الخميس، يوليو 24، 2008

:: مغامرة رأس المملوك جابر .. سعد الله ونوس

:: مغامرة رأس المملوك جابر .. سعد الله ونوس

(الجزء الثالث)

الحكواتي : والمملوك جابر ذكي وذكاؤه وقاد . لمح الفرصة تواتي ، فانقض عليها بلا تراخ . يؤمن أن الفرصة قد لا تأتي مرتين .
وسر الفطنة ألا تحتاج الفرصة مرتين . وإن أسعفه الخيال ، صارت الأماني سهلة المنال . ماذا يعنيه ما يجري في بغداد ما دام هو الرابح في الختام ؟ ونزل إلى أبواب المدينة مرات وعاد ... وأعمل الفكر ، ونقب عن حيلة أو سر . وجابر ذكي وذكاؤه وقاد . إذا أكد ذهنه فهو لا ريب بالغ مراده .. ولم يزل في تفكير حتى وجد التدبير . عندئذ أشرق وجهه بالسرور ، وطلب بالعجل الدخول إلى الوزير .. ( خلال كلام الحكواتي توضع قطع ديكور تمثل ديوان الوزير قاعة فاخرة الرياش والأثاث . يظهر في الديوان الوزير ومعه أحد أصحابه ) . إنه عبد اللطيف أحد أمراء بغداد ذوي الغنى والنفوذ . الوزير تجاوز الأربعين ، وهو بدين ، وفي تقاطيع وجهه لؤم قديم ومزمن . منقبض الأسارير ، يمور في عينيه حقد كظيم .. يبدو شديد القلق والانفعال .. يجلس لحظة ، ثم ينهض بعصبية فيدور في أرجاء القاعة وبحركة لا إرادية يمد شفته السفلى ، فيتناول شعرة من شاربه يقضمها بأسنانه . ثم يتف .. ومن حين لحين يخرج من جيب صدريته علبة نشوق ، فيتناول بين إصبعيه قليلا منها يدسه في فتحتي أنفه ، ويعطس .. نراه يفعل ذلك مرتين على الأقل قبل أن يدخل عليه الحارس .. عبد اللطيف هو الآخر لا يقل عصبية عن الوزير ، لكنه يحاول أن يتماسك في مقعده ( يدخل الحارس ويقترب من الوزير ) .
الحارس : سيدي .. على الباب واحد من مماليككم يطلب المثول بين أيديكم .
الوزير : ماذا يريد ؟.
الحارس : لم يفصح عن قصده لكنه يلح في مقابلتكم على انفراد .
الوزير : ( بحركة ضجرة ) دعه ينتظر .
الحارس : سمعا وطاعة . ( ينسحب من الديوان ) الوزير : ( وهو يدور قاضما شاربه بأسنانه ) والآن ...
عبد اللطيف : لنعترف أنهم كسبوا نقطة . لم يتخيل أحد أن الخليفة سيتحرك بهذه السرعة .
الوزير : ( بعنف ) أما أنا فقد تخيلت منذ فترة وتحركات أخيه عبد الله تزداد وتتسع . وهو الدماغ الذي يدبر كل شيء . اتصالات بكبار التجار . رسائل إلى الولايات . اجتماعات سرية بالخليفة ، ( يتحول صوته صياحا ) كان ينبغي أن نتوقع ضربة مفاجئة على رؤوسنا .
عبد اللطيف : هوت الضربة قبل أن نجد الفرصة لتوقعها .
الوزير : كانت لدينا كل الفرصة ، ولو أصغيتم إلى لما فقدنا المبادرة .
عبد اللطيف : من كان يعلم أن الأحداث ستجري بهذه السرعة ؟.
الوزير : لا .. لن تأتي الآن لتقول لي من كان يعلم . نبت الشعر على لساني وأنا أستحثكم . كان واضحا أنهم يريدون تصفيتي وتشتيت الأمراء المؤيدين لي ، وأنت على رأسهم . ذلك سبيلهم الوحيد كي ينفردوا بالحكم ، ويدبروا الدفة على هواهم لا .. لا تقل لي من كان يعلم الأوراق مكشوفة حتى قبل انفجار الأزمة الأولى . ولولا ترددكم لا بتلعهم إبليس قبل أن يجدوا الوقت لتطويقنا . عبد اللطيف : ليس سهلا أن تطلب غزوا أجنبيا دون تقدير جيد للموقف . أنت تعرف ماذا يعني الجيش الغازي عندما ينتصر . إنه خراب طائش ، قد تستحيل السيطرة عليه . الوزير : ولكن الجيش الغازي يأتي ليحمي مصالحنا ، ويجهز لنا كرسي السلطة . فماذا يهمنا بعد ذلك بالتأكيد سيكون هناك خراب . لن يدخل الجيش بالدفوف والغناء ، ولن يوزع الورود والعطور . هذه حرب .. سيقتلون ويخربون . طبعا لمن يبقي من ذرية الخليفة حي ، وستصبح قصوره خرائب كما لن يوفروا المدينة . هي الأخرى سينهبونها . على أي حال هذه ضريبة الانتصار. أما نحن فماذا يخيفنا ؟ ليدعموا لنا السلطة . فهل نطلب أفضل من ذلك .
عبد اللطيف : المهم ... كان لا بد من دراسة الظروف المحيطة بنا .
الوزير : ليست الظروف المحيطة بنا لغزا مستعصيا. الصراع واضح الأبعاد . وأمامنا اختياران لا ثالث لهما . إما أن تقبل تصفيتنا أو نطلب عونا خارجيا يحسم الصراع عبد اللطيف : أنت نفسك تمهلت ، ووافقت على أن الأمر يحتاج إلى استعداد .
الوزير : بالتأكيد .. كان ضروريا أن نضمن ولاء عدد من القواد ،.
وأن نتخذ بعض الترتيبات ، كيف نغريهم بالغزو إن لم نضمن لهم النصر هنا ! .
عبد اللطيف : على كل حال .. لا فائدة الآن من تبادنا اللوم . لقد حزمنا الرأي في النهاية . وأجمعنا على أن تبعث الرسالة . .
الوزير : ( يتناول نشوقا ، ويعطس ) نعم .. حزمنا الرأي عندما أفلتت من أيدينا المبادرة ( يعطس مرات متلاحقة .. ويسود قليل من الصمت المتوتر ) . .
عبد اللطيف : قل لي .. هل تعتقد أنهم اكتشفوا خطتنا ، أم هي مجرد احتياطات وقائية ؟.
الوزير : من المؤكد أنهم يرتابون ، عند عبد الله جهاز من العملاء والمخبرين أن الفرقة التي استخدموها لإغلاق بغداد هي فرقة القصر التي يشرف عليها عبد الله بنفسه أي الفرقة التي ليس لنا فيها أعوان ربما لا يعرفون الخطة بتفاصيلها ، ولكن من المؤكد أنهم يرتابون ، ويحتاطون لكل احتمال . .
عبد اللطيف : إذا كانوا يعرفون حقاً ، فسيعجلون إذا بالصدام ، وقد تكون تلك خطوتهم الأولى .
