ مبادءه وأحكامه على مبدأي التجريب والترويض، ليهمش كل ماهو ذاتي وروحي. في هذا المقام نتساءل هل الثورة العلمية التي نعيشها الآن والمتعلقة بالهندسة الوراثية ستوحد بين البشر أم ستعمق الفوارق؟ ما مصير التنوع البشري أمام التغييرات الوراثية والبيولوجية التي تندر بقيام حروب عرقية بيلوجية؟ هل يمكن القبول بإنتاج كائنات حية معدلة وراثيا؟ ما موقفنا من التغيرات المناخية ومن مختلف أنواع الإفساد والتدمير للبيئة؟ أضف إلى ذلك العديد من المشاكل الاجتماعية والنفسية والقانونية، وغيرها، التي طرحتها التقنية والتي نجد نفسنا مذهولين أمامها، وتزداد تعقيدا كل يوم:
بما أنه اصبح بالإمكان معرفة الأمراض التي سيصاب بها الشخص، وفي أية مرحلة من عمره، فيمكن لأحد الزوجين أن يطلب الطلاق بعد اطلاعه على الخريطة الجينية لشريكه. وقد يتقدم لوظيفة ما فيرفض لنفس الاعتبار. وقد ترفض شركة للتأمين تامين الفرد، لأن تكاليف علاج المرض الذي سيصاب به باهضة. إلى غير ذلك من المشاكل التي تتعلق بجوانب متعددة. مثل، مشكل شراء الأجنة الحية ومصير الأمومة ونحن نتحدث عن الحمل خارج الرحم. وانتقاء جنس المولود. هل من حق المولود الذي اختير جنسه أن يقاضي أبويه عندما يكبر بدعوى أنه لم يستشر؟ ماعلاقة المستنسخ بالمستنسخ منه. فبالرغم من أنهما يحملان نفس الصفات، فلم يأتيا في لحظة زمانية واحدة.
لقد انتقلت عدوى العلمية إلى الباحثين في فلسفة العقل. فقال بعضهم إن علينا اختزال مناقشاتنا عن طبيعة العقل بلغة المعتقدات والرغبات، وغيرهما من المواقف الافتراضية إلى الحديث عن الأحداث العقلية بلغة الفيزياء. فبإمكاننا استخدام لغة العلوم الطبيعية أو إحداها للبحث فيما يدور في دماغ الإنسان. حتى أن هناك من ذهب إلى القول بأن الوعي ذاته يمكن أن يكون ماديا صرفا.
مما سبق، يتبين أن مصادر المعرفة قد تغيرت بعد أن أصبحت السلطة الحقيقية بيد الشركات العابرة للقارات تحت ذريعة العولمة أو النظام العالمي الجديد. لقد أصبحت المؤسسات الكبرى تنهب كل الموارد الطبيعية المتاحة. وأصبحت حكومات هذه البلدان بمثابة وسيط مهمته تسهيل تنفيذ أوامر هذه الشركات. في هذا المقام أصبحنا أمام هجرة جديدة للأدمغة لاتتمثل في مغادرة الموقع الجغرافي الذي هو فيه، بل تمكنت البلدان المستقبلة من التخلص من هذا العبء بعد أن أصبح العالم أو الباحث تابعا لها وهو في بلده. فبظهور الشركات العابرة للقارات أضحت العديد من مختبرات العالم الثالث تابعة لمختبرات دول المتقدمة بدعوى الشراكة أو مايماثلها. وقد استفادت العديد من الشركات من هذه المعطى، حين اتخذت هذه هذه البلدان حقولا للتجارب.
لقد حولت هذه الشركات المجتمعات إلى مجتمعات استهلاكية، همها إشباع الرغبات المادية. كما تحولت الطبيعة إلى مجرد خزان لموارد هدفها تلبية ثقافة الاستهلاك. فوضعنا المقاول أمام مقولة مفادها أن كل شيء هو بدون قيمة مالم يستغل. ومن ثم، يتبين أنه ليس على استعداد للاعتراف بأية قيمة للطبيعة. فلا حقوق لها ولا اعتبار لها. فهي مجرد سلعة يجب استغلالها من أجل الربح المادي. فالمنفعة البشرية لايجب أن تخضع لأي اعتبار خلقي أو أن تقيد بأي قيد مهما كانت قيمته.
ب- أزمة العقل
يمكن القول بأن البداية الحقيقية للأزمة كانت لما عمد الإنسان إلى إطلاق العنان للعقل التقني دون أي قيد أخلاقي؛ ظانا أن التقنية ستمكنه من تحقيق السعادة. لقد اعتقد أن ربط العقل بالتقنية سيفضي به إلى التحكم في كل شيء. فالتقنية ستمكنه من تسخير الطبيعة وتطويرها بحسب رغباته. لكن سرعان ما انقلبت هذه التقنية على الإنسان والطبيعة وأصبحت مهددة لكل شيء. حيث أصبحنا أمام إنجازات يصعب حتى على العقل تعقلها. بذلك تحول العقل إلى أداة تتكلم لغة الترويض والصورنة والرقمية والبرمجة. مما جعل منه عقلا أداتيا غايته السيادة على الإنسان والطبيعة. بهذه الطريقة أصبح العقل بمثابة أداة وجرد الإنسان من قيمته ليصبح مجرد رقم شأنه في ذلك شأن بقية الأشياء الموجودة في الطبيعة؛ دون أخذ بعين الاعتبار مقومات الإنسان باعتباره كائنا تفاعليا باستمرار. فما قيمة العقل متى لم يراع البعد الروحي في الإنسان.
وبالجملة، فقد تم إخضاع الطبيعة والإنسان لسلطة العقل الذي أصبح مستبدا ومخترقا لكل القيم البيئية والإنسانية. لقد أفضى العقل بالإنسان إلى وضع فقد فيه السيطرة على نفسه بشكل اصبح من الصعب توقع النتائج. لقد رفع العلم شعار "كل شيء ممكن"، ومن خلاله تم توسط العقل التقني لتحويل العديد من الأمور إلى ضدها، بشكل جعل التقنية تضر حيث يجب أن تنفع. وأكبر دليل على ذلك ما نعاينه اليوم من استخدام العديد من الابتكارات العلمية بشكل يتناقض مع ما استهدفته في البدء. هكذا أصبحنا أمام إنجازات يصعب حتى على العقل تعقلها. فأصبح العقل لاعقلانيا حيث أراد أن يكون عقلانيا. فانتهى إلى فقدان دوره كرقيب للفعل الإنساني؛ حين استبعد بعضهم احكام القيمة كشرط مسبق للعلم، بقولهم إن على العالم ان يوجه جهوده إلى تحديد الوقائع والحقائق لا أن يسال عن قيمتها. فلا أخلاق في العلم ( كما قيل بانه لااخلاق في السياسة). إن استحضار القيم والأخلاق في مجال العلم يعني بالنسبة لهؤلاء الحيلولة دون تحصيل الموضوعية التامة والكاملة. فالموضوعية تقتضي من العالم استبعاد كل المقومات الذاتية واعتماد الحياد في النظر؛ فلا مشاعر ولا قيم ولا أخلاق.
بذلك أفضى بنا العقل إلى حدود أصبحت تطرح معه القيم الأخلاقية، وأصبح هناك من ينادي بوجوب تحجيم العقل والحد من غلوه. يجب إنقاذ العلم بإعطائه طابعا اجتماعيا وثقافيا. فالإنسان ليس مجرد كائن طبيعي، بل كائن اجتماعي وثقافي. فالعقلانية الأداتية التي سعت إلى تحرير الإنسان قد استعبدته. إنه عقل مجزء. فعوض أن يقيم علاقة تكاملية بين الكائنات أقام مقامها علاقة تفاضلية، بل تصادمية.
في هذا الإطار يمكن القول بأن العقل تحول إلى لاعقل حين فقد الحس النقدي؛ فعمد إلى تشييء كل شيء، فاستباح كل قيمة إنسانية وطبيعية.
ج- أزمة القيم
لقد اصبحنا أمام تقدم هائل للعديد من العلوم، خاصة علوم الاتصال والفضاء وصناعة الأدوية والتقنية الحيوية والهندسة الوراثية، وغيرها. وهو ما مكّن من القدرة على استئصال الملوثات من التربة والماء و تشخيص والقضاء على العديد من الأمراض والأوبئة، لكن هذا التقدم أثار بالمقابل قضايا تقتضي المعالجة من منظور فكر نقدي. فكما أن الهندسة الوراثية مثلا استخدمت في العديد من المجالات النافعة للإنسان، فيمكن كذلك أن تضر به؛ وأن تفتك به من خلال حروب جرثومية واستخدام أسلحة بيلوجدية، بل يمكن أن تتحول إلى أسلحة ذات طابع عرقي. وعليه، فلا يجادل أحد في أن الإنجازات التي حققتها العديد من العلوم مكنتنا من التغلب على مجموعة من العوائق، دون أن يجادل في نفس الوقت بأن العديد منها وضعنا أمام قضايا تهم القيم بالأساس. من هنا، تم الاقتناع بأن مسار العلم والدور الذي رُسم للعقل أفضى بهما إلى أن ينزعا عن الإنسان قيمته الحقيقية. بالتالي، يمكن أن نتساءل عن قيمة العقل متى لم يراع البعد الأخلاقي في الإنسان.
في هذا المقام تُطرح العلاقة بين البحث العلمي والقضايا الأخلاقية. ما طبيعة الأخلاق التي يجب أن تسود داخل الجماعة العلمية وداخل المختبرات العلمية؟ ما موقف الأخلاق من التجارب السرية لبعض المختبرات خاصة عندما تجرى على كائنات بشرية؟ كيف ننظر إلى تزايد العلاقة بين العلم والاقتصاد والاعتماد المتبادل بين العلم والأعمال الحرة من خلال المختبرات التابعة للمقاولات؟ ماهي أخلاقيات تمويل البحث العلمي؟ كيف ننظر إلى مختلف أساليب الإغراء والغش والخداع والتمويه والسلطة داخل الجماعة العلمية، ومختلف العلاقات التي تسود بين الجماعات العلمية ؟ كيف نسمح بسريان مفعول السرية داخل المختبرات، والتستر عن بعض الاكتشافات التي لا تخدم المقاولة؟ ماذا عن تزايد المنتوجات الاستهلاكية على حساب صحة الإنسان وقيمه ومعتقداته؟ وغيرها من القضايا التي يمكن أن نجادل فيها أخلاقيا.
يفضي بنا ماسلف إلى أن القيم السائدة في عالم اليوم تنبني على:
أ - تغليب أساليب السلطان على الحجة(الإكراه بدل الإقناع )
هناك تباين بين مفهوم السلطان ومفهوم الدليل. الاول يستند إلى القوة المادية على عكس الدليل الذي يقوم على إعمال الفكر. كما تتمثل السمة الأساسية للسلطان في الاستعلاء؛ بغاية ترسيخ المفاضلة؛ بينما يلقي المتكلم بالدليل إلى الغير على وجهة التساوي، بغاية التعاون. فصاحب الدليل يطلب إقناع الغير، سالكا مسلك رضاه.أما مسالك صاحب السلطان فغالبا ما تكتسي صبغة الوعد والوعيد: "سلم بكذا وإلا تعرضت لكذا،"افعل كذا وإلا كان مصيرك كذا".... كما ان الإقناع بالقول لايكون إلا بالنظرالعقلي القائم على الحجة، بينما استخدام السلطة يكون بقوة القهر.
ب- بناء عالم قائم ثنائيات مضادة
لقد أصبحنا في عالم مبني على ثنائيات متضادة: الحرية مقابل الاستبداد، والعالم الحر في مقابل عالم الفقر، ومعي في مقابل ضدي؛ إلخ. مما أفضى بنا إلى ثنائيات تصادمية تستند إلى قيم ترد على صورة زوج ذي طرفين متضادين، أحدهما يمثل قيما إيجابية والآخر قيما سلبية. بالتالي، ادعى الطرف القوي بأن العالم سيعمه الرخاء والازدهار والطمأنينة لو كان الجميع مثله. فبنى مواقفه على النظرة الأحادية في التفكير والسلوك.
ج- تناقض القول مع الفعل
كثيرا ما نعاين بأن الواحد منا يقول ما لايفعل. فهو يسلم من الوجهة النظرية بشيء لكن يخالف فعله قوله. فتجد هوة شاسعة بين النظر والعمل. فقد يسلم أحدنا مثلا بالتعددية والحق في الاختلاف، لكن لا يلبث أن يعرض عن هذا متى انتقل إلى مستوى الفعل، بأن يوقف هذا الحق في اتجاه واحد. فينظر إلى نفسه على أنه الطرف الوحيد الذي يمتلك الحقيقة. بالتالي، له الحق في أن يختلف مع الآخر دون أن يكون للآخر الحق في ذلك. للحفاظ على هذا الوضع، يسعى إلى انتزاع سلطة تمكنه من قهر الآخر. ومن ثم، يحول معرفته حقيقته مطلقة.
يتجلى هذا التناقض في المواقف التي تتبناها العديد من الأطراف، أفرادا كانوا أم جماعات. وعادة ما يعود هذا إلى تغليب مصالح خاصة ولو على حساب المبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية. فقد ترفع دولة ما شعار الحرية، لكنها في ذات الوقت قد تجبر أطرافا معينة على تنفيذ أمر ما. بالتالي، قد يلزم القوي الضعيف بما لايلتزم به.
هذه السمات التي عمت العالم ولدت صراعات بين توجهين، يدعي أحدهما أنه وحده يمتلك الحقيقة، ومن ثم، وجوب أن يُتخذ نموذجا يحتدى به. وتوجه يرفض النمذجة سواء في النظر أو العمل، ويدعو إلى التعددية في كل أبعادها.
تتميز تصورات الطرف الأول بالسعي إلى بناء نموذج اجتماعي وثقافي واحد، ومنظومة قيم عالمية واحدة، قادرة على خلق "مواطن عالمي". لهذا، يرى في التعددية فوضى، وينظر إلى الاختلاف على أنه تآمر، وإلى التسامح على أنه ضعف. ومن ثم، بني ثقافته وتعامله على ركنين هما: الرقابة والتحكم.
لقد أدت المواقف الفكرية للتوجه الأول إلى ردود أفعال لدى العديد من الأطراف التي رفضت بناء العالم وفق نمط أحادي. حيث اعتُبرت هذه المحاولة غلوا وتطرفا. فمبتغاها هو إقصاء الغير لصالح نموذج عالمي واحد. في حين يقتضي الوضع أن يكون لكل طائفة أو جماعة أو أمة الحق في أن تكون لها معتقداتها وثقافتها الخاصة وطرق تدبرها للحياة، وأن تنظر إلى الواقع بطريقة تخصها، في إطار مقتضيات مشروعة تراعي حقوقها وتلتزم فيها بواجباتها. من هذا المنطلق، يرى هذا التوجه وجوب تجاوز التعامل بعقلية الثنائيات المبنية على الأضداد. وعليه، يدعو إلى التعددية القائمة على التفاهم والتسامح في ظل الحق في الاختلاف. فلا يمكن التسليم بأن طرفا ما هو الممتلك الوحيد للحقيقة، بشكل يعطيه حق التصرف أين شاء ومتى شاء وكيفما يشاء. ولن يحصل ذلك إلا بالبدء بالتخلي عن المفاهيم الأحادية (النظام العالمي الجديد) والتصورات الكلية"(العدالة المطلقة، الحرية الدائمة). إن تجاوز هذا الوضع التصادمي يتطلب البدء بتجديد النظر في المفاهيم، لينتهي بأن يكف كل طرف على اعتبار الطرف الآخر عدوا لا يصلح معه إلا العنف ولا يستحق إلا الموت.
ووفقا لما سبق سنعمد إلى طرح بعض التصورات التي نعتبرها معالم طريقة للخروج من الوضع الذي نحن فيه:
أ- وصل التعقل بالتخلق
تكاد معظم التحليلات تجمع على أننا في عالم تتهاوى فيه الأنساق الفكرية والقيمية بشكل يجعلنا نتساءل عن الكيفية التي يمكن أن نبني بها عالم متوازن. هل الأمر يقتضي التأسيس العقلاني أم التأسيس الأخلاقي لأقوالنا وأفعالنا؟ هل تحديد حاجيات الإنسان يجب أن يستند إلى العقل أم الأخلاق؟
نحن أمام موقفين، أحدهما يعتبر العقل هو الفاصل في كل شيء، مما يستوجب اتخاذه حكما كليا. فمتى تمكن الإنسان من استخدام عقله توصل إلى حل المشاكل التي تواجهه. فالعقل هو وحده المعول عليه للتحكم في الطبيعة وتحسين أوضاع الإنسان. وبذلك يرى المدافعون عن هذا التوجه بأن الأخلاق لا تخدم إلا الضعيف، وأن التسامح نوع من الاسترخاء. هكذا أسقط العديد من الدارسين معيار التقويم الأخلاقي ليأخذوا بالعقل وحده. ومن ثم، وجب قطع الصلة بكل القيم التي لا تولدها مقتضيات التقدم العلمي والتقني. ذلك أن المدافعين عن ضرورة الاحتكام إلى العقل في كل الأمور يقرون بأن خاصية الإنسان تكمن في قدرته على استخدام عقله. ومن ثم، القدرة على إدراك مختلف وجوه العلاقات القائمة بين مكونات الطبيعة. فالعقل هو جوهرالإنسان، وبه يفترق عن غيره من الكائنات. بالتالي، يعد مقومه الأساسي وأساس إنسانيته.
بينما ذهب المخالفون لهذه الدعوى إلى التأكيد على أن للعقل حدود؛ فلا يمكنه أن يعقل كل شيء. كما أن الاستخدام المفرط له من شأنه أن يحول الشيء إلى ضده. فقد ينتهي بنا إلى الحرب متى وجب استخدام السلم؛ وقد يفضي بنا إلى التعصب والكراهية متى وجب التسامح؛ وقد يذهب بنا إلى استخدام السلطان متى اقتضى الأمر الحجة والدليل؛ وقد يجعلنا نستخدم التغليط والتضليل متى اقتضى الأمر الحوار المشروع، وهكذا....وعليه، فالعقل يمكن أن يضر بالإنسان متى سار بالأمر إلى خلاف ما سطر له. وأكبر دليل على هذا ما نعاينه اليوم من استخدام العديد من الابتكارات العلمية بشكل يتناقض مع ما استهدفته في بدايتها، لتتحول بذلك المنفعة إلى مضرة. لذا دعا العديد من الباحثين إلى وجوب البحث عن فاصل لا ينقلب بالضرر على الإنسان متى أراد به النفع، أو حصول الضرر متى أراد ترك أمر ما. وقد وجدوا في الأخلاق المعيار الذي مكنهم من التأسيس لأقوال الإنسان وأفعاله. بحيث لا يمكن أن يجعل المعيار الأخلاقي الشيء ينقلب إلى ضده. فلا يمكن أن يحصل الضرر متى نوى المنفعة. وهكذا، فاتخاذ العقل معيارا للتمييز يُصعب علينا عملية التفاضل بين الأشخاص بأن نقول هذا أعقل من هذا، في الوقت الذي تسهل فيه المفاضلة على المستوى الخلقي. وبما أن التفريط أخلاقيا في شيء لا يمكن أن يجعله بحال من الأحوال ينقلب إلى ضده، فجعل العقل هو الحكم الوحيد في النظر والعمل قد يضر بنا أحيانا. فباسم العقل قد ترتكب الجرائم في حق الإنسان والطبيعة؛ لكن باسم الأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة يُرفض هذا السلوك. بالتالي، يرى هذا التوجه بأن القيم الأخلاقية هي القابلة لتصحيح مختلف مظاهر الزيغ والانحلال الناتجة عن الاختراعات التقنية. فما نسعى إليه بحجة موضوعية المعرفة العلمية، أو استقلال المعرفة العلمية، قد يفضي بنا إلى طغيان المفاسد على المصالح. على هذا، نحن مجبرون على إيجاد مقومات ومعايير تمكننا من دفع الأضرار التي قد تنتج عن انقلاب التقنية من أغراضها الحسنة إلى السيئة. ولتلافي هذا، لابد من اعتماد القيم الأخلاقية التي تعد السبيل لتلافي التسيب العقلي ودرء آفات التقنية. فمن المفروض التحكم في التقنية وصرفها لتخدم الإنسان لا أن تضره. فكلما انتفت الأخلاق انتفى جزء من إنسانية الإنسان.
بما أن الصراع يتمركز في المجال الفكري عامة والقيمي خاصة، فإن السؤال هو كيف نحول دون استخدام السيئ للعقل بالتاسيس لعقلانية جديدة قوامها التفكير النقدي؟ فلما كانت التقنية ضارة في بعض جوانبها، فلا يمكن اعتبار مقصد إسعاد الإنسان حقيقيا بالنسبة للعقلية العلمية والتقنية المعاصرة. وهو ما يجعلنا نجعل من الأخلاق المعيار القادر على رسم حدود العقل وجعله يتعقل. فمتى استند العقل إلى الأخلاق وجد مرشدا وهاديا.
هكذا انطلق العديد من الدارسين من تساؤل أساسي يهم ما إذا كانت الأخلاق هي التي تجسد إنسانية الإنسان أم العقل. فاعتبر العديد منهم أن قيمة العقل تتحدد بمدى مراعاته للبعد الأخلاقي في الإنسان. على ضوء هذا، وجب التمييز بين معالجة الاختلالات التي يعاني منها الإنسان والطبيعة باعتماد العقل ومعالجتها استنادا إلى الأخلاق. وهو مايفسر تنامي التفكير في المباحث القيمية، خصوصا بعد أن احتد الصراع بين قائل بمركزية الإنسان وقائل بوجوب توسيع مبدإ القيمة ليشمل الكائنات الأخرى. فبما أن قيمة الحياة تكمن في الحياة ذاتها، فلا يمكن قبول مزاعم الداعين إلى أن المخلوقات الوحيدة ذات القيمة هي البشر. فلا يمكن قبول تراتبية بين الكائنات على أساس معايير يحددها الإنسان وفق مصلحته الخاصة. فلعل الإنسان هو القائس الوحيد للأشياء، لكنه ليس هو المقياس الوحيد. وعندما نتعقل ذلك سنكتشف التقاطع القائم بين القيمة والواجب.
علة هذا، لابد من جعل الأخلاق قوام كل ما يأتيه الإنسان من أقوال وأفعال. فهي التي بإمكانها أن تقوي في الشخص النظرة الإنسانية النبيلة التي تدفع به إلى أن يعامل الناس باعتبارهم أناسا، لا بحسب جنسهم أو عرقهم أو لونهم أو عقيدتهم. فعبرها قد ينزل الإنسان إلى مرتبة البهيمة، وقد يسمو ليصبح تقيا.
قصدنا ليس الدعوة إلى إقصاء العقل و عدم إعماله، بل توسيع نطاقه. فعوض الأخذ بمفهوم ضيق للعقل ندعو إلى تبني عقل واسع يشمل الأول ويضمه كجزء منه. وهو ما يعني تعويض العقل الأداتي الضيق بعقل واسع. فإذا كان العقل الأول، الذي هو تأملي، يرتبط بمستوى تحقق الأمور، فإن هدف الثاني، الذي هو عقل تدبري، هو تحديد المقاصد الكلية، بجعلنا ننظر في مآل الأمر قبل الإقدام عليه. ومن ثم، يكون دوره الأساسي تقويميا. فهو الذي بإمكانه أن يحُول دون أن يُستخدم العلم العقل بشكل آلي بعيدا عن تحديد المآلات. المطلوب إذن هو إعادة تحديد دور العقل ليتحول من مجرد أداة إلى عقل فعال ومتفاعل. فالعقل يجب أن يكون مصدرا للتفكير السليم والسلوك القويم. فوصف الإنسان بأنه عاقل يعني أنه يتسم بالحكمة. فقد قيل العاقل هو الجامع لأمره ورأيه. و العاقل من يحبس نفسه ويردها عن هواها.
أمام هذه الانتقادات والاحتجاجات ضد تسيب العقل وسيطرة العقل الأداتي الذي من شأنه أن يقود الإنسان والطبيعة إلى الهلاك تحولت فلسفة العلم في النصف الثاني من القرن العشرين من اعتقادها الراسخ بإمكان وجود حقيقة موضوعية ومطلقة إلى موقف يقر بمحاولة الاقتراب مما هو مفترض أن يكون حقيقة. فنشأت بذلك حركات مضادة للتوجه الذي أخذ العلم يسلكه. فهو لا يمكن أن يقودنا إلى الحقيقة النهائية فيما يتعلق بكل أسرار الكون. وأن محاولات الوصول إلى أجوبة حقيقية ونهائية في ميادين مثل البيولوجيا وعلم الخلية والجيولوجيا والبيئة والجغرافيا الحيوية، وغيرها سيفضي إلى نتائج يصعب تعقلها. لهذا نقول بوجوب إدخال العلم في مساره الحقيقي بعد أن أخرجته منه الابستمولوجيا. فالكيفية التي يدور بها البحث في العلم لا تختلف عن تلك التي نعاينها في مباحث أخرى. فهناك تغليط وتعتيم وسلطة، وغيرها من المقتضيات التي لايمكن بموجبها فصل مسار العلم عنها. بالتالي، يجب أن نضع العلم في سياقه الفكري العام. فلايمكن التسليم بمقولة حياد العلم. (أين الحياد وهناك طرف يعطي لنفسه الحق في تحديد من يجب أن يمتلك التقنية ومن لايجب ان يمتلكها). لن يتحقق هذا إلا بإنقاذ العلم، من خلال إعطائه طابعا اجتماعيا وثقافيا. فلايمكن فصل العلم عن السياق الثقافي والاجتماعي والعقدي الذي يظهر فيه. فالإنسان ليس مجرد كائن طبيعي، بل كائن اجتماعي وثقافي. فالعقل ظاهرة بشرية يتمتع بالنسبية وله حدود.
ب- تغليب صوت الحكمة
إن العيش في عالم يسوده التوافق يقتضي التخلي عن النظرة التصادمية القائمة على التقسيم الثنائي للعالم إلى أصدقاء وأعداء. أي التوقف عن اعتبار أن هناك عالم السلم والديمقراطية والحرية والحقوق؛ وهو مواجه ومهدد من عالم الفقر والقهر والجهل والتطرف والاستبداد. فحل النزاعات لا يتم بمنطق القوة ولا بوسائل القهر والإكراه، بل بإقامة حوار يتجاوز المصالح الضيقة ليراعي المقاصد الكلية و القيم الأخلاقية النبيلة. ولن يتحقق هذا إلا بتغليب صوت الحكمة وجعل حكماء العالم يتحاورون. فغاية الحكيم هي تجاوز المتغير والظرفي ليربط تحليلاته بما هو عام وشمولي. ويتميز بالاجتهاد والمساءلة النقدية المتحررة من مختلف الضغوط. لهذا يعالج الحكيم الأمر المنظور فيه معالجة نقدية وشمولية تدفعه الرغبة في جلب المصالح ودرء المفاسد. ذلك أن الحكيم ينهض بعبء النظر بطريقة اجتهادية وشمولية، لأن الحكمة تلزمه الصدق في القول والإخلاص في العمل. كما أنه لا يبتغي بنظره التكسب والمباهاة، ويتجنب كل أسباب الفتنة والفرقة. فالحكمة فكر وعمل. فهي تطلب لتُعلم ويعمل بها.
كل هذا يتطلب منا إعادة تحديد دور المفكر حتى نحول دون استغلال السياسي له. فدوره الحقيقي يجب أن يكون هو توجيه القرار السياسي لا أن يصبح خادما للسلطة السياسية أو الاقتصادية. عليه أن يتسم بروح التفكير النقدي.
إذا كان من المفروض على المفكر أن يحرص على استقلاله الفكري، فعليه كذلك التزامات أخلاقية؛ فلا انتهازية في تفكيره ولا انحراف في سلوكه. كل هذا يتطلب من جهة الالتزام الأخلاقي للسياسي بعدم إساءة استخدام المفكر ليضفي الوجاهة الموضوعية والمصلحة العامة على قراراته، ومن جهة أخرى نزاهة هؤلاء وسمو فكرهم ونبلهم. إن الوضع يتطلب مثقفا فاعلا، لا يصرف مواقفه بحسب الكسب والغنيمة. فتغليب صوت الحكمة هو القابل لأن يخرجنا من الاتباع إلى الإبداع، فعبرها يمكن إعمال العقل والتحكم في طرق استثمار المعرفة، بما يمكننا من توسيع آفاق تفكيرنا بالوصل التكاملي بين العقل والأخلاق.