الوزير : الصدام لا ... ( ينشق ويعطس ) لن يقامروا الآن عبد الله دقيق في الحساب . وهو يعرف أن النتائج غير مضمونة . ( لحظة ) خطوتهم التالية مكشوفة . سيحاولون قبل كل شيء الاتصال بحكام الولايات ، وضمان الإمدادات ، سيقدمون كل التنازلات التي يطلبها الولاة ، سيمنحونهم الاستقلال إذا لزم الأمر مقابل أن يضمنوا وصول القوات أما قبل ذلك، فلن يقامروا بالصدام . سيكون أمامنا فترة من الترقب ، والهدوء المحتقن . .
عبد اللطيف : ومع ذلك من المفيد أن نتخذ بعض الاحتياطات . هناك دائما مفاجآت غير محسوبة . ومن يدري قد تستغل العامة هذه الظروف ، فتشعل نار الشغب ، حينئذ لا أحد يعرف كيف يتحول الموقف . .
الوزير: ( باحتقار ) العامة ! ومن يبالي بالعامة ؟ ..لا هؤلاء لا يثيرون أية مخاوف ، يكفي أن تلوح لهم بالعصا حتى يمحوا ، وتبتلهم ظلمات بيوتهم . .
عبد اللطيف : وخطيب الجامع ! أي موقف سيتخذ في رأيك ! إذا شاء يستطيع أن يهيج العامة ، وأن يلعب دور مؤثراً لا أكتمك ... أنا لست شديد الثقة به . .
الوزير : لا تخف .. أعرف خطيب الجامع أكثر منكم . إنه دقيق النظر ، وبعيد في حساباته ، لا يورط نفسه ، ولا يمشي خطوة إلا إذا كان واثقاً أن خط الرجعة مأمون . ستكون خطبة الجمعة أدق من إبرة الميزان . سيختار كل كلمة بحيث لا يوحي بأي انحياز ( تعبير ازدراء على وجهه ) لا .. كل هذه المسائل ثانوية ، ولا ينبغي أن نضيع وقتنا فيها . أمامنا فترة قصيرة من الهدوء . لكننا في سباق مع الوقت . لو نجحوا في اتصالاتهم قبلنا ، فلن تكون السيوف رحيمة . سيقطعون رؤوسنا واحدا بعد الآخر . وسيعلقونها في ساحات بغداد كمشاعل النصر . أتسمع ! رأسي ، رأسك ، ورؤوس الآخرين ... ستعلق في الساحات ، والدم يقطر منها على وجوه الراقصين حولها . إننا في سباق مع الوقت لمبادرة في أيديهم هذا هو وضعنا . .
عبد اللطيف : وضع دقيق تحفه المخاطر . كل شئ مرهون بالرسالة ، ولكن .. .
الوزير : ( مقاطعا بحدة ) دعنا من هذه الـ " لكن " إذا لم تخرج الرسالة من بغداد فقل علينا جميعاً السلام . قضية حياة أو موت . ينبغي أن تنفذ الخطة مهما كان الثمن لم يعد مهما . سنقبل كل المخاطر ، كي تخرج الرسالة من بغداد . .
عبد اللطيف : ألديك اقتراح معين ؟ .
الوزير : لنعقد اجتماعاً هذا المساء . لا مجال للاختيار . أما أن ننفذ الخطة أو ننتهي .
عبد اللطيف : ( بعد لحظة ) فكرة معقولة . ربما كان لدى الآخرين اقتراحات نافعة . .
الوزير : لابد أن نجد مخرجاً .
عبد اللطيف : هل ندعو الجميع ؟ ( يدخل الحارس ) . .
الوزير : نعم .. الجميع .. ولا تنس أن جواسيس عبد الله ينتشرون حولنا كالذباب .. ( لحظة ) هـ ...كسبوا نقطة ، إلا أنهم لم يكسبوا الجولة ، ولن يكسبوها ما دمت حيا . .
الحارس : ( مرتبكاً وخائفاً) سيدي .. المملوك يلح كثيراً في الدخول عليكم . يزعم أن لديه أمراً هاماً لا يقبل التأجيل . .
الوزير : ( غاضباً ) يلح .. يلح ... ماذا يريد هذا الغراب ؟ .
الحارس : لا أعلم يا سيدي .
عبد اللطيف : طيب ... سأمضى الآن .
الوزير : لا تنسي أنهم يشددون الرقابة أيها الأمير . .
عبد اللطيف : كن مطمئنا . .
الوزير : ( بعد فترة ) دع هذا الغراب يدخل . سأجعله عبرة إن كان يدخل على لشأن تافه . .
الحارس : ( وهو يتراجع بانحناء ) سمعا وطاعة ( عندما يصل إلى الباب . ينادي ) ... ليدخل مملوك سيدنا الوزير .
( يدخل جابر . قسمات وجهه يتراقص عليها الفرح . في عينيه تتوهج النظرة الذكية ، يبالغ في الانحناء ويزيد في مظاهر الاحترام ، حتى ينكشف النفاق واضحاً ) . .
(جابر : لا يزال ينحني ) السلام على مولاي وولي نعمتى وزير بغداد المعظم . .
الوزير : ( بإهمال ) ألست المملوك الطويل اللسان جابر !.
جابر : أطال الله عمر سيدنا الوزير وقصر عمر أعدائه ، هو أنا مملوككم جابر . .
الوزير : ( يتناول نشوقه ) هيا .. ولا تطل على الثرثرة . ويلك إن كنت تدخل على لأمر تافه . .
جابر : ( فيما يبدأ الوزير يعطس ) حاشا يا مولاي .. ورب الكعبة ، حين علمت أن سيدنا الوزير مكدر البال ، تكدر بالي ، وضاقت بي الأرض حتى صارت كالكشتبان .
الوزير : ( بدأ يغضب ويزوي ما بين حاجبيه ) أجئت تبثني .
العواطف ! إن كان لدي ما تخبرني ، فقله وأوجز لا يدخل على واحد منكم إلا بأخبار السوء ، وخلقه يتعوذ بها البوم . .
جابر : لا عشت إن حلمت لسيدنا الوزير ما يسوءه. جئت ألبي له حاجة إن كان هناك ما يحتاجه .
الوزير : ( يدقق النظر ) تلبي لي حاجة ‍ ومتى كان فيكم خير ما إن ألواح لواحد بمهمة حتى يبدأ بالارتجاف كأنه مقبل على الموت . .
جابر : ها أنذا قدام مولاي ، حياتي رهن إشارته ، وفي المواقف العسيرة لانعدم حيلة . .
الوزير : أعرفك طويل اللسان .. فأفصح عما في نفسك حالاً ، جئت تتملقني ، أم تخبئ شيئا وراء ما تقول ؟ .
جابر : عندما يمتحنني سيدي يعرف إن كان تملقا ما أقول . .
الوزير : هل تعرف المهمة التي أبحث لها عن رجل ، يحملها ويخاطر من أجلها ؟ جاد : لا ينبغي أن أدس أنفى فيما لا يعنيني . ولكن حين علمت أن سيدي مكدر البال ، انشغل فكري ، وبدأت أسأل عن السبب ، حلمت أنا العبد المملوك أن أعمل شيئاً يبدد كدره ، وينيله أريه .. وبعد بحث وطول ، عرفت أن ما يشغل سيدنا هو رسالة يريد أن تخرج سالمة من بغداد .
الوزير : أصبح أمرنا مشاعا في كل المدينة . .
جابر : ليغفر لي سيدي هذا الفضول ، ما قصدت أن أدس . .
الوزير : ( مقاطعاً ... وقد أثير اهتمامه ) لا عليك أيها المملوك ، فات أوأن الحرص ، ما يهمنا الآن أن نجد رجلاً يحمل المهمة ، ولو اجتاز في سبيلها الأهوال . .
جابر : قدامك يا سيدي . .
جابر : أي والله رأيتهم يا مولاي . أعوذ بالله .. لا نجاة من أيديهم حتى ولو لبس المرء قبعة الخفاء . يفتشون الداخل والخارج كأنه في يوم الحساب ( يتمهل .. يخفض صوته ، ويقرب وجهه من الوزير ) ومع هذا .. فسنسخر منهم . ونجعلهم أضحوكة بغداد لأعوام وأجيال .
الوزير : ( منفعلاً .. يعطس ) نسخر منهم .. ماذا تقول أيها المملوك ؟ إن كنت تعبث فسأصنع من جلدك طبلاً ودربكة هيا .. أخبرني كيف تريد أن تسخر منهم . هل وجدت تديبرا نافعاً . .
جابر : التدبير جاهز يا مولاي .
الوزير : ( لشدة انفعاله ، يتناول نشوقه أيضاً .. ) هات ما لديك بالعجل ، إن كان ما تقوله صحيحاً . .
جابر : ( بابتسامة خبيثة ) إن كان ما أقوله صحيحاً ؟ .
الوزير : فسأجزل لك العطاء .
جابر : لا أبتغي إلا مرضاه سيدي ، إلا أني أجد نفسي ضعيفاً أمام كرمه . .
الوزير : لا تساوم ، سأعطيك ما تريد . .
جابر : أيمن على عبد بمركز يرفعه من ضعته ؟ .
الوزير : أعطيك ما تريد لو بلغت رسالتي .. .
جابر : ويكرمني فيزوجني زمرد خادمة سيدتي شمس النهار ؟ .
الوزير : ( نافذ الصبر ) هي لك .. وفوقها مال كثير ، ولكن أرنا أولاً تدبيرك . .
جابر : ينحني مقترباً من الوزير .. لهجة بطيئة مع تشديد على الكلمات ) إني أهبك رأسي يا مولاي . .
الوزير : تهبني رأسك ؟ وماذا تريدني أن أفعل برأسك ؟ مرة أخرى أحذرك أيها المملوك . إن كنت تعبث فسأجعل من جلدك طبلاً ودربكة . .
جابر : لو لم يكن رأسي نافعاُ ما قدمته لمولاي .. .
الوزير : وما نفعه لي ؟ .
جابر : راقبت الحراس ساعات طويلة يا مولاي . رأيتهم كيف يفتشون ، وكيف تتغلغل أصابعهم كالثعابين في كل شيء يمزقون الثياب يقطعون الأحذية يؤلمون الناس وهم يغرسون أظافرهم في كل بقعة من أجسادهم . البطون والظهور .. وأحياناً ما بين الأفخاذ .. ولكن أحد منهم لم يخطر بباله أن يفتش تحت شعر الرأس . .
الوزير : ( ببلاهة ) وماذا سيجدون تحت شعر الرأس سوى القمل والبراغيت ؟ .
جابر : قد يجدون الرسالة التي يفتشون عنها يا مولاي . .
الوزير : ( مندهشاً .. تتوقف يده التي تبحث عن بعض النشوق .. ) الرسالة ؟ ( لحظة تلتقي فيها العيون وهي تبرق ) أتعني ‍ .
جابر : نعم يا مولاي ... ( يلتفت حوله بحذر ) أرجو ألا تكون حولنا آذان فضولية . .
الوزير : من يجرؤ على الاقتراب من الديوان . .
جابر : إذن إليكم التدبير .. ننادي الحلاق ، فيحلق شعري ، وعندما يصبح جلد الرأس ناعما كخد جارية جميلة ، يكتسب سيدنا الوزير رسالته عليه . ثم ننتظر حتى ينمو الشعر ويطول فأخرج من بغداد بسلام . .
( يلهث الوزير منفعلاً . يشع النشوق في أنفه ... ولشدة انفعاله لا يعطس .. فيصبح .
وجهه كالقناع المدعوك . تثور همهة ، وتعليقات بين الزبائن .. ).
زبون : يحرز دينك .
زبون 2 : من أين وجدها ؟.
زبون 3 : الله يحميه .. يا عيني عليه .. ما هذه الفطنة .
زبون 1 : أي هيك تكون الرجال . مثله يستطيع أن يلعب بدولة .
زبون 2 : ابن زمانه .. قلت لكم منذ رأيته أول مرة ، هذا ابن زمانه . .
الوزير : ( يحاول التخلص من انفعاله ) انتظر .. انتظر .. نحلق شعر رأسك أولا .
جابر : أي نعم .
الوزير : ثم نكتب الرسالة عليه .
جابر : أي نعم .
الوزير : وننتظر حتى يكتسي الرأس مرة أخرى بالشعر ، وتختفي تحت سواده الكلمات .
جابر : أي نعم .. ( يبحلق الوزير فيه بعينين مندهشتين ، وكأن ذهولا قد ألم به فجأة يعطس بشدة ) .
زبون 3 : يبدو الوزير وكأنه لا يصدق .
زبون 2 : فكرة تساوي كنزا .
الوزير : ( مقتربا من جابر ، وفي وجهه خلف الذهول حنان ) والله وجدتها أيها المملوك .
جابر : ( بنظرة ذات معنى ) لعل مولاي لا يندم على وعوده ، ما دام قد أعجبه تدبير مملوكه .
الوزير : ( عيناه سارحتان ، يخفق فيهما فرح وتشف ) لا تخف .. الوعود محفوظة .
( بعد أن يلقي بإهمال هذه العبارة يدور في أرجاء القاعة ، وكأنه يتابع عينيه السارحيتين ) .
زبون 3 : منذ قليل كان يبدو كفأر في مصيدة .
زبون 2 : بعد تدبير جابر تغير الحال .
الوزير : كسبوا نقطة .. ربما .. ولكن ها أنذا أكسب الجولة . تسلمنا المبادرة منهم ، وإني أمسك المنتصر وأخاه في قبضتي .. وسأعصرهما .. ( بشدة قبضته ) حتى يصبحا عجينا فاسدا . ستكون المفاجأة ، ولنتحسس جيدا مواطئ أقدامنا . .
جابر : ( متعجلا ) هل يأمر مولاي بالبدء . كلما أسرعنا كان ذلك أفضل .
الوزير : ( ينتبه من شروده ) حقا .. ينبغي ألا نضيع دقيقة واحدة . إننا في سباق مع الوقت .. ( يقف قبالته . وينظر إليه بإعجاب وفرح ، ثم يمد يده إلى رأسه ، ويعبث في شعره بحركة غريبة ) سيكون لتدبيرك شأن في المستقبل أيها المملوك جابر .
جابر : ما يهمني هو أن يكون مولاي راضيا ، وأن يشملني عطفه وكرمه . .
الوزير : ( باسما ) خلف المقال أنت لجوج . كأنك تشك في عهودي .
جابر : معاذ الله ..
الوزير : قلت لك .. عندما تبلغ الرسالة نعطيك من المراكز ما تريد . وفي بغداد ستنتظرك المرأة التي تشتهي ، وكوم من المال . .
جابر : أمد الله في عمر مولاي ، وجعل أيامه موصولة بالظفر والمسرة ..
الويز : والآن ... إلينا بالحلاق ...
جابر : أجل .. إلينا بالحلاق .. وليحمل من الأمواس أحدها .