المصدر:
د. حسان الباهي . جامعة ابن طفيل. القنيطرة

: العلم بين الحقيقة والنّمذجة (تحقيق محمّدعلي كسيرة)

بقلم صالح الزناتي



II- العلم بين الحقيقة والنّمذجة :

1- أبعاد النّمذجة
أ - البعد التّركيبي
الأكسمة – البنية – التّرييض – الصّورنة
ب – البعد الدّلالي
الافتراضي – القانون - الملائم - النّظريّة - الواقعي.
ج – البعد التّداولي
التّفسير – التّحقيق – الفهم – النّجاعة.
2- النّمذجة ومطلب الحقيقة
أ- الحدود الابستيمولوجيّة
الاختزاليّة – التّاريخيّة – الأنظمة التّقنيّة.
ب – الحدود الفلسفيّة
الحقيقة – المسؤوليّة – المعنى.


تتمحور هذه المسألة حول النّمذجة العلميّة باعتبارها التّمشّي المشترك بين مختلف الحقول العلميّة والمميّز لها عن أشكال الخطاب الأخرى، وتتعلّق بمنزلة النّموذج العلميّ المزدوجة بين انشداده إلى مرجع خارجي عنه وسعيه إلى بناء واقع مستحدث، أي بين ضرورة تلزم النّموذج، ومواضعة موسومة بالتّعدّد والنّسبية.

ذلك ما يبرّر تفصيل القول في النّمذجة العلميّة على جهات ثلاث (تركيبيّة ودلاليّة وتداوليّة) تتصادى مع توتّرات ايبستمولوجيّة ثلاثة :

- توتّر بين تمثيل الظّواهر باللّغة الطّبيعيّة وتمثيلها بواسطة أنظمة رمزيّة اصطناعيّة.

- توتّر بين معطيات التّجربة العيانيّة ومقتضيات الإنشاءات التّجريديّة.

- توتّر بين معرفة نظريّة مطلوبة لذاتها وإرادة نجاعة التّحكّم في الظّواهر.

إنّ مقاربة الممارسة العلميّة بواسطة النّمذجة تتيح لنا قراءة نقديّة للإنتاج المعرفيّ العلميّ تمكّن من تجاوز تشتّت حقوله، ومن تقصّي حدوده الايبستيمولوجيّة والفلسفيّة.


-----------------------------------الدّراسة المنقولة---------------------------------------------

النمذجة وآفاق التنظير في الخطاب النقدي الحديث

-------------------



هذه الدّراسة منقولة -تحقيق ومطالعة -الأستاذ محمّد علي كسيرة -
1 - النمذجة وبناء النماذج:

1.1- مفهوم النموذج:

لقد اكتسب مصطلح النموذج (Modèle) "حمولة منهجية واسعة في الدلالة على كل الأشكال والإنتاجات المنذورة لخدمة مرامي المعرفة"(1). ويذهب "H. Wermus" (1983) إلى استبعاد العلاقة المباشرة التي يمكن افتراض نشوتها بين النموذج والمجال الواقعي إذ ما يميز النموذج بوجه خاص هو كونه بناءا (Construction) يصاغ في الغالب من بعض الخواص المنتقاة من الواقع. ويتم ذلك بسند (ضمني) من نظرية مسبقة قد تكون ساذجة. وعلى غرار ذلك فإن الفكر التنظيري (P. Théorisante) أو الصوري، يستعيض عن "الفكر" كما هو، بهندسة مفهومية معينة تنطلق من اللغات والمكونات الأخرى (الرمزية) لتؤسس، مع ذلك، أنسقة متنوعة وذات طاقة تعبيرية هائلة. والمفروض في النظرية تمثيل وشرح واشتقاق الوقائع من النموذج المعطى بل العمل على إثرائه بعلاقات جديدة واحتوائه ضمن الاتجاه الذي ينحو إليه البحث العلمي. وثمة وفرة من الإجراءات الخاصة لتأسيس النماذج والنظريات تظل بالضرورة وفي مجموعها، مجالا يوظف فيه الباحث-بصورة غالبا ما تكون ضمنية-كفاءته وإبداعيته ونوازعه(2). فالعلاقة الناهضة إذن بين النموذج والعالم الخارجي، أي شكل الخطاب (التمثيل الخطاطي R. Schématique) الذي ينتجه والذي يحدد بشبكة علاقاته الداخلية نوعية ودينامية الروابط الممكنة مع موضوعه الخارجي.

ويلزم عن هذا التحديد، ضرورة التمييز بين نمطين أساسيين من النماذج:



أ - النموذج المادي: ويؤسس بالاستناد على المعطيات التجريبية للموضوع.

أ.أ- النموذج النظري: ويسمح-انطلاقا من نموذج الموضوع- بصياغة نظرية معينة تجعل من الظاهرة المدروسة ظاهرة أكثر عمومية وشمولية، محجوجة ومسنودة بالتجربة مع فسح المجال أكثر لتعدد الفرضيات (Hypothèses) التي قد تتيح إمكانية تجاوزها(3). لكننا نذهب إلى وجود نوع من النماذج النظرية القابلة للتعديل والمراجعة في ضوء التشكيلات النظرية النقيضة. فأهميتها الإجرائية تكمن بالنسبة إلى "الخطابات النقدية الشارحة" في كونها تناقح أساسا عن طبيعتها النظرية عبر خرق ما يسمى بالامتحان التجريبي أو معياري المقبولية واللامقبولية المصوغين في نطاق التجريبية المنطقية والوضعية المحدثة.

وبعبارة أخرى فالذي يحدد فاعلية هذا النمط النموذجي يتمثل بوجه خاص في أسلوب مقاربته للمشاكل المطروحة. وليس هذا ما يميز النموذج النظري وحده في سيره نحو تحسين كيانه، فالأهمية الاستراتيجية للعلم نفسه في تصور Larry Laudan تكمن بالأساس في اقتراحه حلولا ناجعة لمشاكل مطروحة بحيث تشكل هذه افعالية، سواء أكانت متعلقة بمشاكل تجريبية أم مفهومية، وحدة قاعيدة في مسار تبلوره وتقدمه(4). ولذلك تنحو النماذج النظرية هذا المنحى بما ينتصب عاملا محددا ومترجما لقدراتها الإجرائية-التداولية.

إن تطلب التجريبية للشرط التجريبي اكتنف أيضا حدها للنموذج ذاته. فالنماذج عند (Jean-Pierre Changeux) لا تعدو كونها "تمثيلات مبسطة ومصورنة عن الواقع الخارجي يقترحها رجل المعرفة العلمية ويقارنها به (أي بالواقع) عن طريق التجربة، جاهدا في البرهنة على صلاحيتها بالارتكاز على "معايير صريخة وذات صبغة بتية"(5). وهو مفهوم نلحظه عند غريماس وكورتيس (1979) اللذين يشترطان في لنماذج مطابقة مزدوجة: مكابقة للنظرية (استنباط) ومطابقة للمعطيات التجريبية (إثبات VS تفنيد) [ فقرة التصور الغريماسي للنمذجة رقم 1-3-1].

ونظرا لما يستلزمه الأساس التجريبي، رغم كونه خارجا عن مقاصد النموذج التكويني الذي سنقترحه لاحقا من وقفة إبستمولوجية متأنية، فقد وزعنا هذا القسم المنهجي إلى الفقرات التالية:

ا-مشكلة النمذجة من خلال منظوري روني طوم وبتيتو كوكوردا.

اا-التصور الغريماسي للنمذجة

ااا-النمذجة في نظرية الأدب.

على أن إدراج الفقرة (ااا) إنما يرد في سياق التمثيل ما أثمرته بعض النماذج النظرية-النقدية المتاخمة للخطابات العملية والإبستمولوجية المعاصرة من التساؤلات جوهرية تمس في الصميم قضية إيجاد نموذج تحليلي للظواهر الأدبية.

1.2.1-مشكلة النمذجة عند "طوم" و "كوكوردا":

طرحت مشكلة النمذجة (Modélisation) في سياق مراجعات مبادئ النظرية السيميو سردية عند غريماس. وقد تم تأطير تلك المراجعات تأطيرا نموذجيا كارثيا (نسبة إلى نظرية الكوارث) يرتكز على بلورة تصور عقلاني متعال لمفهوم وأساسيات النمذجة. ومن شأن هذا التوجه الإبستمولوجي أن يعيد النظر في الأسس العقلانية الغريماسية مع "التمييز بعنياة بين نمذجة الظواهر، وتمثيل المفاهيم"(6). وقبل إبراز الملامح العامة لتصور بتيتو (1985) (أ) واستلزاماته على مستوى الاختيار المنهجي المدافع عنه في هذا القسم، بل والخلفيات النظرية الموجهة لصيغته العامة، نريد أن نقف هنا عند العلاقة الجوهرية الكاشفة عن عمق التضافر الإجرائي بين الحدود الصورية المعتمدة لدى بتيتو، ومرجعياتها الإبستمولوجية ضمن نظرية روني طوم.

1-منذ مشروع (الاستقرار البنائي وتكون الشكل) طوم (1977)، الذي حمل كعنوان فرعي/ "بخيث في النظرية العامة للنماذج"(*) برز إلى الوجود مفهوم موسع لنظرية المعرفة ولشروط قيام إبستمولوجيا عامة مسكوت عنها في أغلب الدراسات التي انضوت تحت لواء النزعة التجريبية. وقد لخص بتيتو (1987) نقود طوم على التجريبية في مأخذين متقابلين:

أ-تبعية الحقيقة النظرية للسلطة العملية للتجربة وما نتج عنها من تحويل تدريجي للعلم إلى مشروع خبرة نافذ ونشي لالتزاماته الأدبية التي يتصدرها معرفة الكائن(7)

ب-أدلجة (Idéologisation) القدرات النظرية الجديدة في شكل معرفة جديدة أو علم جديد (Nuova Scientia)(8).

وأما الطبيعة التقابلية التي يتشح بها المأخذان كلاهما وما قد ينجم عن المراوحة بينهما من صعوبة تلمس موقف نظري متجانس، فتكمن بخاصة في تناقض حدي الثنائيتين اللتين يولدهما ذانك المأخذان. وهاتان الثنائيتان هما:

أ-الفلسفة العقلانية – المعرفة التقنية المغالية(Techniciste)

ب-العلم العقلاني - الفلسفة التأملية (النظرية).

ولقد تبلور الموقف الأول قبل أواسط العقد السابع من هذا القرن، حين عرض طوم (1972) تساؤلاته حول حاضر العلم وكبيعة إشكالاته النوعية، فأوضح مأزق التجريبية الساذجة الذي وقعت فيه الدراسات التجريبية حين انساقت وراء إنماء ومراكمة أنسقة وصفية للواقع، وتغافلت عن استكناه "آليات الضمنية" (Sous-Jacents) للسيرورات التي ينصب عليها التحليل"(9). وهذا الخطأ المنذر بغربة السؤال النظري-التأملي- في بيئة المستجدات العلمية- ومحاولة اختزاله إلى مجرد نماذج كمية، هو الذي أدى إلى انحسار محاولات التفكير في مشروعية النمذجة المجردة وتضخم السبر الاختباري مع تفاحش سلطة المؤسسة العلمية التي تحتضنه(10).

إن فقدان التجريبوية لذاكرتها "النظرية يعتبر لوحده مفارقة شاذة يتعين تصحيح وضعيتها في اللحظة الراهنة ابتغاء تحليل جدلي معمق لأسئلة الهامش النظرية. ولاشك أن صنع النماذج وتداولها اعتباران أساسيان لا غنى عنهما، ولا يمكن بحال من الأحوال، في نظر روني طوم، تقييدهما بشرط المواطأة التجريبية كما تفيد مزاعم الوضعية الساذجة.

فخلافا لهذا المنحى، ما يهم "في النموذج، ليس اتفاقه مع التجربة(..) بل وزنه الأنطولوجي ((Ontologique أو إثباتات النموذج عل صعيد الآليات الضمنية للسيرورة المدروسة"(11). ويظل "اقتصاد الوصف"" معيارا أساسيا في التحقق من "كفاية الصورنة (..) والاقتصاد ذاك يصدر دائما عن فرضية، أي عن تمثل ذهني جزئي للظواهر موضوع الدرس"(12) ويمكن اعتبار ثانوية المحك التجريبي أساسا لإكساب (أو اكتساب) الشرعية (Ausweisung) وبالتالي استلزمنا من الاستلزامات النظرية لهذا المنحى.

2 - لاحظ طوم، من جهة أخرى، افتقار التنظير البنيوي لأي أساس إبستمولوجي مادام لا يؤسس انتقاده للبنيات على تبرير دينامي، وما دام سنده في تبرير انتقائه "اتفاق الخطاطة المجردة، استدلاليا، مع المورفولوجية التجريبية (أي مع المتن المستوعب للمعطيات التجريبية)"(13). وإذ تثير نظرية الكوارث هذا الإشكال الجوهري، فإنها تستأثر وحدها -في نظر طوم- بالقدرة على حله. من ثمة ينبغي النظر إلى أهمية نظرية الكوارث على أنها لا تكمن فقط في كونها مولدة للنماذج أو عملة جديدة في التعامل مع الأنساق، بل وأكثر من ذلك، في كونها تتعدى الحدود التي تؤطرها منظرية متماسكة، لتصير بمثابة منهج وأسلوب في العمل.

3 - أفضى هذا المسار الإبستمولوجي التأسيسي إلى تجسير الهوة بين العلوم الطبيعية (Naturwissenschaften) وعلوم الإنسان (Geistswissesnschaften)، وإلى اقتراح صيغة جديدة سماها روني طوم "سيميوفيزياء" (Sémiophysique). وتقوم بشكل عام على عملية نقل تركيبية أساسها تشغيل العلوم السيميولسانية في مقاربة حقول العلوم الطبيعية. وقد أثبتت هذه الطفرة الجذرية جدواها في قراءة منظومة الفيزياء الأرسطية على أسس جديدة، بعد مرحلة القطيعة الغاليلية (نسبة إلى "غاليليو" 1942).

إن القطيعة التاريخية المكرسة بين المناهج النقدية والإبستمولوجيات الحديثة تشكل -في نظرنا- عقبة كأداء يصعب اقتحامها في سياق البت في كثير من الجوانب الأساسية لنظرية الكوارث التي تشكل قطب الرحى في النموذج التكويني الذي اقترحناه وترتبط هذه الملاحظة أكثر بالمجهود الذي ينبغي بذله لفهم قضية النمذجة كما تبلورت مع بتيتو (1985) على وجه الخصوص. ولعل مظاهر تلك العقبة أن تحول دون تذليل التعقيدات والوعوائق التي يمكن اختزالها في جانبين أحدهما يتعلق باللغة الواصفة التي تأبى إلا أن تتخذ من الصورنة المفهومية الموغلة في التجريد أسلوبا، والتمثيل الرياضي المكثف أداة، مما يؤدي إلى صعوبة استيفاء الدقة في تمثل اللغة الواصفة باعتبارها شرطا أول لاستيضاح طبقات الخطاب النظري العام للمشكلة المطروحة. وحتى إن قهر الدارس هذا العائق واستوثق من موجهات الخطاب وتدبر مستغلقاته، فإنه معرض لا محالة لمشكلة لا تقل عن الأولى صعوبة، وهي مشكلة اختيار اللغة الواصفة (الثانية) الأقل تعقيدا، ولهذه الأسباب جميعها، اقتصرنا على حوصلة الملامح العامة لقضية النمذجة عند "جان بتيتو" (1985-أ)، دون الخوض في جوانبها الرياضية.

2.2.1-طبيعة البناء التركيبي للنموذج:

سنعمل على معالجة النمذجة (Modélisation) وبناء النماذج انطلاقا من مبحث "بتيتو" (1985-أ) المعنون ب: "أطروحات من أجل موضوعية سيميائية"، وفيه حاول "بتيتو" طرح مشروع تصور عقلاني متعال (Transcendantale) للنمذجة شبيه بذلك الذي نصادفه في الفيزياء(14). فعمد في القسم الرئيس من مبحثه إلى استرجاع مفهوم "طوم" للنموذج كما بسطه (G. Geymonat و G. Giorello) في دائرة المعارف الإيطالية (Einaudi). فالنموذج ليس سوى تناظر بين ظاهرة معينة (نرمز لها بحرف x) وموضوع مركب (M) هو النموذج، وينبغي أن يفي ما بينهما من الشبه بالإجابة عن السؤال (Q) الذي نطرحه بصدد (X ) ولتحقيق هذا الغرض يجب توافر هذه المجموعة من القيود:

أ - أن يكون السؤال(Q) هو المحدد لتركيب (M)

أأ - أن يكون بمقدورنا ترجمة السؤال (Q) إلى سؤال (Q) يخص ((M

أأأ - أن يكون بمقدور الإجابة ( R) التي يقدمها (M) عن (Q) أن تخضع بعد ترجمتها إلى إجابة موحدة ( R) و (Q) للتحققات والتمحيصات التجريبية (الستويغ الاستدلالي بواسطة: الإثبات-التفنيد)(15).