( يخفت الضوء في القاعة ، بينما يشتد على الكرسي التي يجلس عليها الحكواتي . سيتم المنظر على شكل تمثيل إيمائي وطقسي .. فالحركات ذات إيقاع بطيء ، يزيدها صمت الممثلين ثقلا ، حتى لتصبح شبيهة بطقوس غامضة ، وسحرية . تمتزج الحركات بكلام الحكواتي ، وتشكل معه ما يشبه اللحن الحزين ) . .
الحكواتي : وطلب الوزير أن يحضر الحلاق في الحال . وأن يحمل معه من الأمواس أشدها بريقا ، وأمضاها حدا . وعلى الفور جاء الحلاق إلى الديوان يتبعه ثلاثة من الغلمان . ( يدخل الحلاق ووراءه الغلمان الثلاثة . يسيرون بخطوات موزونة ، بطيئة ، بالغة التأدب ، يلبسون ثيابا ناصعة البياض ، ويحملون معدات الحلاقة . أحد الغلمان يحمل كرسيا عاليا ومسندا للقدمين . والثاني يحمل حقيبة فيها عدة الحلاقة وبعض المناشف . أما الثالث ففي يديه دورق وطشت من الفضة الخالصة ، يتقدم الجميع نحو منتصف الديوان . وبين الفينة والفينة لا ينسون أن ينحنوا باتساق ، وبشكل احتفالي . عندما يصلون إلى حيث يقف الوزير وجابر ، ويبدأون في الإعداد للحلاقة . يوضع الكرسي في مواجهة الجمهور ,أمامه المسند الجو ثقيل بطابعه الاحتفالي .. ).
الحكواتي : وقال الوزير مملوكه جابر حتى أجلسه على الكرسي العلى ، فاستقام ظهره فوقها ، وامتلأ بالزهو . وكانت عيناه تبرقان ، وتدغدغ مخيلته الأحلام . فتح الحلاق حقيبته . أخرج موسا له بريق ، ومعه مسنه الجلدي . وراح يسن الموس .. " اشحذ موسك أيه الحلاق .. اشحذ حتى يصبح كالومض البراق .. الرأس الذي ستجز شعره له في هذا الزمن المضطرب دوره .. فاصقل .. حد الموس حتى يصبح كالومض البراق " .. وكان الصبية يهيئون كل ما تحتاجه حلاقة يشرف عليها الوزير بنفسه ، ولما صار الموس ذا حد يفري الحديد ، تناول الحلاق برقة رأس المملوك جابر . فارتخت عضلات رقبته ، واستسلم هادئا بينما سرت في العينين نشوة كالحلم .
الوزير : ( منفعلا هذا الراس له قدره عندي .. أريدك بارعا كما عرفتك . احلق الشعر من الجذور . من أعمق منابته .. أريد أن يصبح رأس مملوكي جابر أكثر نعومة من خدود العذراى .
الحلاق : ( منحنيا في طقسية ) سمعا وطاعة .
الصبيان : ( وهم يصطفون وراء الحلاق متهيئين لك خدمة .. بصوت غنائي رقيق خافت أثناء الحلاقة ) . " يا معلمنا احلق ونعم الحلاقة . خل الرأس يصير مثل خدود العذراى يا معلم الحلاقين .. بفن ومهارة .. خل الرأس يصير مثل خدود العذارى " .
الحكواتي : ( على صوت الغناء الرقيق الخافت ) وأخذ الحلاق يحز شعر المملوك جابر . ولخفة يده ومضاء حد موسه ، لم يكن جابر يشعر إلا ببرودة لطيفة تشبه الأنسام، وترتخي لها الأجفان . وتساقطت خصلات الشعر .. خصلة بعد خصلة تساقطت .. وبان جلد الرأس .. يد الحلاق ماهرة رشيقة ، تتحرك فيلتمع الجلد.
الوزير : نعم يا حلاق .. نعم ما استعطت .
الحلاق : ( منحنيا للوزير ) سمعا وطاعة ..
الصبيان : خل الرأس يصير مثل خدود العذراى ..
الحكواتي : وشعر جابر برأسه يعرى . أحس بالبرودة ، لكنه لم يرتعش ، ولم تضطرب عيناه ، بل ظلت النشوة تختلج فيهما ، والموس .
يروح ويجئ ، حتى صار لرأسه لمعان المرايا . .
( تسقط حزمة ضوء على رأس جابر ، فينبثق منه لمعان ) . .
الحلاق : ( يعطر الرأس ، ويمسح عليه فتنزلق أصابعه ... ) نعيماً .. ( ثم يلتفت إلى الوزير ) نعيماً لمولانا ومملوكه . .
الصبيان : نعيما لمولانا ومملوكه . .
الوزير : ( يتحسس هو الآخر رأس المملوك جابر ، فتثيره نعومته ) عظيم .. عظيم .. أصبحت تغار من رأسك خدود أجمل العذارى ( ثم يلتفت إلى الحلاق وصبيته ) انصرفوا الآن ( بعد أن يجمع الحلاق وصبيته أدواتهم ينسحبون وهم يتمتمون : " نعيماً لمولانا ومملوكه ، مكررين نفس الطريقة الطقسية التي دخلوا بها ) . .
جابر : ارتعش من السعادة ، إذ يسبغ مولاي على رأسي الوضيع هذا الاهتمام .
الوزير : رأسك يساوي مملكة يا جابر . .
جابر : هو لك يا مولاى ( لحظة حتى يخرج الحلاق من الباب ) والآن ... ابحث يا مولاي عن ريشة وحبر لا يمحى إلا بالحفر .
الوزير : ( منفعلاً ) هذا ما سنفعله بلا إبطاء . .
ويبتسم ابتسامة طويلة تغص بالمعاني .. يأتي الوزير ومعه الدواة والريشة ) . .
جابر : بين يديك يا مولاى . .
( يركع جابر بحركة بطيئة ووجهه للجمهور ، بحيث تبدو واضحة كل الانفعالات التي يمكن أن تعبره . يأتي الوزير بكرسي منخفض ، ويجلس خلف جابر واضعا الدواة قربه ، يمسح مرة أخرى على الرأس الذي يلمع تحت الأضواء . ثم يغط ريشته بالدواة في الكتابة . عندما يضع الريشة على رأس جابر تتلقص ملامحه تحت تأثير الوخزة ، لكنه يتحمل ، وتخفق عيناه ) . .
جابر : ( ووجهه يتلقص ) آه ليت مولاى يختار من الكلمات ألينها وأكثرها إيجازاً . .
الوزير : لا تخف سأوجز في الكتابة ما استطعت . .
( من حين لحين يتوقف الوزير لحظة ، يفكر فيها باحثاً عن كلمة ، ثم يعود إلى الكتابة ) . .
جابر : ( متلقصا من الألم ) هذه الكلمة أحسها تنغرز في دماغي ، ليت مولاي يجد كلمة أخرى . .
الوزير : انتهيت تقريباً . .
( ينهي الجملة التي يكتبها . يضع الريشة ، ويغلق الدواة ، لكنه يتوقف فجأة ويسهم مفكراً ) . .
جابر : بعد أن فرغ مولاي من كتابة رسالته ، هل يسمح لي بالنهوض . .
الوزير : ( ساهما ) لا .. لا .. انتظر قليلاً . .
( ينهض ، ويذرع الديوان جيئة وذهاباً . يتناول نشوقا ويعطس ) . .
الحكواتي : وفكر الوزير كانت هناك حاشية ناقصة فيما يبدو وتردد .. عطس وتردد . وبعد أن اجتاز الديوان مراراً في غدو ورواح ، التمعت عيناه ، وعاد يجلس على كرسيه . .