ويستوجب القيد (ااا) المتعلق بالتسويغ الاستدلالي النهائـي للنماذج عامة، توافر إجرامين متمايزين ومتلازمين يتعلق أولهما بالجانب اللساني في انتقاله من اللغة الطبيعية الوصفية لملاحظة (X) (أي لملاحظة الظاهرة)، إلى اللغة النظرية المصورنة للنموذج (M). بينما يتوقف الجانب الثاني المتصل بالموضوع، على معرفة استراتيجية الانتقال من ظاهرة معطاة إلى موضوع نظري-صوري مركب- Théorético Formel. ويندرج هذا القيد ضمن المحور الإبستيمولوجي بثيماته الكبرى. أما الاختيار الرياضي في هذا المستوى فيمثل حالة خاصة لكونه ينزاح بمنهجه ونوعية اقتضاءاته عن كثير من تلك المعايير والقيود. من ذلك استحالة قابلية للتجريب، وبالتالي خرقه للقيد (ااا) فضلا عن طبيعته القياسية الاحتمالية (Abductive)، إذ لا هو بالاستقرائـي ولا بالاستنباطي. وتظل هذه السمة المميزة للاختيار الرياضي مهجوسة بثقل النظري والتصوري في أبعادها الأنطولوجية الخصيبة للاختيار الرياضي لتتجلى بوضوح كثافة المنظور الظاهراتي (الفينومينولوجي). وهذا الأخير هو -حسب مفهوم "هولطون" (Gerald Holton) "ثيمة" أو اختيار إبستمولوجي مركزي في نظرية الكوارث برمتها.

ولمزيد من الإيضاح يمكن تمثيل الإجراءات الأساسية السابقة، على هذا الشكل(16):

التحقق التجريبي

السؤال (Q) الظاهرة (X)

التسويغ الاستدلالي

-التناظر (Aposteriori)

الترجمة -تسويغ الإجابة (R )

قبلي

الترجمة

السؤال (Q) النموذج (M) الإجابة ( R)

ونخلص مما سبق إلى الأهداف التالي:

-ضرورة ترييض المفاهيم (Mathématisation des concepts).

-أهمية التسويغ القبلي، وضرورة دعم الاختيار الرياضي في هذا السياق

-ما يهم في الخاصية القياسية الاحتمالية المنوه بها آنفا من حيث كونها إجراء في صوغ الفرضيات كما نص على ذلك "بتيتو" هو "علاقتها بالابتكار المفاهيمي، والخيال النظري"(17).

-إمكانية مد الجسور بين الدلالة المجردة، وموضوعية الظواهر.

-توفير الزخم الأنطلوجي بوصفه ضرورة من ضرورات النمذجة والتأسيس النظري.





1.3.1-التصور الغريماسي للنمذجة:

يعتبر (A. Gulien Greimas 1992) من أبرز منظري السيميائيات السردية، فهو إلى جانب نموذجه الشهير في نحو السرد ومارقيه، يتميز بانفتاح ملحوظ على قطاعات علوم الإنسان وإفادته منها في إثراء تصوراته، وإكسابها صبغة صورية خاصة استأثرت إلى حد كبير بعناية المنظرين الكارثيين وفي مقدمتهم بتيتو كوكوردا (1985 أ- 1985ب).

ونريد هنا أن نقف وقفة متأنية مفهوم غريماس للنموذج وفقا لمجموعة من المبادئ والتحديات النظرية التي لا تخفى تعقيداتها وخصوصياتها في الآن معا. وسنكون بهذه الخطوة الأساسية -إضافة إلى ما تقدم- قد مهدنا لجوهر هذا العمل الذي سيبلور موقفا شاملا -نسبيا- من مجمل القراءات النظرية المطروحة في مسألة النمذجة في الوقت الذي يكون فيه حقلا لانعكاساتها في مستوى نسقه واستراتيجيته المنهجية.

نحتاج قبل ذلك كله إلى سوق موجهات إجرائية صدر عنها غريماس (1966) في مقدمة كتابة: "الدلالة البنيوية/بحث في المنهج" لوثاقة صلتها بما هو آت.

لقد شكل "الإدراك" (Perception) زاوية أساسية لفهم سيرورة الدلالة (Signification) وتمظهراتها في مبحث غريماس. وهو في هذا التوجه يستند على "نظرية الإدراك" كما تطورت في فرنسا مع "ميرلوبونتي" (Merleau Ponty) بخاصة. ولئن كان قد حدد موقفه النظري من المرجعية الفلسفية في هذا الشأن، فإنه لم يحدد دينامية التفاعل المحايث بين الآلية الإدراكية والآليات الدلالية، وأبعادها الإشكالية العميقة، بل اقتصر على التماس التعضيد المناسب لموقفه هذا في ظل متغيرات العلوم الإنسانية الأخرى؛ محيلا مثلا على النموذجين السلوكي والجشطلتي اللذين شكلا ردة فعل إزاء الذرية الترابطية (Atomisme Associatonniste)، وحلا محل سيكولوجيات "الاستبطان" و"الملكات". ويمكن تأويل ميله -في السياق نفسه- إلى تبئير الإبدال الإدراكي للأثر الأدبي في مجال تفسير الظواهر الجمالية، بقصور التمثيل المفهومي لكيفية اختمار واشتغال المكون الإدراكي في صميم البنيات الدلالية. ولعل وجاهة هذه الملاحظة تستبين بشكل واضح في حد علم الدلالة (Sémantique) لديه؛ حيث لا تخرج -في نظره- عن كونها "محاولة لوصف عالم الخواص المحسوسة"(18).

إن ترسيخ(*) الإدراك في النظرية الغريماسية لا يعفيها من طابع "الإغضاء عن الموضوع" (Ignoration elenchi) حيث تظل إبستيمية الإدراك مفصولة عن أي علاقة ممكنة بالبنية الدلالية المحايثة. على أن إصرار غريماس على طائلة التحليل الكيفي ووروده بإلحاح قوي في توصيف الظاهرة الدلالية، مؤشر جد إيجابي على فهم الإبدالات النوعية في الرؤية الإبستمولوجية الراهنة. وأحد تلك الإبداعات الأساسية، إغناء مجال تبني وممارسة التحليلات الكيفية بالنظر إلى مساهمتها في "سد الثغرة الحاصلة حاليا بين علوم الطبيعة التي درج العلماء على اعتبارها علوما كمية، وعلوم الإنسان التي -رغم المظاهر المخادعة- تظل علوما كيفية"(19). وهنا يلوح تقارب ملحوظ- رغم اختلاف منطلقاته- بين التصور الغريماسي ومشروع روني طوم الآنف الذكر.

وبعد هذا التمهيد أريد هنا أن أقف وقفة متأنية عند مفهوم غريماس (1979) للنموذج وفقا لمجموعة من المبادئ والتحديدات النظرية التي ستكون لها انعكاسات هامة على الإستراتيجية المنهجية للنموذج التكويني الكارثي المقترح.

-يستند القاموس المشترك لغريماس وكورتيس (1979) على تصور خاص لمفهوم "النموذج" وجهازه المفاهيمي:

(ا)-فالنظرية بالنسبة إليهما تركيب "أو بناء متماسك وقابل للتحقق يتوسط بين المفاهيم اللامعرفة ((Indéfinissables، ومواجهة المعطى التجريبي"(20). والنظرية بأوسع مفهوم "تراتبية من اللغات الواصفة التي تتدرج من مستوى الظواهر التجريبية إلى لغة الوصف والمفاهيم الإجرائية: فاللغة المنهجية المسوغة للتوصيفات، فاللغة الإبستمولوجية في آخر المطاف" وهذا المستوى الأرقى درجة والمشتمل على المفاهيم اللامعرفة والفرضيات التي لا يقام عليها دليل، يتموضع كنسق من البديهيات التي لا تقبل البرهنة أو: (Axioma).

(اا)-والمستوى المنهجي يتمثل في "تحليل المفاهيم الوصفية (كمفاهيم العنصر والوحدة والفئة والمقولة الخ) وتحليل الإجراءات (أو الطرائق: التعيين، التقطيع، الاستعاضة، الإبدال، الخ) وهي الطرائق الإجرائية التي تتيح التمثيل النظري للموضوع (أي وصفه)" ويحيل نعت "الإجرائية" على ممارسة الفعل العلمي (Le faire scientifique) الفعال حسب الظاهر" سواء أتعلق الأمر بمفهوم ما أو قاعدة أو غيرهما، رغم كونهما غير محددين بصرامة كافية.

(ااا)-أما المستوى الإبستمولوجي فيشكل من حيث هو فعالية تحليلية البديهيات والفرضيات وجرد للمفاهيم اللامعرفة المذكورة "سمة جوهرية لكل نظرية صلبة المبنى".

(Vا)-قوام البناء (Construction) "لغته الواصفة الكاشفة تدريجيا عن النظام المحايث للأشياء". والبناء يندرج ضمن فاعلية الذات العارفة (الذات الإبستيمية الجماعية)، ومن ثم فإنه معرض لأن يلتبس بالوصف، وهذا الخلط قد يرتفع إذا تبين أن الموضوع المبني لا يكون كذلك إلا إذا دل على أو وصفه يتم عبر لغة واصفة مبنية أيضا.

((V-بناء لغة (واصفة للبناء) إنما هو التمثيل المنطقي الدلالي المرتكز، بشكل عام، على "تأويل رموز اللغة الصورية"…

(اV)-اللغات الواصفة (أو الشارحة) التي يجري توظيفها في الوصف، متمايزة عن لغات التمثيل (Langages de représentation) التي تمظهرها وتجليها. وليس متعذرا إمكان توافر "تمثيلات مختلفة "لواقعة" واحدة".

(ااV)-الصورنة (Formalisation) "نقل للغة الشارحة المتعلقة بالوصف إلى اللغة الصورية" وعليها المعول في روز "تماسك النظرية واستخلالص النتائج". والصورنة "لا تتدخل-مبدئيا- إلا في المقام الأخير بعد أن تكون النظرية قد اكتمل بناؤها المفهومي من قبل".

(اااV)-"يتسم الصوري بتقابله مع المضمون" و"النسق الصوري نسق اصطلاحي" أي هو عبارة عن "حساب رمزي غير ذي دلالة". وإن اعتبار كونه "خلوا من المعنى" و"متعلقا بشكل المفهوم" حسب تعبير هيلمسليف ومتطابق الوجهين: "التعبير/المضمون" الخ، كل ذلك يجعله معدا لأن "يؤول دلاليا".

(Xا)-النماذج -في نظر غريماس- هي بمثابة ممثالات ((Simulacres مؤسسة تتيح تمثيل مجموعة من الظواهر. وبتعبير آخر، هي بناءات مجردة وافتراضية يتم استخلاصها من النظرية في إطار المنهج الافتراضي-الاستنباطي، وتنجز في نطاق لغات تمثيل ملائمة، كما يلزمها أن تلبي شرط "مطابقة مزدوجة": مطابقة، من جهة، للنظرية (استنباط)، ومطابقة للمعطيات التجريبية من جهة ثانية (إثبات/تفنيد أو دحض)".

((X-في إطار لغات التمثيل "تخصص النماذج" (…) الملفوظات المستنبطة من المفاهيم اللامعرفة ومن بديهيات النظرية". وتضطلع تلك الملفوظات بما هي "إجراءات استكشاف Procédures de découverte)" بوظيفة أساسية:-فإذا كانت إجراءات الوصف مؤدية إلى بناء اللغة الواصفة، فإن "إجراءات الاستكشاف"، تلك، صيغ صريحة (Explicites ) للعمليات المعرفية (Cognitives) المؤدية إلى إجراءات الوصف". ونظرا لخاصيتها الإجرائية، فهي تقتضي تقويما مزدوجا؛ تقويما أول من الناحية المنهجية، وتقويما ثانيا من الناحية الإبستمولوجية: [أي (اا) و(ااا) آنفا].

2.3.1-مناقشة:

مهما يبدو جليا انخراط غريماس في "الحساسية الإبستمولوجية الجديدة" المجانية للدوغمائية التجريبية، فإنه ما برح يصالح في أكثر من موطن وكما تشف عن ذلك مواقفه المتأخرة-حتمية مبدأ الاتفاق التجريبي/النظري. ولاشك أن هذا المبدأ يعكس مفهوما معينا يجافي حقيقة التحولات التي غيرت أطر النظريات و أنساقها. إن الحساسية الجديدة تنقل مسألة المطابقة التي تقدم تحليلها، من أفقها المعياري الضيق إلى أفق يحتفظ للسبك النظري بكيانه النوعي الخاص. معنى ذلك أن النظريات "التي بلغت درجة من العمق التفسيري في مجال محدود، يجب ألا تنحى بمجرد تقديم الحجة على أنها تتعارض مع التجربة كما تظهر في الإحساس العادي، ويجب أن يتوفر الاستعداد عند الباحثين لاحتمال أن تظهر بعض الظواهر بدون تفسير"(21). وحتى الرياضيات التي تمثل أرقى أدوات الصورنة إلى حد جعل طوم يقرر أن "التنظير الوحيد الممكن ذو طبيعة رياضية"(22) كانت إلى حدود القرن الماضي باعثة على ترسيخ الدور الافتراضي لمبادئها حيث "لم يعد بالإمكان التمييز بين المبادئ الرياضية على أساس أن بعضها أصدق من بعض أو أكثر وضوحا، وإنما أصبحت هذه المبادئ(..) مجرد فروض بالمعنى الرياضي للكلمة، أي أنها توضع وضعا، ولاتكون قط موضع إثبات، ولا يخامر واضعها شك في أنها توضع خارج الصدق والكذب كمجرد قرار واتفاق"(23). وقد تمت، من جهة أخرى، بلورة جملة من المواقف الإبستمولوجية النقدية إزاء نسيج العلائق اللامتكافئة بين العلوم الطبيعية-التي تريد لنفسها أن تكون نموذجا أصليا (Prototype) وبعض العلوم الإنسانية (مثل التحليل النفسي)، مع إعادة النظر -منهجيا- في الأحكام القاسية الصادرة بهذا الخصوص.

إن مشروعية النماذج -في تقدير غريماس- تأتي من "مطابقتها للنظرية و/أو التجربة"(24). وأي نموذج، على هذا الأساس، ليس سوى "ممثال" ينتظر منه أن يعمل جاهدا على تنحية "المضمون أو المحتوى الأنطولوجي".

إن نعت "المشروعيى" الذي يجرد على النماذج المستجيبة (أو المتوقع منها أن تستجيب) للمبدأ المذكور آنفا، يساعدنا على فهم الافتراضات التي تحكمها، وتكوين نظرة عن الكيفية التي تؤسس النظرية-في ضوئها- نظام تحديداتها الذاتية: -فحين نعلم متى "يكتسب" نموذج ما مشروعيته ومتى "تجرد منه"، نستطيع أن ندرك الحدود المرسومة له، ونطاق قدرته أو كفايته التحليلية. وفي وفرة من الحالات، يصير السؤال عن المشروعية سؤالا عن الماهية نفسها بإيحاءاتها وظلالها الإيديولوجية. فإذا افترضنا مثلا أن على قول علمي معين (Enoncé Scientifique) أن يخضع - إذا أراد استحقاق علميته- لقاعدة تلزمه بالاستجابة لمجموعة من الشروط الضرورية، فحينئذ تكون المشروعية "تلك السيرورة التي بإيعاز منها، يباح للمشرع (Législateur) الذي يدرس الخطاب العلمي، سن الشروط ذاتها إلى هذا الخطاب، ويحظى بقيمة اعتبارية لدى الأوساط العلمية"(25). وتنقلب المشروعية -بهذه الصورة- إلى مفهوم يجد تفسيره في ظل المؤسسة وأجهزتها الايديولوجية، وتصير المعرفة والسلطة وجهين لسؤال واحد هو: من يقرر ما يكون معرفة، ومن يعرف ما يجدر تقريره؟(26).

لقد أوضحنا، في هذه الفقرة، الإقصاء الذي يطال "المحتوى الأنطولوجي" في النظرية الغريماسية. ولئن ارتكزت سيميائيات غريماس على مبدأ "الاستقلال الأنطولوجي للشكل السيميائي، واعتباره شكلا (Gestalt) وبنية دالة"(27)، فإنها تتذرع بإقصاء البعد الأنطولوجي لتسويغ كثير من الإجراءات (ومنها، على سبيل المثال، " الحفاظ على إجرائية مفهوم البنية"(28)). وقد أبرز بتيتو كوكوردا(1985) حدة المفارقة الناشئة عن حاجة النظرية السيميائية إلى لحظة التأسيس الأنطولوجي الموضوعي، وتبرم غريماس بها تحت ضغط ضرورات شكلية صرف تمليها اعتبارات خارج النظرية أكثر مما تمليها شروط بنائها الداخلي.

1.4.1-النمذجة في نظرية الأدب:

يمكننا إجمال أساسيات البناء المنهجي في النموذج التجريبي، فيما يلي:

أ - المنطلق الافتراضي

ب - بروتوكول التحضير مع تحري الدقة والشمولية

ج - بروتوكول التجربة

د - قابلية التحقق (Vérifiabilité)

هـ - قابلية إعادة الإنتاج (Reproductibilité) بما يتيح استخلاص القانون.

و - الشرط التداولي (Pragmatique) (الفائدة النظرية أو التطبيقية)(29).

ويتتبع عمليات بناء النماذج في نظرية الأدب، نلاحظ أن بعضها يوفر العناصر: أ-د-و، السالفة.

ففي سياق تأسيس "علم الأدب التجريبي" (Emprischen Literaturwissenschaft)، اقترح "شيغفريد شميت" (Siegfried J. Schmidt) نموذجا سماه "تجريبيا" (Empirisch). وهو يقوم على توسيع نطاق إجرائية مجموعة من المفاهيم والآليات ضمن نظرية جديدة هي ما اصطلح "شميت" على تسميته "بنظرية الأفعال". ويشكل مفهوم الأدب أحد المتغيرات الأساسية في هذا الاتجاه لكونه -وفقا للتشغيل التجريبي- لم يعد مؤشرا على "تلك المجموعة المحددة من النصوص المنطوية على خصائص متميزة"(30)، بل اتسع باعتباره كلا مركبا- ليستوعب "المجموعة الكلية من السيرورات الاجتماعية والجوانب المتعلقة عموما بالحياة الأدبية"(31)، وهكذا يتحول مفهوم "الأدب" -في منظور التجريبية المؤسسة- إلى "منظومة اجتماعية فرعية (Social Subsystem) يتعامل أعضاؤها (العوامل Actants) مع الموضوعات أو النصوص التي يعتبرونها أدبية"(32). ودون الخوض في تفريعات نظرية الأفعال، من الملاحظ على نموذج "شميت" كونه يشدد على قابلية التحقق من بعض المواضعات ذات الخاصية الافتراضية (hypothétique) والتقريبية)(33)، ويعيد بناء المرجعية السوسيولوجية والسيكولوجية. وفي هذا الإطار، وإمعانا في توسيع القاعدة المفهومية لسياق القراءة، يتبنى مفهوم "منظومة السامع/المتكلم القبشرطية" (Varus et Zungssystem)، وهي عبارة عن نسق من الأطر المتحكمة في آليتي المقاربة النقدية، والتلقي معا -و"يتضمن كل الشروط التي اكتسبها المتكلم/ السامع على امتداد عملية التكيف الاجتماعي عند الانخراط في المقام التواصلي"(34). والواضح أن المفهوم الجديد/القديم، يأتي استجابة لدافع استراتيجي يهدف إلى تقنين شروط الفعل التواصلي بصورة عامة، تمهيدا لإجراء المطابقة التجريبية مع مرجع الخطاب (النقاط: د، هـ، و، سابقا)، أو المصادرة على تجانس الأفق التواصلي مع شروطه المرجعية (سمة القصدية)(*).

مقابل هذا النوع من النماذج التجريبية، توجد نماذج نظرية تقيم علاقات إنتاجية وتخصيبية مع موضوعاتها في نطاق الحرص على:

أ - الإصغاء المرهف للأسئلة النظرية (دعم خصوصية البناء الافتراضي)

ب - تبئير بنية المفارقة والمشابهة

ج - تكثيف الصيغ الاستعارية للخطاب الواصف كبديل عن لغة الوقائع والتطابقات

د - الانسجام الداخلي بين مكونات النموذج

هـ - توسيع حركية المعنى عن طريق تبسيط الوصف (إغناء المستوى التوليدي للنموذج)

و - إبدال آلية التحقق التجريبي بالحمولة الأنطولوجية-الفلسفية.

ونضرب مثلا على ذلك بمقترح "جان كلود غاردان" (J. Claude Gardin)(1982). ففي دراسة موسومة "بالقراءات الجماعية وعلوم الأدب الفريدة"(35)، يسعى "غاردان" إلى طرح مقترح نظري يرتكز على الدعوة إلى أفق علمي للأدب يقوم مقام النقد أو لتفسير الكلاسيكي للنصوص الأدبية. وتتحدد ملامح هذا الأفق بخاصة في توظيف جهاز تحليلي جديد فضلا عن الاستناد على مناهج أكثر تمفصلا. والأثر في ضوء هذا التوظيف يغدو "موضوعا مجردا يسمى نصا". ولا يتعين الإمساك بجوهر أو معاني هذا الموضوع إلا "بواسطة إجراء تحويلي ينبني على عمليات متتالية لإعادة الكتابة تنطلق من النص -المصدر (الأثر) لتنتهي إلى النص- الهدف (تفسيره)"(36). ويذهب "غاردان" -لمزيد من إيضاح مسعاه النظري- إلى افتراض أسس صورية للجهاز التحليلي يصار بمقتضاها إلى عملية الانتقال من وضع أولي يسميه متنا [ مجموعة من النصوص يؤشر عليها بحرف (م)]، إلى وضع هو خلاصة الفعاليات التأويلية يؤدي إلى ما يسميه "غاردان" بناءا علميا" (Construction scientifique) [يؤشر عليه بحرف (ب)]، ومدار الممارسة على "تحديد متوالية من العمليات الخطابية التي إن هي طبقت على (م) تتأدى إلى توليد (ب)"(37). ويفرز هذا الإجراء ما يمكن أن يسعف على "الإمساك الواثق بالأسس الصورية للتحليل الدقيق والحدود التجريبية لمشروعيته"(38). ويظل الذكاء الاصطناعي إطارا مرجعيا يؤمل منه أن يكشف عن "الموسوعة الضمنية" التي "يتعذر بدونها تسويغ بله فهم عملية الانتقال من (م) إلى (ب)"(39). ونستطيع باستقراء "الموسوعات المحلية" بشكل عام أن نفحص الخواص التي تستضمرها الأجهزة التحليلية وما يمكن أن ينعقد بينها من علائق وصلات أو فوارق واختلافات. ومن ثمة يظهر الدور الأساس الذي ستنهض به هذه الموسوعات المحلية لتزويدنا بقاعدة مرجعية ملائمة للمقارنة بين التحليلات تشمل "أنظمتها المنطقية-الدلالية"(40) [ التي يرمز إليها بحروف (أم د)]. وتتجاوز الوظيفة الموكولة إلى هذه الأنظمة تخصيص الفرادة النوعية لكل موسوعة على حدة عن كريق إبراز "مضمونها الدلالي وبنيتها المنطقية"(41) في صيغتها الفردية إلى صيغة جمعية تستوعب تشكيلة من الموسوعات المحلية. ويمكن -في تصور جان كلود غاردان- بناء أنظمة منطقية- دلالية أكثر شمولية بحيث يشكل مجموع الموسوعات المحلية "دعامة التفسيرات المختلفة المتعلقة بالأثر نفسه"(42). كما يمكن أن تستغرق الـ (أم د) ليس فقط الرؤى والمنظورات النقدية المتضاربة بل أيضا ما يتولد عن تركيبة العناصر المستقاة من هذه التفسيرات أو تلط، من رؤى وتصورات أخرى مضافة. وبذلك ينظر إلى تفسير النصوص "كمتوالية من الاختيارات ضمن مجموع الاستدلالات أو الاشتقاقات الممكنة انطلاقا من (م)، تفضي إلى بناء ما من جملة بناءات. وتشكل هذه الاختيارات أساسها الوحيد في نهاية المطاف"(43). ولئن تم استيفاء المكونات الضرورية للتأسيس النظري في مقترح "غاردان" فإنه يلبث مع ذلك مشوبا ببعض القصور الذي يتجلى في افتقاره إلى قاموم ملائم لتقويم البناءات. وهو قصور التمس "غاردان" تغطيته عن طريق تبني فكرة "جيلبير ديران" (Gilbert Durand) عن كبيعة الإجراء التقويمي في علاقته الوثيقة بالمستوى التوليدي للنموذج. "فالقيمة المعرفية للبناء إنما تقاس بقدرته التوليدية وطبيعة مفعولاته"(44). يضاف إلى ذلك مشروعية اختيار مبادئ خاصة تستلزمها طبيعة البناءات العلمية التي تقرب (م) وتعيد صوغه في نفس الآن. على أن الحسم في حدود تعددية القراءات يبقى مع ذلك مثار تساؤل مادام يهم -في نظرنا- ماصدقية الأنظمة المنطقية-الدلالية المذكورة أكثر مما يتعلق بمشروعية القراءات ذاتها. إنه تساؤل جوهري يستدعي توافر مجموعة من الافتراضات الجديدة لا سيما إذا علمنا درجة الصعوبة التي تكتنف إثبات الضوابط الإجرائية الخاصة بنوعية المنظورات الممكنة لكل (م)، ونوعية المقاربات التي تشتغل عليه، وقد حاول "غاردان" الحد من تلك الصعوبة بافتراض البحث عن القوانين التي تحكم الاستثناءات ضمن الموضوعات المفردة للمجموع المتعدد. فإذا كان من المتعذر تصور مجموع بدون أفراد من الموضوعات، فيكون من الصعب تصور علم يقام على أساس موضوعات مماثلة إلا إذا سعى "إلى البحث عن القوانين التي تحكم الاستثناءات"(45). وهنا تكمن إحدى مظاهر إنتاجية السؤال النظري.

إن مقترح "غاردان" يؤطره هاجس البحث عن مفهوم جديد للتلقي يصاغ في ضوئه نموذج هو "نموذج العلم الاسترجاعي" ((Science rétrospective فهذا الأخير يبدأ من حيث ينتهي القارئ. وهاجس من هذا القبيل، لا ينفي الإمكانية النظرية -على الأقل- لافتراض وجود "قارئ مثالي -أنى تعددت مظاهره وتسمياته- يكون سلوكه موضوع العلم الأدبي"(46).

الهوامش

1 - Modèle in Encyclopedia Univeralis (op.cit) vol(10) p(121).

2 - Les critères de vérité dans la recherche scientifique (ouvrage collectif) du colloque de (A.P.U.G) Moloine S. a éditeur 1983 Paris France. P (182-183).

3 - المرجع الأسبق ص (125-127)

4 - موريس كلافلان: العقلانية والتقدم في مج، الفكر العربي المعاصر. ع64/65، ماي/يونيو 1989، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان- ص(105).

5 - Jean Pierre Changeux: Modèle et mémoire 1988 Ed. Bedon. Paris France p(44).

6 - Jean Petitot: (Thèses pour une objectivité sémiotique) in: Degrés (Revue) 3ème année/N° 42-43 - 1985(A) Bruxelles p (g1) (pagiation par lettres).

(*) René THOM: Stabilité structurelle et morphogénèse. Inter Editions 1977.

7 - Jean Petitot - Cocorda: René THOM et SA (T.C). Universilia (1987) Ency. Univ. France - S.A. p.(638).

قارن بمارثن هيدجر في مقاله "فكرة الظاهراتية والعودة إلى الوعي" (1927) الذي نادى فيه بقيام سيكولوجية صرفة تحيل بما هي علم وضعي للوعي، على العلم المتعالي للذاتية الصرفة. ولأنها "علم وضعي" فإنها "لن تعنى بالمسألة التي تخص بالطريقة نفسها كل العلوم الوضعية، وهي مسألة معنى الكينونة بالنسبة إلى قطاعاتها الأونطولوجية الخاصة" ص(56) من:Cahier de l'Heure: Martin Heidgger. Ed. De l'herne 1983 Paris - France.

8 - بتيتو (1987) ص (638).

9 - René THOM: (La science malgré tout..) in Encyclo. Univ. vol (17). Organum. Novembre (1973). France. P(7).

10 - Tito Tonietti: Catastrofi. 1983. Edizioni Dedalo. Bari. ITALIA. Pp (176-177).

11 - طوم (1973) ص (7)

12 - (ون) (ص ن)

13 - (من) ص (8)

(*) ينظر باستفاضة مشروعنا العلمي لتأسيس نموذج بنيوي دينامي ضمن رسالتنا الجامعية: "الخطاب التكويني/محاولة في تأسيس نموذج" مرقونة بكلية الآداب - جامعة محمد الخامس.

14 - بتيتو (1985) (أ) ص(1 g)

15 - (م ن) ص (10 g)

16 - (م ن) ص (10) g

17 - (م ن) ص (11) g

18 - J.A Greimas: Sémantique structurale (Recherche de méthode) 1966. Ed. Larousse. Paris. France. P (9).

(*) مفهوم الترسخ كارثي

19 - المرجع السابق (ص ن)

20 - بتيتو (1985-أ) (م.م) ص(13 (gويجدر التنبيه إلى أننا اعتمدنا أساسا على هذا المرجع (الصفحات (13) (14) (15 g) ) في صياغة مفهوم النموذج عند غريماس وكورتيس ) من

( i) إلى (X)) فالجمل الواردة بين مزدوجتين مقتبسة من هذه الصفحات.