الوزير : انتظر .. انتظر .. هي جملة وننتهي . .
_ يكتب الوزير جملة جديدة ، وينقبض وجه جابر من الألم ) . .
الوزير : ( يربت على كتفه بابتسامة ) والآن ... تستطيع أن تنهض .
جابر : ( وهو ينهض ) هل يشرفني مولاي الآن بمعرفة الجهة التي سأحمل إليها رسالته ؟ .
الوزير : ليس الآن .. ستعرف فيما بعد المهم أن ينبت شعرك بسرعة ، وأن يكسو جلد رأسك كطاقية سوداء .
جابر : وإلى أن يحين ذلك الوقت ؟.
الوزير : إلى أن يحين ذلك الوقت .. ستثقيم في غرفة منعزلة ومظلمة حتى لا يراك أحد ، ولا يقرأ ما هو مخطوط على رأسك إنس ولا جن . .
جابر : من أجل مولاي مستعد لكل شيء .
الوزير : إذن تضع على رأسك كوفية . وتستعد للمكوث في غرفة مظلمة . هيا معي ( يمسكه الوزير بيده ، ويخرجان ) .
الحكواتي : وهنا نستأذن المستمعين الأكارم باستراحة قصيرة نشرب فيها فنجانا من الشاي طبعا من يشاء الخروج لقضاء حاجة يستطيع الخروج ، ومن يشاء البقاء يمكنه أن يبقي ( تنفر من بين الزبائن تعليقات وردود فعل سريعة .. ) لا .. بالله عليك كمل ... .
زبون 3 : نريد أن نعرق بقية الحكاية .
زبون 1 : دائما تقطعها في لحظة حرجة .
زبون 2 : هات شاي للعم مونس .
زبون 1 : تستطيع أن تشرب الشاي ، وأنت تقرأ .
الحكواتي : لا تخافوا .. سنكمل القصة .. دعوني أسترد أنفاسي قليلا .
زبون 3 : اتركوه على راحته . لن يغير العم مونس عادته .
زبون 2 : هات نارة يا أبو محمد .
الخادم : حاضر .
( يعود جو المقهى إلى التراخي والفوضى ، كلام .. وتعليقات .. وصياح على أبي محمد الذي تنشط حركته الآن . بعض الزبائن يستغل الاستراحة للخروج قليلا من المقهى ) ..
زبون 1 : أرى أن أعرف إلام سينتهي هذا الولد .
زبون 2 : يمين بالله أحببته . .
زبون 3 : يفهم الحياة كأنه جربها أجيالا . .
زبون 2 : ويعرف كيف يقتنصها أيضا .
زبون 3 : الحياة كالمرأة لا تعطي جسدها إلا لمن يعرف كيف يأخذ جسدها . .
( الخادم يحمل صينية عليها عدد من كؤوس الشاي .. يضع كوبا أمام الحكواتي ، ويوزع الباقي ، ثم يعود بعد قليل حاملا موقد الفحم الجمر على النراجيل ) .
زبون 1 : أنا أقول إن شأنا كبيرا ينتظر هذا المملوك .
زبون 2 : بمثل هذه الفطنة والجرأة يستطيع أن يتسلق عرش السلطنة .
زبون 4 : لا تزيدوها . ما هو إلا ولد ذكي ونهاز للفرص .
زبون 3 : نهاز للفرص .. ليكن . هذا هو الطريق للوصول إلى أعلى المراتب .
زبون 4 : وأحيانا إلى أسفل المراتب إذا كنت لا تعرف .
زبون 2 : نعرف ونرى كيف يسير دولاب الدنيا .
زبون 1 : ولد بهذه العياقة ، يخرج من ألف مصيدة بسلام .. بالله يا عم مونس عجل .. أنا أقول إن شأنا كبيرا يتظر هذا المملوك ، فما رأيك ؟ .
الحكواتي : اصبروا .. اصبروا هي دقائق وتعرفون بقية الحكاية ..
زبون 1 : طيب .. العم مونس لا يريد أن يجيب . ولكن هل تراهن على ما أقول ؟.
زبون 2 : وأنا أنزل معك بالرهان .
زبون 4 : لا أراهن .. قد يصح ما تقول ، إلا أن المنطق السليم هو ألا يصح ما تقول .
زبون 1 : هذه فذلكة . نحن نعرف الدنيا ، ونرى كيف يسير دولابها .
زبون 2 : ستأتي بقية القصة على كل حال .
زبون 1 : هات شاي يا محمد ..
زبون 3 : ما دام العم مونس يطلب استرحة افتح لنا الراديو .
زبون 2 : أي .. افتح هذا الراديو يا أبو محمد ..
( أبو محمد يفتح الراديو .. ) .
صوت المذيع : وفي الساعة السابعة من مساء اليوم عقد اجتماع هام بالقصر الجمهوري حضرة السادة الوزراء .
زبون 1 : غير المحطة يا أبو محمد ..
زبون 4 : دعونا نسمع نشرة الأخبار .
زبون 1 : بلا أخبار ووجع قلب .
زبون 2 : ابحث عن أغنية تبل الريق . .
زبون 3 : أي أسمعنا غنوة حلوة ..
( يد محمد تحرك المؤشر بحثا عن أغنية .. ينبثق صوت أم كلثوم في أغنية " الحب كده " ..) .
أصوات زبائن : - أيوه يا سلام .
( يستقر المؤشر على المحطة ، ويتوضح غناء أم كلثوم ، وهي تكرر " الحب كده " العم مونس يرقب الزبائن ، ويهز رأسه بينما يشرب الشاي بهدوء . تستمر الأغنية بضع دقائق هي تقريبا فترة الاستراحة . ومن حين لحين نمسع آهة " يا سلام " ) .
بعد الاستراحة.
( يخفت صوت الغناء ويصبح خلفية ... ) .
زبون 2 : أنهي العم مونس فنجان الشاي .
زبون 1 : لنسمع إذن بقية الحكاية .
زبون 3 : لا بأس بهذه الحكاية تملأ الدماغ فعلا .
زبون 1 : والله .
زبون 2 : حلفتك بالله يا عم مونس لماذا تتدلل علينا بسيرة الظاهر ؟.
الحكواتي : العم مونس لا يعرف الدلال ، ولكنه يعرف جيدا ترتيب الحكايات في كتابه .
زبون 2 : تبالغ في الحرص على الترتيب وكأنه تنزيل حكيم .
الحكواتي : لن نفهم أيام الظاهر ، إلا إذا فهمنا ما تقدمها من أوضاع وأزمان لا تنسوا أن التاريخ متسلسل .
زبون 2 : ولكن متى تنتهي حكايات ما قبل الظاهر ؟ .
الحكواتي : كل شيء وله أوانه .
زبون 2 : أتكون حكاية اليوم هي الأخيرة ؟.
الحكواتي : من يدري ( يفتح كتابه مبسملا بصوت خافت .
زبون 2 : لا فائدة .. كتوم وعنيد أيضا .
زبون 3 : با أبو محمد .. ساعدنا على العم مونس ، كي يبدأ السيرة غدا .
الخادم : وهل أستطيع والله مشتاق لسماعها أكثر منكم .
الحكواتي : ونعود إلى الصلاة على النبي ، ونتابع مجرى قصتنا .
أصوات : ألف الصلاة والسلام عليه .. سنرى الآن نهاية جابر .
- اقفل الراديو.
( تهدأ الضجة ، ويختفي صوت الراديو .. يرين الصمت والانتظار )