21 - عبد القادر الفاسي الفهري: اللسانيات واللغة العربية (نماذج تركيبية ودلالية) الكتاب الأول (1985) ط (1) دار توبقال الدار البيضاء (05) المغرب ص (26).

22 - طونييتي (1983) ص (166).

23 - درس الإبستيمولوجيا: عبد السلام بنعبد العالي وسالم يفوت (1985) ط (1) دار توبقال-الدار البيضاء المغرب ص (87).

24 - بتيتو (1985) (م.م) (16 g) و (IX) انفا.

25 - Jean François Lyotard: la condition postmoderne (1979) Ed. De Minuit Paris pp. (19-20).

26 - (م ن) ص (20).

27 - J. Petitot: Morphogenèse du sens. Tome (1) - 1985 (b) P.U de France. Paris. France p. (269).

28 - (م ن) ص(271).

29 - René THOM:Apologie du Logos (1990) Ed. Hachette. Paris. France p. (609-610).

30 - Jan WIRRER: Toward an empurical theory of literature, in Semiotica 52-1/2-1984 Mouton Publishers Amsterdam. p.(131).

31 - (م ن) (ص ن)

32 - ( ص ن)

33 - (م ن) ص(135)

34 - (م ن) ص(134).

(*) هناك من لازال يقصر شرط "قابلية التحقق" (د) على العلوم التجريبية وحدها (انظر مثلا "هايكوتنر" (Heide Göttner) في مقاله "مناهج نظريات الأدب" ضمن العمل الجماعي (نظرية الأدب 1981): مع أن "كوتنر" مضى في الدراسة نفسها يسائل نظرية جاكسون بناءا على هذا الشرط (ص 19-20) بل استند عليه في إثبات صفة العلمية لنظريات الأدب! (ص26)). والواقع أنه حتى بالنسبة للنماذج التجريبية في نظرية الأدب، يتوافر شرط التحقق بصيغة من الصيغ، على مستوى النسق المنهجي.


أبعاد النمذجة :البعد التركيبي

بقلم صالح الزناتي



يمكن القول بدءا أن محاولات حثيثة طرحت مفهوم الاستدلال كنموذج منطقي صوري وجد في التفكير اليوناني أسس انطلاقه ووجاهة معالجته إلى يومنا هذا . ولكن ما أثار الاهتمام به كثيرا هو ما شهدته التطورات الابيستيمولوجية المعاصرة التي بدأت عنايتها بالبحث في انبثاق "فلسفة طبيعية " معتمدة على المجهودات الرياضية (المفاهيمية والتقنية) وعلى إمكانية نقل هذه المقاربة عبر مفاهيم ابيستيمولوجية بنيت لأداء هذا الغرض إلى ليس فقط الظواهر الفيزيائية بل حتى تلك الظواهر المورفولوجية منها والبنيوية.
وإذ نحن على مشارف قرون التكنولوجيا الرمزية بات مجددا اقتحام نموذج الاستدلال الذي به يتم البث في القضايا بصدقها أو بكذبها وذلك بغية الوصول الى النتائج المستخلصة من المقدمات كما بدأت العناية من جانب رمزي لهذه القضايا وليس صوري فقط . وقد أثبتت الدراسات المنطقية والابيستمولوجية على أن الخطاب البرهاني /الصوري لا يعالج قضايا الخطابات الطبيعية التي تتميز بالحالات الممكنة ،أو بالأحرى، أوضاع عوالم ممكنة مرنة القضايا، الا في جانب صغير وضيق. ولذلك ترى أن المنطق المعاصر اتجه إلى جعل الظواهر المورفولوجية من مواضيعه الحساسة ( نظرية التجزيء في الرياضيات ) التي أصبحت تستخدم مناهجها في تطوير مجالات معقدة من حيث بنية أنظمتها والمتداخلة من حيث مكوناتها المعرفية فبدت مع معارف شتى كالكمبيوتر وعلومه والذكاء الاصطناعي وأساليبه ومجالاته باعتبارها انظمة رمزية تستدعي أنموذجا طبيعيا مرنا يصلح لتوصيف ومعالجة الظواهر الطبيعية التي عجزت لحد الساعة علوم صورية عديدة عن الوصف الدقيق لها ولبنياتها وانساقها . هذا موضوع استلهم الفلاسفة منذ ارسطو وبعده فلاسفة المنطق واللغة والوضعين وعلماء الرياضيات والابستيمولوجيا والمنطق واللسانيات الصورية ومعلوميات الذكاء الاصطناعي وعلماء المعرفية...أريد هنا فقط أن أوضح هذا الدور الجديد للمعارف المذكورة و المتمثل في معالجة الأنظمة الكونية المطبوعة بالرمزية كاللغة الطبيعية والخطابات البشرية والتواصل بأنواعه والإبداع الإنساني إنجازا وتأويلا...
و مفهوم الاستدلال هذا جذوره فلسفية -منطقية لا محالة ، فهو أسلوب يسلكه كل من المنطق الصوري والخطاب الحجاجي/الطبيعي للتوصل إلى البث في نتائج القضايا ، انه النموذج الصوري البرهاني الذي يشكل أساس بنية الخطاب الطبيعي الذي هو عبارة عن نص أو بناء يتركب من عدد من الجمل السليمة-المحمول والموضوع- مرتبطة فيما بينها بعدد من العلاقات ،
وهذه العلاقات قد تكون علاقات مثنوية أو جمعية ، أي بين جملتين أو أكثر ، ثم يمكن أن يكون هذا الربط مباشرا وغير مباشر .وهذا شرط من شروط النص الاستدلالي الذي هو عبارة عن نص اقتراني بحيث أن كل عناصره مرتبطة فيما بينها .
وأما ما يجعل من النموذج الاستدلالي بنية استدلالية هو تلك العلاقات الاستدلالية ،وحد علاقتها أنها بنية تربط بين صور منطقية لعدد معين من جمل النص أي بنية نونية مرتبة يمكن صوغها كما يلي :
( صن1 ....صن 2.....صن ن-1 .....صن ن)
بحيث يشكل كل صن ( 1اكبر من أو يساوي 2 اكبر من أو يساوي 3) الصورة المنطقية لإحدى الجمل وتدعى المتوالية الجزئية صن 1....صن ن-1 بمقدم هذه العلاقة وصن ن بتاليها
و قد يحصل أن يكون النموذج الاستدلالي هذا من الصنف التدريجي الذي تسبق فيه المقدمات النتيجة أو من الصنف التقهقري التي تأتي فيه النتيجة قبل بيان المقدمات. كما قد يكون من الصنف الاظهاري إذا ذكرت جميع الصور المنطقية التي تدخل في بنائه أو من الصنف الاضماري إذا طويت بعض هذه الصور واحتيج إلى ذكرها لتمام بنيته الاستدلالية .كما يكون من الصنف البرهاني إذا كانت علاقاته قابلة للحساب الآلي أو من الصنف الحجاجي إذا كانت علاقاته تأبي الخضوع لمثل هذا الحسابي الصوري.
يتبين مماحدد من أصناف الاستدلالات المنطيقية على أنها على نوعين كبيرين هما:
أ- اساليب الاستدلال الصوري البرهاني-الصناعي الذي يسهل القيام بحساب مكوناته والوصول إلى نتيجة واضحة من حيث الانتقال فيه يبنى على صور القضايا وحدها اعتمادا على قوانين برهانية خالصة
ب- أساليب الاستدلال الطبيعي الذي لا يمكن حساب مكوناته، ذلك انه فعالية تداولية وجدلية وطابعه الفكري مقامي واجتماعي ، الهدف من هذا النمط الاستدلالي هو الاقناع القائم على بلوغ التزام صور استدلالية اوسع واغنى من البنيات البرهانية الضيقة ،هنا القوانين ليست عبارات تحليلية ، لان النتائج فيها ليست مجرد افصاح اواعادة او تصريح بما هو متضمن في المقدمة ، في هذا المستوى تحضر الذات المستدلة في الخطاب لاثبات دعوى او ابطالها
بهذا أكون قد بسطت القول في حدود المنهجين الاستدلالي البرهاني-الصناعي والطبيعي-الحجاجي ،فتبين أن علم منطق الحوار المعاصر
و مبادئ الابيستيمولوجيا المعاصرة أو أيضا نظريات الرياضيات المورفولوجية وفلسفته المنطق والفلسفة الطبيعية والبراديغم الابستيمولوجي والمعرفية...كلها معارف تتقدم لاستقصاء بنيات الخطاب الطبيعي الموسومة بالمرونة والحدس والعتمة والتي لم يعد ينفع معها أساليب المنطق التقليدي.
يدخل هذا الموضوع أيضا ، في إطار ما يسمى الآن بتكامل المعارف وتعددها . فالفلسفة فكر شمولي وهي أم العلوم طبعا ولكن استقلالية العلوم عن بعضها البعض أعاد طرح هذه المرجعية الفلسفية من وجهة نظر ابيستيمولوجيا محضة . فترى في يومنا هذا عند تطور العلوم (سواء منها الدقيقة أو العقلية أو الإنسانية ) دعوة للتوحد لكن بصيغة أخرى وهي إضفاء المشروعية الفلسفية والابيستمولوجية على جميع هذه العلوم حتى تكون رصينة . فتجد ان لكل معرفة علمية مرجعية فلسفية تؤطرها وتشرعنها (إن صح التعبير).
أأكد هنا ، وتذكيرا لما سبق ، أن منظومة الكون الموسومة بالأشكال الرمزية والظواهر المورفولوجية التي بدأت تطرح نفسها بإلحاح شديد في الساحة العلمية والتقنية. طرح مفهوم الاستدلال من جديد في الساحة العلمية المعاصرة :
أ- لاعادة ربط النظريات العلمية الحديثة.بهذا المفهوم ( الارسطي-اليوناني) الذي شكل العمود الفقري لتاريخ العلوم التي اشتغلت به وتاريخ العلوم شاهد على ذلك طبعا من خلال توظيف المنطق الصوري الارسطي هذا النموذج المنطقي الذي به نستنتج المقدمات الكبرى عبر صور فنحصل على النتيجة فحين ننطلق مثلا من فرضية (مقدمة) أ --- ب وب---ج اذن أ---ج هذه صورة منطقية تطبق على القضايا التي يبث فيها بالصدق والكذب . وحينما وضع أر سطو اورغانونه فإنما أراد أن يضع نظاما متكاملا لهذه الصورة المنطقية في مقولة القياس فسحبها على خطابات أخرى فتجد ضمن هذا الاوركانون فن الشعر والخطابة ..
ب- تطور هذا المفهوم عبر تاريخ الفلسفة مع مجموعة من الفلاسفة أمثال ديكارت وكانط وشارل بيرلمان واصحاب الفلسفة الوضعية وعلماء رياضيون متأخرون عليهم. فاصبح بالتعبير الابيستيمولوجي المعاصر نموذجا ( براديغم ) يتم به نمذجة نظريات العلوم وما عليك الا ان تنتقل بينها فتجد أن هيكلها واحد . فان أردت أن تبني نظرية علمية فما عليك الا ان تنمذج وتصوغ (تبسيطا) على منوال نظرية ما ، نظرية اخرى فتقوم بنقل البراديغم لكنك تحتفظ به في جهة ما من نظريتك الجديدة واذاك لا نقول بمفهوم القطيعة الابستيمولوجية كما عند باشلار بل هناك امتداد وتحديد جهوي للبراديغم وهذه العملية لابد لها من اساليب منطقية صرفة تساعدك على هذا البناء النمذجي الجديد . فالنمذجة فيما بين العلوم هي التي تجعل تناسلها سريعا ومتكاملا ومتناسقا ، ونظرا لدور النظريات العلمية في تدقيق الوصف في مواضيعها المدروسة وعلى سرعتها وبداهتها اضحى من الحتمي أن تشمل باقي الظواهر الكونية التي يصعب فك لغزها ،فتجد ان العلوم تتفرع يوما بعد يوم وهذا يتطلب أساليب صورية منطقية ورياضية لمعالجة ما علق بكنه هذه الظاهرة او تلك . وكان على النظريات الرياضية أن تستنجد بفلسفة طبيعية أرادت أن توسع من دائرة ظواهرها، فبعد أن كانت تهتم بكنه وماهية الشيء أصبحت تعنى بأشكال ومورفولوجية وانساق الأشياء في الوجود . من هنا انبثقت رياضيات جديدة سميت برياضيات أشكال الحدس أو بالأحرى نظرية رياضيات الكوارث( théorie des catastrophes) وهي رياضيات جديدة من أهدافها فهم ماهية الأشكال الرمزية للكون ، وما أنتجته المعلوميات وعلوم الذكاء الاصطناعي لخير دليل على تطبيق هذه النظرية من حيث البحث في لانهائية الأشكال الرمزية والتي تثبتها أيضا أنظمة العلوم شتى ( مثلا في علم النباتيات ،على الرغم من تشابه ماهية الخلية ،فان الشكل المورفولوجي لا يمكن أن يكون مماثلا أبدا ورغم المماثلة في البيولوجيا او الفيزياء فإن هناك اختلافا مطلقا من جانب مورفولوجيا الظواهر ) نن نعتقد أن نمذجة المفاهيم التي ما هي إلا تصورات تترجم الحالات التي يغدو عليها وبها الفضاء الكوني في الوجود ، هي إذن شبكة نستطيع بها فهم خبايا مما قد يكون جزءا صغيرا ضمن منظومة عظمى نحن حتما في حاجة إلى جهاز مفاهيمي جديد هو عبارة عن منظار وأسلوب وآلة لاستجلاء ما قد يكون مبهما . وبواسطة مفهوم كهذا (الاستدلال) نختبر هذه الأشكال الرمزية ، ونستدعي حينها أساليب اكثر نجاعة ومرونة من تلك التي تقف عند حد ما وما يثبته الاستدلال الصوري هو البرهنة على القضايا صوريا وليس رمزيا لان ذلك يصطدم بقرائن أخرى حجاجية / حدسية . فالذكاء البشري ليس دائما يهتدي للاستدلال البرهاني بل كذلك للبرهان الحدسي وهو رمزي طبيعي من صميم الأشكال المورفولوجية ومنها اللغة الطبيعية المعقدة بامتياز ومعالجتها تقتضي اعتماد الاستدلال الطبيعي وليس البرهاني ومن هنا أتت مقاربات جديدة مثل هندسة المعرفة وهندسة اللغة.
إن موضوع معالجة اللغة الطبيعية هو من هذا الصميم ( باعتباره شكلا رمزيا ونظاما مورفولوجيا ) وإذ نريد هنا التجدر الابستيمولوجي والفلسفي لموضوع ذي أهمية كبرى ضمن أشكال الكون الرمزية (وتشديدي هنا بامتياز على الرمزي ) .