الانية و الغيرية (ملخص لأبرز المواقف)


الصورة الرمزية Soussou

تاريخ التسجيل: Aug 2007
الدولة: partout où tu va
العمر: 18
المشاركات: 348
مزاجي:
شكرا: 0
مشكور 5 مرات في 3 مشاركات
معدل تقييم المستوى: 90 Soussou مبدع محترفSoussou مبدع محترفSoussou مبدع محترفSoussou مبدع محترف
-69325- الانية و الغيرية (ملخص لأبرز المواقف)

تندرج مسالة الإنية والغيرية في مسألة أهم هي مسألة الإنساني بين الكثرة والوحدة. وهذه المسألة تتحرك في سياق مطلب الكونية. ذلك أن تحديد الإنسان يفترض إنتاج تعريف كوني يشارك فيه كل الأفراد، لكن هل أن هذه المشاركة تتم على نفس النحو؟ أم هل أن كلّ فرد يشارك
في الكلّي بطريقة خصوصية؟

أفلاطون Platonيقرّ أفلاطون أن كمال الوجود الإنساني أي إنية الإنسان تتحقق بالنفس وحدها ذلك أن أفلاطون يتبنى موقفا ثنائيا إذ يفسر الإنسان بإرجاعه إلى مبدأين مختلفين:
* مبدأ روحاني هو النفس التي تتحدد تماما مثلما سيكون الأمرعند أرسطو باعتبارها مبدأ حركة.
* مبدأ مـــادي هو الجسد.
ويختزل الإنسان في بعده الواعي و يقر بأن النفس تتحكم كليا في الجسد.
وخصوصية أفلاطون تتمثل في إقراره بأن النفس جوهر في حين يمثل الجسد عرض. لذلك يختزل أفلاطون الإنسان في بعده الواعي ويقصي الجسد من ماهية الإنسان، إذ أن الجسد بالنسبة إليه عاطل عطالة كاملة فالنفس هي التي تحرّكه وهو مصدر رذيلة ويمثل عائقا يعوق النفس في عملية صعودها نحو المثل.
أرسطو Aristoteيطرح أرسطو مشكلة علاقة النفس والجسد في إطار فهمه لعلاقة الصورة بالمادة أو إن شئنا الدقة علاقة الصورة بالهيولى (الهيولى هي المادة اللامتشكلة). و من هذا المنطلق فإن الإنسان سيكون إنسانا بصورته أي بنفسه، فالنفس أو الروح هي ما يمثل حقيقة الإنسان. فتماما كما تشكل الصورة المادة، تشكل النفس الجسد وبالتالي فإن أرسطو يختزل الإنسان في بعده الواعي و هذا ما يظهر بجلاء في إقراره بأن الإنسان حيوان عاقل. و هذا المنظور الأرسطي الذي يفهم الإنسان على شاكلة فهمه لعلاقة الصورة بالمادة جعله ينتهي إلى تحديد النفس بما هي مبدأ حركة. و عن هذا التحديد تنتج نظريته الشهيرة حول الأنفس الحيوانية.
ابن سينا Avicenneموقف ابن سينا من مسألة الإنية يتلخص في برهان الرجل المعلق في الفضاء إذ هو يفترض أن الإنسان ولد دفعة واحدة فخلق يهوي في الفضاء دون أن تكون لأعضائه إمكانية التقاطع، و لكنه مع ذلك يستطيع أن يثبت ذاته موجودة. و من هذا البرهان يستخلص ابن سينا أن النفس هي الإنسان عند التحقيق و ان الجسد لا يمثل حدا في ماهية الإنسان. ذلك أن ابن سينا تماما مثل أرسطو و أفلاطون يقرّ بأن النفس العاقلة هي ما يؤسس حقيقة الإنسان و ماهيته، فالأنا يدرك ذاته دون أن يكون في حاجة إلى أيّ علة خارجة عنه سواء كانت جسدا أو أي شيء آخر خارجي.
ديكارت Descartesلإثبات الذات موجودة ينطلق ديكارت من تجربة الشك. إذ أن ديكارت يشك في كلّ شيء يجد فيه مجرّد تردّد وهكذا لا يترك الشك مجالا دون أن يطاله. إلا أن هذا الشك الذي طال كلّ شيء لا يستطيع أن يخامر الحالة التي أكون فيها بصدد الشكّ. فديكارت يستطيع أن يشك في كلّ شيء إلا في كونه يشك لأن الشك في الشك لا يقوم إلا بتدعيم الشك. و هكذا يأتي الشك على كلّ شيء إلا على اليقين الذي يتضمنه، يقين الذات بذاتها موجودة كفكر أي يقين الكوجيتو.
وخصوصية ديكارت تتمثل في كونه على خلاف أفلاطون وأرسطو يحدد النفس كفكر لا كمبدأ حركة وبالتالي تماما مثل أرسطو وأفلاطون يعتبر أن النفس جوهر ولكنه على خلاف أرسطو وأفلاطون يعتبر أيضا أن الجسد جوهرا من جهة كونه مستقل بذاته إذ أن حركة الجسد لا تفسرها النفس وإنما هي حركة آلية ميكانيكية نابعة من طبيعة الجسد ذاته كامتداد مادي.
أفلاطون، أرسطو، ابن سينا و ديكارت يثبتون إذا الإنية بإقصاء كلّ أشكال الغيرية داخلية كانت أم خارجية فلا الجسد ولا العالم الخارجي يحددان ماهية الإنسان.
ومن هذا المنطلق تتحدد الذات باعتبارها واقعا ميتافيزيقيا، باعتبارها المعنى المؤسس للإنسانية والأنا ليس إلا الوعي بوحدة الذات التي تربط وتجمع بين حالاتها المختلفة وأفعالها المتعاقبة في الزمان. والذات عند هؤلاء الفلاسفة تتحدّد في نهاية المطاف باعتبارها الجوهر وهو التحديد الذي أقرّه أرسطو بما أن الذات كجوهر تسند إليها كل الخصائص والأعراض بما في ذلك الجسد.
__________________
اني متى انقطعت عن التفكير تماما انقطعت عن الوجود بتاتا
Soussou غير متواجد حالياً رد مع اقتباس
Google Adsense
قديم 18-04-2008, 20:44 #2
Soussou
مشرفة المنتديات السمعية البصرية

الصورة الرمزية Soussou

تاريخ التسجيل: Aug 2007
الدولة: partout où tu va
العمر: 18
المشاركات: 348
مزاجي:
شكرا: 0
مشكور 5 مرات في 3 مشاركات
معدل تقييم المستوى: 90 Soussou مبدع محترفSoussou مبدع محترفSoussou مبدع محترفSoussou مبدع محترف
-69325-

سبينوزا Spinoza
يمثل موقف سبينوزا أول موقف فلسفي يرد الاعتبار للجسد في تحديد الإنية ولكن أيضا موقف يسعى إلى إقحام الإنسان في الطبيعة و في العالم عبر سلب الامتيازات الميتافيزيقية التي أضفاها التصور الثنائي على الإنسان.
ذلك أن سبينوزا على خلاف أرسطو و ديكارت يحدد الجوهر لا باعتباره المتصل بذاته ولكن باعتباره المسبب لذاته وهو ما يعني أنه لا يوجد إلا جوهر واحد هو الله أو الطبيعة، و أنّ هذا الجوهر يتكون من عدد لا متناهي من الصفات وأن كلّ صفة من هذه الصفات تتكوّن من عدد لا متناهي من الضروب أو الأحوال Modes.
وهذا يعني أن كلّ ما يوجد هو إما ضرب من ضروب صفة الامتداد و إما ضرب من ضروب صفة الفكر و إما ضرب من ضروب أحد الصفات الأخرى التي لا يعرفها الإنسان و إما علاقة ضريبة بين ضربين و هو حال الإنسان. و هذا يعني أن الوحدة بالنسبة لسبينوزا تتمثل في الجوهر الواحد في حين تمثل الصفات اللامتناهية وضروبها الكثرة. و الضروب بما فيها الإنسان تتحدد كانفعالن أي كرغبة في المحافظة على البقاء (كوناتوس). و الصراع الذي كان يتحدث عنه ديكارت داخل الإنسان، بين العقل والانفعالات، أصبح مع سبينوزا صراعا خارج الإنسان، صراع كلّ الضروب من أجل المحافظة على البقاء.
الجسد مع سبينوزا يتماهى مع النفس في مستوى الماهية بما أن النفس والجسد شيء واحد تارة ننظر إليه من جهة صفة الفكر وطورا ننظر إليه من جهة صفة الامتداد، و يتماهي معها في المستوى الانطولوجي بما أن كلّ من النفس والجسد يمثل ضربا أو حال، و يتماهى معها في مستوى القوة والفعل بما أنّ فعل النفس هو فعل الجسد وهو الفعل الذي ينحو إلى المحافظة على البقاء.
مع سبينوزا إذا لا أنية دون الغيرية الداخلية والخارجية معا، فالإنسان يتحدد بوعيه وجسده ويتحدد كرغبة تتطوّر في العالم أو الطبيعة.
مارلو بونتي M.M.Pontyإنّ تجاوز سبينوزا لثنائية النفس والجسد يبقى رهين الإقرار بالحلولية لذلك تتقدم الفينومينولوجيا مع مارلوبونتي وهوسرل كردّ فعل ضد الثنائيات التي أنتجها الإرث الديكارتي بين الشيء والفكرة، الموضوع والذات والجسد والنفس... وردّة الفعل هذه كانت بالعودة للوجود في العالم لاستكشاف ارتباط الجسد بمختلف سجلات القصدية بدأ بالإحساس ووصولا إلى الحكم. فالجسد بالنسبة لمارلوبونتي لا يمكن اختزاله في كونه مجرّد تراكم الوظائف و الميكانيزمات التي تصفها الفيزيولوجيا، فالجسد هو أكثر من مجرّد العضوية الارتكاسية التي تتمثله فيها الفيزيولوجيا، ذلك أنني لا أستطيع أن أفهم علاقة النفس والجسد في الإنسان إذا كنت أعتبر الجسد مجرّد موضوع لأن هذا الجسد الموضوع هو جسد الآخر كما أراه، إنه هذه الجثة الهامدة التي يشرحها طلبة الطب في غرفة التشريح، في حين أن جسدي الخاص لا يدرك مثلما تدرك المواضيع الخارجية بل إني أعيش حضوره الحي من الداخل. و الجسد المعيش على هذا النحو يتقدّم منذ الوهلة الأولى باعتباره غير قابل للاختزال في الجسدية فحسب، إذ هناك تطابق بين حالاتي المختلفة وضروب وجود جسدي. فنحن مع الفينومينولوجيا لم نعد إزاء جسد ملطخ بنقص ما، إذ نكتشف أن الجسد ذات و أن الإنسان واحد و ما كان يسميه ديكارت جسدا ليس إلا الشخص الموضوع أي الإنسان كما يبدو في الفضاء وفي نظر الآخر، و ما يسميه ديكارت نفسا ليس إلا الشخص الذات أي ما يمثله الإنسان بالنسبة للأنا وهو ما يسميه مارلوبونتي بالجسد الذات.
ردّ الاعتبار للجسد مع مارلوبونتي مرفوق باستحضار العالم كآخر يمثل شرطا لتحقيق الانية، لأن الوعي المتجسد يتحدّد في علاقته القصدية بالعالم إذ يتحدّد الوعي مع الفينومينولوجيا باعتباره فعل التمعين بما أن كلّ وعي هو وعي بشيء ما، و هكذا فإن الوعي ليس كما اعتقد ديكارت داخلية محضة وبسيطة، فالوعي ليست له محتويات بما أنه الفعل الذي نقصد به الموضوع، و بما أن هناك طرقا مختلفة للتوجّه نحو الموضوع فإنه يجب أن نتحدث مع الفينومينولوجيا على أصناف الوعي : وعي مدرك، وعي راغب، وعي متخيل، وعي مندهش...و العالم من هذا المنظور هو مجموع معاني، و بالتالي لا يمكن أن يوجد وعيا نظريا بالذات، و بما أن علاقة الوعي بالعالم هي علاقة ديناميكية فلا نستطيع أن نفهم العالم دون وعي و لا نستطيع أن نفهم وعي دون عالم، فلا يوجد عالم إلا بالنسبة للوعي ولا يوجد وعي إذا لم يكن وعي عالم.
__________________
اني متى انقطعت عن التفكير تماما انقطعت عن الوجود بتاتا

التعديل الأخير تم بواسطة : Soussou بتاريخ 18-04-2008 الساعة 20:47.
Soussou غير متواجد حالياً رد مع اقتباس
قديم 18-04-2008, 20:47 #3
Soussou
مشرفة المنتديات السمعية البصرية

الصورة الرمزية Soussou

تاريخ التسجيل: Aug 2007
الدولة: partout où tu va
العمر: 18
المشاركات: 348
مزاجي:
شكرا: 0
مشكور 5 مرات في 3 مشاركات
معدل تقييم المستوى: 90 Soussou مبدع محترفSoussou مبدع محترفSoussou مبدع محترفSoussou مبدع محترف
-69325-

ماركس Marxإذا كان سبينوزا ومارلوبونتي قد استعادا الجسد والعالم كأشكال من أشكال الغيرية في تحديد الإنية من زوايا مختلفة، من زاوية الجوهرية والرغبة بالنسبة لسبينوزا ومن زاوية القصدية والمنظورية بالنسبة لمارلو بونتي، فإنّ ماركس يستحضر الغيرية من زاوية تاريخية. فالوعي بالذات بالنسبة لماركس ليس متعاليا وليس مستقلا بذاته بما أن الوعي هو انعكاس للواقع الاجتماعي التاريخي، فالوعي مكتسب ومتطور، مكتسب لأنه يعكس علاقة مع الواقع الطبيعي تتحدّد بالفعل في العالم وتشكيله من أجل المحافظة على البقاء و التكيف مع المحيط الخارجي، فالانسان لا يعيش إلا من الطبيعة و لكن من الطبيعة المشكلة وفي كلّ نشاط مشكل للطبيعة يشكل الإنسان ذاته، هذا يعني أن الإنسان يحقق إنسانيته و يكتسب وعيه بواسطة العمل، و تقسيم العمل هو ما يفسر تطور الوعي، لذلك تنعت نظرية ماركس في فلسفة التاريخ بالمادية التاريخية. إذ يرى ماركس أن وسائل الإنتاج هي التي تحدّد ضروب الوجود الإنساني، و الحياة المادية للبشر تفسر كلّ الأنشطة و تحدّد سيرورة الإنسان. و من هذا المنطلق يجب أخد فعل القوى المنتجة بعين الاعتبار لفهم التاريخ، و القوى المنتجة تمثل مجموع الوسائل المادية وكلّ أصناف القوى التي بحوزة المجتمع الإنساني، و الوعي من هذا المنطلق هو البنية الفوقية المتولدة عن العلاقة الاجتماعية المحكومة بعلاقات اقتصادية. و هكذا فإن الوعي عند ماركس هو وليد نشاطه المشكّل للطبيعة في التاريخ و شوبنهاور لا يستحضر فقط معنى التاريخ العالم أي تاريخ الإنسان و الإنسانية بل أيضا التاريخ الفردي أي السيرة الذاتية لكلّ فرد وهو كذلك المظهر الذي يستدعيه فرويد في مستوى فهمه لبنية الجهاز النفسي.
فرويد Freudإن إضافة فرويد تتمثل في اكتشافه للاشعور، أو تفطنه لانبجاس الغيرية داخل الانية، إذ يتقدم اللاوعي باعتباره الآخر الذي على الوعي أن يتسع لاستيعابه. و هو ما يعني أن إقرار فرويد بأهمية اللاوعي في تركيبة الإنسان ليس اقصاءا كليا للوعي بما أن الوعي يبقى المجال الذي يمكننا من إدراك اللاوعي إذ أن اللاوعي يتمظهر في اللاوعي الذي يفسره. و هكذا يبرز فرويد وهم اختزال الإنسان في بعده الواعي فالإنسان لا يتحدّد إلا في إطار هذه الكثرة الداخلية التي تتجاوز الإقرار الميتافيزيقي بوحدة الأنا إذ تنكشف نفسية الإنسان متعددّة بل مركبة من منظمات ذات رغبات متناقضة منظمات تنزل هي ذاتها في التاريخ بما أنها تتطور في السيرة الذاتية لكلّ فرد ولكن أيضا تتمثل معطيات عامة ترتبط بالتاريخ الحضاري الإنساني العام مثل ما يتمظهر ذلك في العقد الكونية التي تحدث عنها فرويد عقدة أوديب وعقدة الخصي...
سبينوزا، مارلوبنتي، ماركس و فرويد بيـّنوا إذا وهم الاعتقاد في إمكان تحقيق الإنية بإقصاء كلّ أشكال الغيرية فأنا لا أستطيع أن أتحدث عن وجود كامل للذات إذا ما استبعدت الجسد والعالم والتاريخ واللاوعي، لا إنية إذا دون غيرية، ذلك ما يقره هيقل بشكل واضح وصريح عندما اعتبر أن فعل الوعي بالذات في حاجة إلى وساطة الآخر.
هيقل Hegelيرى هيقل أن فعل الوعي بالذات مثلما تحقق مع ديكارت كفعل انسجام مع الذات هو في الحقيقة فعل انشطار لأن الوعي بالذات بمعناه الديكارتي هو أساسا هذه العودة على الذات انطلاقا من الكيان الآخر، و الوعي يصل إلى منتهى هذه العلاقة عندما يدرك أن الذات والموضوع مبنيان بنفس حركة الانشطار هذه، بما أن ماهية الوعي بالذات في انعكاس الأنا على ذاته انطلاقا من إقصاء الآخر الذي يمثله الجسد والعالم الخارجي. و فعل انشطار الذات يتمثل في اعتبارها في ذات الوقت ذاتا عارفة و ذات موضوعا للمعرفة، و بما أن كلّ من الذات العارفة و الذات الموضوع يمثل ذاتا فإننا نكون إزاء ذاتين تدعي كلّ واحدة منهما أنها الوعي بالذات و أن الآخر هو الموضوع، و هذا يعني أن فعل الوعي بالذات لا يتحدّد إلا بواسطة الآخر لذلك يجب على الوعي بالذات أن يحافظ على الآخر إذا أراد أن يحقق وعيه بذاته كذات واعية. و لكن صراع الذاتين من أجل تحقيق نفس الرغبة يؤدي إلى تنازل أحد الحدّين على النظر إلى تعاليه بالنسبة إلى الآخر كشرط لتحقيق كيانه و بهذا التنازل ينتج اللاتوازن بين الحدين الذي تعبر عنه الجدلية الشهيرة السيّد والعبد، و في هذا اللاتوازن يحمل الوعي بذاته بذرة الفشل الذي سيكابده في هذه التجربة إذ أن الاعتراف المتبادل لا يتحقق بما أن السيد يحقق اعتراف وعي غير مكافئ له. وجدلية السيد والعبد رغم الفشل الذي انتهت إليه تبين لنا مع هيقل أن الآخر ضروري لتحقيق الوعي بالذات وأن كلّ تعالي على الآخر يؤدي إلى فشل الذات في تحقيق انيتها فوجودي هو بالضرورة وجود مع الآخر الذي ينافسني على الإنسانية هذا الكوني الذي ترنو إليه فرديتي و الذي يمثل في معنى ما حركة تضمين الفردية أو الخصوصية لذلك فإن علاقتي بالآخر تقوم بالضرورة في إطار وساطة ما، و هذه الوساطة يجب أن تكون محايدة وإلاّ يترك التواصل مكانه إلى الصراع