المصدر السابق

ما النمذجة –Modelisation- ؟

بقلم صالح الزناتي

تعريف النمذجة
إن النموذج –Le Model- هو التمثل الذهني لشيء ما و لكيفية اشتغاله، و عندما نضع شيء ما في نموذج نستطيع أن نقلد اصطناعيا –Simuler- تصرف هذا الشيء و بالتالي الاستعداد لردوده. و هذا يعني أن النمذجة ليست إلا الفكر المنظم لتحقيق غاية عملية، ذلك أن النموذج هو نظرية موجهة نحو الفعل الذي نريد تحقيقه. و من هذا المنطلق يمكننا القول أن كل إنسان "ينمذج" في حياته اليومية و في كل لحظة، فهو يجمع كل الكائنات التي تحيط به بصورة ذهنية، سواء تعلق الأمر بأشياء مادية أو بأشخاص أو حتى بمؤسسات، و هذه الصورة الذهنية تمكنه من تركيب و تقليد سلوك موضوعه اصطناعيا لتقييم نتائج قراراته و يختار ضمن القرارات الممكنة أفضلها، و إذا بدا له النموذج غير مناسب يغيره بآخر. و هكذا فإن سيرورة قرار التبضع أو سيرورة تقبل إعلام إشهاري هي مثلا سيرورات قابلة لأن تنمذج. يتعلق الأمر إذن بمحاولة حصر النسق المركب المدروس لاستباق ردود أفعاله بطريقة صورية و دون عودة إلى التجربة إلا في المستوى الافتراضي –Virtuel-. و بالتالي يتعلق الأمر بوصف نسق واقي بطريقة صورية أي بالطريقة التي تجعلنا قادرين على معالجته بالحاسوب. فالنمذجة هي إذن، مبدأ أو تقنية تمكن الباحث من بناء نموذج لظاهرة أو لسلوك عبر إحصاء المتغيرات أو العوامل المفسرة لكل واحدة من هذه المتغيرات، فهي تمشي علمي يمكن من فهم الأنساق المركبة و المعقدة عبر خلق نموذج يكون بنية صورية تعيد إنتاج الواقع افتراضيا

منقول عن الأستاذة سلمى بالحاج مبروك
أستاذة فلسفة بتونس العاصمة



بقلم صالح الزناتي

إنسانية التواصل، إنسانية الأنظمة الرمزية

الأستاذ: محمد علي كسيرة

التمهيد: التواصل بين الضرورة والاختيار
لا نكاد نلتقي بمسألة معاصرة في الفلسفة، إلا ولها صلة بالانسان إلى درجة أمكننا أن نسلم فيها مع كانط بأن الفلسفة قد تحولت إلى أنتروبولوجيا، أي إلى دراسة تسعى قدر الإمكان إلى تمثل كل ما يتعلق بهذا الكائن، فما الإنسان؟
إن النظرة الأولية لهذا الكائن تحيلنا إلى تركيبته العضوية، فالغلاف الخارجي الذي يغطي الجسم بأكمله والمتمثل في الجلد، ليس وحدة صماء، بل هو منفتح من خلال ثقبه على العالم الخارجي، وما الفم والأذن والأنف إلا قنوات تمرر داخل الجسم ما هو خارجي عنه، حتى أنه لا قوام للجسم بذاته بل إنه يجد حيويته في تجذره في عالمه الخارجي الذي يلقى فيه غذاءه ونفسه، ليقترن كل تواصل يشبع الجسد باللذة ويقترن كل انغلاق بالألم والضعف والوهن.
إنه محكوم علينا بيولوجيا بأن ننفتح على الطبيعة الخارجية. ولكنه محكوم علينا أيضا ان نتواصل مع العالم في شكل جماعي، فمواجهة الإنسان للطبيعة لا يمكن بأية حال أن تكون فردية. إن الضرورة البيولوجية للجسد تستدعي ضرورة إجتماعية للتواصل.
إن حاجة الحيوان إلى محيطه هي نفسها حاجة المحيط إلى الحيوان، فحين يحقق حاجته في الطبيعة لضمان بقائه فإنه يضمن في الآن نفسه توازنا إيكولوجيا بيئيا، فالحياة الحيوانية ليست إلا إمتدادا للطبيعة نفسها، إذ لا يحتاج الحيوان لكي يلبي حاجاته إلى تعلم، وإنما يولد أحيانا من يومه الأول قادرا على التواصل مع محيطه بقدرته على الإنتصاب قائما. ذلك أن غريزته هي أداة تواصله وهو لا يحتاج إلى تعلم لكي يحصل على هذه الأداة، وإنما يرثها إرثا بيولوجيا من نوعه. لأن "الغريزة متخصصة إضطرارا" كما يذهب إلى ذلك برقسن. أما الإنسان، فلكي يعمل، يحتاج إلى تعلم. ولكي يتعلم يحتاج إلى الآخر، فلا تواصل مع الطبيعة دون تواصل مع الآخر وهذا ما يجعل التواصل ضرورة بشرية بالأساس لأن التواصل يقتضي سلفا وعيا بالتواصل.
إذا كان تواصلنا مع الطبيعة لا ينتظم تلقائيا، فإن تواصلنا مع الآخر يتعدى بدوره التلقائية المباشرة. وإذا كانت التلقائية تخلق نظاما في تواصل الحيوان مع محيطه فإنها غير كافية بل وأحيانا مبعثا للفوضى حين يتعلق الأمر بالإنسان. ذلك أنه لو ترك أمر التواصل الإنساني للتلقائية المباشرة لكنا إزاء رغبات إنسانية متعارضة ومتصادمة. وبناءا عليه فإن التواصل يحتاج إلى تجاوز الطابع المباشر بالتفكير في وسائط. وبهذا المعنى نكون أمام خيارين: إما أن نتواصل تلقائيا – مع ما ينجر عن ذلك من تصادم – وإما أن نختار وضع شروط للتواصل. ولحظتها نرتفع عن الطابع المباشر الذي يسم التواصل الحيواني لنحقق تواصلا مجهزا ومنظما حتى يكون من الممكن أن نتحدث عن إنسانية التواصل.
I- إنسانية التواصل:
حين نتحدث عن إنسانية التواصل يكون من الضروري أن نفهم أولا دلالة "التواصل" ودلالة "الإنسانية". إن التواصل يعني الإتصال المتبادل، وسواء أكان تبادلا للتجارب والآراء بما يعنيه ذلك من تواصل حواري أو تواصل علمي بما تحمله المعرفة من دلالة أخلاقية لاقترانها بالخير، أو تواصل تسويقي بما يمثله من دعاية تجارية وإشهار ونشر وبرماجيات أو تواصل يرتبط بشبكة وسائل الإعلام والإتصالات المختلفة. وقد يقترن بشبكة النقل والمواصلات بما تعنيه من تقريب المسافات بين البشر والأمم وبما تعننيه من إلتقاء بالآخر البعيد عنا مكانيا أو الإلتقاء به في وسائل النقل نفسها. غير أن ما نعنيه بالأساس بالتواصل هو التكافؤ بين مختلف الأطراف، ليحمل بذلك معنى التحاور بما يقتضيه من مجادلة الرأي بالرأي إثراءا وتنويعا. إننا لا نسمي مثلا الأوامر العسكرية التي يتلقاها جنديا ما تواصلية، لأنها تكتفي بالعلاقة الأحادية: باث – متقبل، ولا تسمح بتبادل الأدوار، أي بأن يتحول الباث متقبلا والمتقبل باثا، لأن هذه الخاصية بالأساس هي ما نطمح إليها وهي ما تجعل من التواصل إنسانيا. فحين نتحدث عن إنسانية التواصل فإن ما نقصده هو الإعتراف المتبادل، وأن الطرف المقابل هو كفؤ لنا، وأنه من عدم الإنسانية أن نعتبره أقل منا مرتبتا أو يحتاج إلى قيادة وتوجيه وأوامر.
II- الثورة التواصلية:
إن تطورا هائلا قد طرأ على التواصل وعلى الأنظمة الرمزية التي تحول بمقتضاها العالم إلى قرية معلوماتية وإلى سوق تجارية. لم تعد هناك أزمة نقص في المعلومة، بل أزمة معيار لانتقائها واختيارها واختبارها، ولم تعد هناك أزمة سلع بل أزمة أذواق. لم يعد الإنسان يكلف نفسه عناء التنقل في العالم طالما أن العالم ماثل بين يديه على الشاشة . لم يعد الإنسان يكلف نفسه جهد التسوق طالما أن الرواج للبضائع يكون عبر الشاشة. إن رأسالمال يتحرك رقميا، إنه لم يعد يخضع للرقابة الجمروقية، إلى درجة أمكننا أن نتحدث فيها عن إنهيار مفهوم الحدود الجغرافية ومفهوم المسافة ومفهوم المكان في عصرنا. لم يعد الإنسان في حاجة إلى قطع المسافات وتكلف عنائها طالما أن التواصل يفد إليه دون عناء أو كلفة. ولكن بقدر ما يتواصل الإنسان معلوماتيا وتجاريا مع أقصى مواقع العالم، بقدر ما ينغلق في بيته وينعزل أمام شاشة الكمبيوتر على أقرب الناس إليه. وهذا ما يجعلنا نسلم مع أدورنو: "إن التقدم يفرق بين الناس... ووسائل الإتصال تفرق بين الناس ماديا".
إن هذا الشكل من التواصل الإنساني يجعل مسألة التواصل نفسه في موضع إحراج وإشكال. ذلك أن مسألة التواصل لم تكن تطرح قديما في فضاء أثينا الديمقراطية، بل لقد اختزل الأمر في مسألة الصداقة السياسية. غير أن الفلسفة - في عصرنا الراهن- تجد نفسها مضطرة للتعاطي مع التواصل الذي يوشك أن يقتل التواصل نفسه. إننا حقا إزاء مفارقة تجعلنا نميز بين التواصل كواقعة والتواصل كرهان فلسفي، أي رهان إنساني، فحتى يكون التواصل إنساني لا بد من تجاوز طابعه المصلحي الضيق ليكون كونيا.
إذا كانت اللغة الشفوية تختصر على الاستعمالات الظرفية والمنفعية الطارئة، فإن اللغة المكتوبة تتخطى حدود المكان وحدود الزمان لكي تتأكد كنظام تواصلي يتجاوز هذه التضييقات. إن ظهور الكتابة قد طور التواصل ومثل وعاء للذاكرة الإنسانية، ولكن ثورة الكتابة لم تكن ثورة فعلية إلا بظهور المطبعة، التي جعلت الكتابة تخرج عن الكنائس والقصور، لتقتحم كل البيوت. لقد استطاعت الكتابة أن تكسر طوق السلطة الدينية والسلطة السياسية لتتحول إلى أداة تواصلية تكون في الآن نفسه توعوية وتحررية. إن انتشار الكتابة قد ساهم إلى حد كبير في ظهور لغات كانت في بدايتها شفوية لذلك فقد أسر ديكارت على أن يكتب باللغة الفرنسية في زمن لم تكن اللغة الطاغية إلا اللغة اللاتينية. وكان هدفه بالأساس أن تصل الكتابة حتى إلى النساء والأطفال في زمن كانت اللغة حكرا على الكنائس والقصور.
إن إنتشار الكتابة يوازيه تراجعا في الأمية، بقدر ما يوازيه قدرة على التواصل والإستفادة مع المعارف الإنسانية لقول غوسدورف "اللغة تقوم بتمكين التواصل ومضاعفتها، إنها تنشأ من التواصل عالما جديدا هو العالم الحق". وإذا كانت الكنائس قد سعت إلى احتكار الكتابة، فإن الكتابة على العكس، قد أدت إلى انتشار الأنظمة الرمزية الدينية. لقد أصبحت الكتب المقدسة متاحة للجميع، فلأي كان أن يختار مقدساته وأنماط تواصله الدينية.
لقد ضاعفت ثقافة الصورة من هذا الإنتشار ليزداد تشابك الأنظمة الرمزية من دين وأسطورة ولغة وصورة، لتؤدي المهمة نفسها لقول إ. كاسيرار "وكل التقدم الإنساني في الفكر وفي التجربة يعقد هذه الشبكة ويقويها" ذلك أن الأنظمة الرمزية تطور بعضها البعض بما يسمح من تيسير التواصل وجعله الأداة المثلى في التقاء الإنسان بالإنسان، إن التواصل من خلال الأنظمة الرمزية ليس إلا بديلا عن مظاهر العنف والتعسف. وبهذا المعنى أمكننا أن نحلل المسألة فرويديا لنعتبر كل هذه الأنظمة الرمزية تصعيدا يفرغ شحنة العنف الكامنة داخل كل إنسان في شكل أنماط تساهم في إثراء التواصل، بدل تعطيله عنفا وإرهابا وقمعا. ولعل هذا ما عناه وينر بقوله "إن تكنولوجيا الإتصال هي السبيل لتفادي سقوط الإنسانية مجددا في عالم هيروشيما". وبدل الحرب الباردة والعنف والعنف المضاد وبدل صراع الحضارات وصراع الديانات يكون من الأفضل أن تكون الأنماط التواصلية تفهمية تعاطفية. وبدل الحديث عن إمبراطوريات إستعمارية عظمى تتقاسم العالم يكون من الأجدر توحيد الإنسانية وانتظامها ضمن أنظمة رمزية تكون بدورها إنسانية، لذلك يكون من الضروري الإستعاضة عن ثقافة الصراع والتقاتل بثقافة التواصل الحضاري الذي يقوم فيه الرفاه بديلا عن الصراع، لقول جون هارتلي"فقد حل الترفيه محل الدفاع". ولكن ألا يكذب الواقع هذه المثالية ويجعلها مجرد إدعاءات ؟
III- أزمة التواصل:
إذا كنا غير قادرين على حسم الإجابة عن أسبقية الإنسان عن اللغة أو العكس، فإننا نعلم – على الأقل – أن اللغة ليست ذاتية، "فكل لغة هي في البداية متقبلة يتلقاها الطفل جاهزة من الوسط كما يتلقى منه غذاءه" على حد عبارة غوسدورف. وأن لا تكون اللغة ذاتية، معناه أن الدلالات التي تحملها هي مضمنة فيها سلفا، وهي ثابتة، بينما يشهد الواقع بحيوية الذات الإنسانية وبحركية الأحداث، فلا يمكن، بناء على ذلك أن يحتوي الثابت اللغوي حركية الذات والأحداث إلا لكي يطبعهما بثباته وسكونه. إن اللغة بهذا المعنى، لا تقول إلا لكي تخون مكامن النفس وأحداث الواقع ; وما أكثر تذمر الناس من خيانة العبارة، فاللغة ليست لغتي وإنما هي تمارس سلطتها بمحدودية دلالاتها.
إن سلطة اللغة كبنية وكمؤسسة خارجة عن الذات تمارس سلطتها كمدونة معجمية لدلالات محدودة هو أمر يمكن أن نشكك فيه لنبين بالمقابل مستطاعها كأداة طيعة ولكن يبقى التساؤل: طيعة في يد من؟ هل هي أداة طيعة لكل الناس؟
قد لا نضيف شيئا إذا قلنا أن السلطة السياسية تسعى قدر الإمكان إلى امتلاك أدوات السلطة واحتكارها، وما الأنظمة الرمزية إلا آليات مثلى لتنظيم البشر وتعويدهم على الطاعة. إن المستعمر يبادر أولا بتعليم لغته لمستعمره، لأن الأكثر اكتسابا للغة هو الأكثر قابلية للتطويع والإخضاع. إن الأمر نفسه ينطبق على المجال العسكري الذي تسند فيه المراتب والأوسمة إلى الأكثر درجة في التعليم لأنه الأكثر قابلية للإنصياع والخضوع. فليست اللغة هي ما يحقق إنسانية الإنسان بل على العكس هي أداة إغترابه وهي الوسيلة المثلى لإبعاده عن ذاته بإبعاده عن حريته.
إن صراعنا حول السلطة هو صراع على إمتلاك الأنظمة الرمزية التي تتحقق بها السلطة نفسها، فعن سؤال "من هو أفضل رمز تاريخي بالنسبة إليك؟" أجاب زعيم سياسي: "المسيح". وقد نفاجؤ بهكذا إجابة حين نتمثل الدولة الحديثة على أنها دولة علمانية. ولكن يبدو أن لكل دولة، بل ولكل حزب معتقده، والكل يشن الحرب ضد الكل ويسميها حربا مقدسة إلى درجة أنه من المؤسف أن تتردد على مسامعنا عبارات تحمل تناقضا مثل عبارة "الحقد المقدس"، فهل يعقل أن يكون الحقد مقدسا؟؟
لقد أصاب إبن خلدون بقوله: "إن أشد الحروب ضراوة تلك التي قامت على العقيدة"، فالمقدس في عصرنا أصبح قدرة تأثيرية على جميع الأنصار سياسيا ، ولكن تبدو المفارقة عجيبة حين نرى حروبا تحركها نوازع دينية وفي الآن نفسه يسعف المصابون إسعافا يحمل إما صليب المسيحية أو هلال الإسلام. إن المقدس الذي يدفع بالحرب هو نفسه الذي يضمد ويلاتها. إننا أمام زمن إلتباس المقدس بما يوشك أن يفقده قداسته إذ لم نعد نميز بين عمليات إرهابية وعمليات خيرية. إن أسوء ما وصلت إليه الإنسانية هو التشكيك في مقدساتها. وإذا كانت الأنظمة الرمزية لا تنضاف إلى الواقع الإنساني بل هي الوجود نفسه فإن التشكيك في مصداقيتها هو تشكيك في قيمة الإنسان نفسه كمبدع ومنتج لها.
إننا لم نعد ندري ما إذا كنا نستعمل المقدس أم يستعملها؟ نستعمل اللغة أم تستعملنا؟ ألا يمكن أن تسعفنا رمزية الصورة؟
إن الصورة نفسها لا تخلو من التوظيفات الإيديولوجية والاقتصادية. وإن الواحد منا ليجد نفسه محاطا من كل الجوانب بالصورة ملصقة على الجدران وعلى وسائل النقل العامة والخاصة، بل الأفضع من ذلك على ألبستنا، إلى درجة أمكن القول معها بأننا أصبحنا مجرد لوحات إشهارية سياسية كانت أم اقتصادية أم ثقافية. إننا لا نستعمل الصورة ونوظفها بقدر ما تستعملنا، وهي ليست شيئا ينضاف إلى محيطنا، بل هي المتملكة له، وهذا ما يجد تأييده في قول ديبراي: "فبما أن الصورة أول ساكن للمكان، فإنها ليست ضيفا علينا وإنما هي صاحبة المحل". وإذا كان ابن خلدون قد قال: "ما دخلت السياسة شيئا إلا وأفسدته" فإن الأمر يكون أشد خطورة إذا كانت الصورة موضع تقاسم بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية. إذا كانت الإيديولوجيا تجبرنا على أن ننظر إلى العالم فقط من خلال منطلقاتها وأفكارها وأحكامها، فإن النزوع الاقتصادي يبدو أشد خطورة لأنه لا يسمح بالتفكير بل يكرس عقلية الاستهلاك، وهو لا يقدم العالم إلا في شكل فرجة ومتعة وتسلية بل أحيانا في شكل ألعاب إعلامية لا تقتصر على الصغار بل تطال الكبار أيضا.
إن المتعة الظرفية والآنية تغني الإنسان عن التفكير وعن البحث السببي في نشوء العالم، وعن العلاقات التي تحكمها، لأنها تقدم لنا مشهدا واحدا من الواقع، هو الفرجة الظرفية التي تحجب عنا النظرة العقلية والمتماسكة للعالم، ذلك أن "أصل الفرجة هو خسارة لوحدة العالم" على حد عبارة غي ديبور. وإذا كان "للدماغ البشري مطلبا أساسيا، هو الحصول على تمثل موحد ومنسجم للعالم"، فإن هذا نفسه ما تحول ثقافة الفرجة دونه، ذلك أنه "أمام منضدة المشاهدة نصمت" ونمتنع عن الحوار بيننا، لنصوب أنظارنا تجاه صورة تقدم لنا المعنى "دفعة" دون مناقشته. إن الصورة تغير أفكارنا وفي الآن نفسه تغير لغتنا ذلك أنه "في اللغة عوضت كلمة البصر كلمة التفكير والفهم" كما ذهب إلى ذلك ديبراي، وتراجعت فاعلية الفكر أمام طغيان الصورة وتحكمها في البصر.
يبدو أن قدر الإنسان أن يبدع دائما مظاهر إستعباده ; فقد اعتقدنا أن اللغة إبداعا، ولكن اتضح لنا أنها مجالا للإرغام سواء في بنيتها أو في توظيفاتها. وقد اعتقدنا أن الصورة قد يسرت لنا الفهم وجنبتنا عناء التفكير المطول الذي تقتضيه اللغة كما أن اعتقادنا في قيمة المقدس قد انهار أمام تحوله إلى آلية تحريض على العنف والعنف المضاد. وكأن الإنسانية تبدع في اتجاه يوازيه عكسيا تراجع كل تواصل إنساني، إلى درجة أننا نكاد نسلم بالموقف الطبيعي الرافض للحضارة ذات الطابع التدميري وذلك بالرجوع من جديد إلى الحالة الطبيعية. "على أنه لا علاج يقي الإنسان هذا الانقلاب في النظام الطبيعي" كما ذهب إلى ذلك إكاسيرار أي أنه لا سبيل إلى أن نحيا خارج الأنظمة الرمزية. فهل علينا أن نسلم بقدر التواصل على هذه الشاكلة؟

IV- شروط التواصل:
يمكننا أن نتوقف عند المفارقة التي تنطوي عليها الأنظمة الرمزية ; فهي من جهة ضرورية، ولكنها من جهة أخرى تطغى عليها التوظيفات اللاإنسانية. لذلك تكون شروطنا في مجملها مرتبطة بهذه الغاية ; فوفق أية شروط يكون التواصل إنساني؟
1- شرط التكافؤ:
أن يكون الأفراد متساوون ضمن التواصل وضمن الأنظمة الرمزية ولا يحق لأي كان أن يمارس وصايته على البشر بذريعة التفوق أو التحضر ذلك أن الأصل والأساس الذي تبنى عليه العلاقات بين البشر هو التكافؤ لقول هابرماس: "أسمي تواصلية،التفاعلات التي يكون فيها نالمشاركون متفقين مؤتلفين على تنسيق مخططات عملهم"
ثقافيا : التسليم بالتساوي في القدرة على الإسهام في الحضارة الإنسانية دون إعتبار الثقافة حكرا على أمة دون أخرى ودون مفاضلة.
لغويا: أن يساهم التواصل في إثراء اللغات الخاصة وتمكينها من الإستفادة من الدراسات الألسنية، بدل طغيان لغات تسمي نفسها عالمية بقصد ممارسة الهيمنة الثقافية. غير أنه من الضروري أن نحذر في هذا المجال من تدخل النوايا السيئة حين تسعى إلى إحياء لغات عرقية يكون المقصد منها إضعاف اللغة الأم وإضعاف الحضارة القائمة عليها.
دينيا: تكريس حوار الديانات بدل صراعها.
فرجويا: أن تكون المؤسسات الإعلامية متاحة بالتساوي وأن تكون مصدرا لحوار حقيقي بدل الحوارات المزعومة والمصطنعة التي خلقت فضائيات غرضها الأساسي التعتيم عن فضائيات أخرى قد تكون مساهمة في تطوير الثقافات الإنسانية. وكمثال على ذلك نذكر سعي الدول العظمى إلى إرساء فضائيات بمختلف اللغات الغاية منها إضعاف الحضارات من داخلها. إن مقصدنا بالأساس هو أن نجعل الصورة إنسانية.
2- شرط الكونية:
إن ما أنتجته الإنسانية من أنظمة رمزية هو في حقيقته مكسب للإنسانية جمعاء، لذلك لا ينبغي أن تكون منفعته فئوية أو قطرية بل يجب أن تكون إنسانية وكلية.
لغويا: يكون مقصد نشر اللغة توسيع الثقافات وتنويعها بدل طمس خصوصيات الشعوب وتطويعها للخضوع.
دينيا: إذا كانت الديانات التوحيدية تلتقي في القول بوحدة الإله وتلتقي في بعض القصص الرمزية مثل خطيئة آدم وجريمة إبنه في قتل أخيه وقصص نوح وغيره من الأنبياء فمعنى ذلك أنه يوجد في الديانات ما يمكن أن يكون دافعا لتوحيد غاياتها الكونية. إنه لا بديل عن ثقافة المواجهة والإصطدام إلا بثقافة الإلتقاء والتقاطع في الأهداف الإنسانية. وعوض إثارة مسائل تثير النزاع والإقتتال فإنه يكون من الأجدر إثارة مسائل الإلتقاء ضمن ما هو كوني وإنساني
3- شرط الحرية:
لقد تحررت الإنسانية بواسطة اللغة سياسيا ومكنت الكتابة من التوعية وفضح آليات السلطة. والوظيفة نفسها تؤديها ثقافة الصورة لذلك فإن ما نشترطه بالأساس هو أن تكون الصورة إنسانية في توظيفاتها وفي مقاصدها بدل أن تكون تجارية وعوض أن تفرض الرأي الواحد والذوق الواحد، فإنه من الضروري أن تكون حافزا على تحرير الفكر وتحرير الذوق. إن الإنساني لا يمكن أن يتحقق بمخادعة الشعوب واستثارة غرائزها، بل إن الحرية الحقيقية والتواصل الحقيقي يتحققان أساسا عندما يكون الإنسان هو المقصد والقيمة. وإذا كان قد قيل قديما "أيتها الحرية كم جرائم أرتكبت باسمك" فذلك لأن شرط الحرية لا يكون باستغفال المتلقي، بل باحترامه وتمكينه من أن يكون صاحب موقف حقيقي، بدل تدجينه وتدجين أرائه ومواقفه وذوقه، لأن الحرية هي في المطاف الأخير قيمة كل القيم.
V- الرهانات الإنسانية للتواصل:
1- الرهان القيمي: وهو أن نجعل قيمة الإنسان فوق قيمة الأشياء وسابق لقيمة المردودية والربح والدعاية التجارية.
2- الرهان الفكري: أن نراهن على أن الإنسان كائن مفكر، وأن العالم بأكمله موضوع تفكير، بدل تحويل العالم إلى سوق وتحويل البشر إما إلى مستهلكين وإما إلى لوحات إشهارية تحمل ألبسة الدعاية التجارية.
3- الرهان العملي: أن تيسر الأنظمة الرمزية العلاقات العملية بين البشر وأن تؤمن قدر الإمكان السبل الكفيلة بالتقاء الناس ضمن ما يحفظ أمنهم وبقاؤهم.
4- الرهان التثقيفي: وهو أن يكون مقصد الأنظمة الرمزية تثقيف الإنسان فعليا بدل إستمالته واحتوائه فكريا وحضاريا.
5- رهان التنوع: المحافظة على المشاركة في الكونية لا بما تفرضه الدعاية من عولمة، بل بالحفاظ على الفروقات الثقافية والخصوصيات الدينية واللغوية للشعوب.
الخاتمة:
إذا كان التواصل ضرورة وجودية ومعرفية وعملية فإن ذلك لا يقف عند الطابع التلقائي، بل يقتضي تنظيما يحول التواصل الإعتباطي إلى الإنتظام فكريا ورمزيا. غير أن الإنتظام وحده لا يضمن شرط إنسانية التواصل وإنسانية الأنظمة الرمزية. لذلك يكون من الضروري أن نحدد شروطا أخلاقيا وإنسانيا كي يكون التواصل نفسه إنسانيا، وكي يكون ما ينتجه الإنسان تأكيدا لتحضره وتنمية لاستعداداته الجسمية والفكرية. بهذا المعنى فإنه يكون لزاما على التواصل أن يكون مشروطا بالتكافئ والكونية والحرية، حتى يكون الإنسان مقصدا وغاية، بدل تأليته وتشيئته ضمن "الغباء المبرمج" إعلاميا، فحاجتنا إلى المقدس واللغة والصورة لا تقف عند المتعة والإستهلاك بل مرتهنة بمدى ما تحققه من إنتزاع لقيمة الإنسان وسط طغيان قيمة الأشياء وذلك لتأكيد قدرته على التفكير بنفسه كي يكون محددا لأفكاره وأفعاله ومسؤولا عن ذوقه. ذلك أنه لا قيمة لوسائط إستبدادية تكرس وثوقية من نوع جديد، وتمارس سلطة المتعة بدل حرية التفكير، لأن القيمة الحقيقية لأي نظام رمزي تتحدد بمدى إستجابتها -لا لرغبة الإنسان- بل لقيمته ومطامحه كوجود له المنزلة والقيمة المثلى.





صالح الزناتي

.
هل يستطيع أي صحفي أو اعلامي ان يتبرأ من المورثات الثقافيه التي يحملها ..؟؟ هل يقدر على التنصل من اخلاقيات الأديب والمثقف الكاتب؟؟ وهل يستطيع ان يخرج من البيئه التي يعيش بكامل أطرها ومعطياتها ,فيكتب مالا يقبله العقل والقلب ..؟؟ ان الكاتب أو الإعلامي لا بد ان يسير على نهج سلفه الصالح ..وان أمسك قلمه لا بد أن يحمل مع قلمه مشاعره ,احاسيسه ,ثقافته,ومورثاته الخلقية,فتأتي كتاباته تحمل الكروموسومات التي سبق ان حملها سواء من تجارب ثقافية أو مركبات جينية...
على الكاتب ان يزن احرفه وجمله قبل ان يسطرها قلمه فينشرها عبر الإنترت او شاشات التلفاز وأوراق الصحف,لأنه سابقاً قالوا ان غلطة العالم بألف ..فما بالنا بغلطة الكاتب أو الإعلامي .التي غطله واحده كفيله أن تغير او تشتت فكر أناس بسطاء لا يملكون من الدنيا إلا سطحية التفكير و هشاشة العقل

صالح الزناتي

مرحبا بكل من هل علي بالزيارة
مواقع و منتديات هامة و رائعة

tunisia sat

tunisia sat
site web tunisenne

tunisia-sport

منتديات تونس سات

startimes2

kuwait2

hannibal-sat

hannibal-sat
http://www.hannibal-sat.com/vb/

tunisia-web