تطور مسرح سعدالله ونّوس


شاعت المسرحيات الاجتماعية في سورية في فترة الخمسينات، وبداية الستينيات، وقد اعتمدت تلك المسرحيات على الواقعية غالباً... ولكنها كانت واقعية انتقادية تقوم على تعرية الواقع؛ ومحاولة تسليط الأضواء على الأخطاء بعيداً عن الرؤية الحركية للمجتمع، فقد كانت تلك المسرحيات تنقل الواقع بشكله الثابت في غالبيتها من دون القدرة على رؤية ما يعتلج داخل هذا المجتمع أو رؤية الصراعات التي تنضج بين طبقاته. ففي تلك المرحلة "كانت البورجوازية الصغيرة ـ بحسب المصطلح الماركسي ـ هي التي تحمل عبء التطوير في البلاد؛ وبناء مدّها الثوري. وكان هذا الخليط الثقافي المتعدد المصادر والاتجاهات والمدارس يناسب البورجوازية الصغيرة التي كانت سائدة في ميدان السياسة والأدب؛ فكانت أفكارها وهمومها ومطامحها هي التي تطفح على وجه الأدب والأديب التقدمي حينذاك، هو المعبر عن طموحات الطبقة البورجوازية الصغيرة؛ ما دام المعبر عن طموحات الطبقة العاملة غير موجود، ما عدا ندرة لا يحسب لها حساب، غير أن سيادة هذه الطبقة لم تمنع من ظهور كتّاب انحازوا إلى الطبقات الكادحة فكانوا لسان حالها والمعبرين عن حركتها، والمبشرين بسيادتها. ولعلّ سعد الله ونوس واحد من أبرز هؤلاء...‏

ويمكن أن نقسّم مسيرة مسرح سعد الله ونوس إلى ثلاث مراحل تفرضها منهجية الدراسة للأدب المسرحي الذي أبدعه ونوس.‏

1 ـ المرحلة الأولى: البدايات ما قبل الخامس من حزيران 1967‏

ـ كتب سعد الله ونوس في هذه المرحلة ثماني مسرحيات قصيرة هي "مأساة بائع الدبس الفقير.‏

2ـ الرسول المجهول في مأتم انتيغونا.‏

3ـ جثة على الرصيف.‏

4ـ الجراد.‏

5ـ المقهى الزجاجي.‏

6ـ لعبة الدبابيس.‏

7ـ فصد الدم.‏

8ـ عندما يلعب الرجال.‏

وقد صدرت في مجموعة واحدة، سمّاها "حكايا جوقة التماثيل" عن وزارة الثقافة 1965(1).‏

تظهر بعض السمات في هذه المرحلة تميّز إنتاج سعد الله ونوس، وتجمع مسرحيات هذه الفترة من إبداعه من ذلك.‏

1 ـ وضوح أثر الثقافة الغربية.. والمسرح الغربي.‏

2 ـ ضبابية الرؤيا من حيث عدم وضوح الموقف، من قضايا كثيرة حاول معالجتها.‏

3 ـ شيوع التجريد، واللجوء إلى الترميز المتعمّد.‏

4 ـ عمومية الموقف وعدم تحديده بشكل واضح تجاه قضايا كثيرة، وعلى الأخص، قضية السلطة، وقضية ممارسة القمع على البسطاء، التي حاول معالجتها في "بائع الدبس الفقير...".‏

5 ـ عدم وضوح الموقف الطبقي وبقاؤه في أضعف تجلياته في إبداع ونوس في تلك المرحلة، وقد تجلى هذا في "جثة على الرصيف".‏

يغلب على مسرحيات هذه المرحلة الأسئلة الوجودية، وتغلب فكرة الحرية على أجواء المسرحيات التي أظهرت أن سعد الله ونوس ليس ماركسياً، بل أقرب ما يكون إلى الليبرالي... المتأثر بالماركسية.. وتجلى ذلك في مسرحية "جثة على الرصيف" التي حاول فيها توضيح الفرز الطبقي للمجتمع، فالمشكلة في وجود فقراء يموتون جوعاً، ووجود أغنياء، يستغلون من أجل رفاهم كل شيء. فجثة الفقير الذي مات جوعاً وبرداً ملقاة على الرصيف، أمام قصر رجل غني. يريد شراء الجثة لتكون طعاماً لكلبه الذي تشبث بالجثة بينما كان صاحبه ينزهه.. ويساوم المتوسل صديق الميت على ثمن الجثة، فإذا الفقراء مضطرون إلى بيع أنفسهم ـ أحياءً أمواتاً ـ ليتمكنوا من تأمين لقمة العيش، ويساعد الأغنياء على سلب الفقراء السلطة التي تمثّلت بالشرطي في المسرحية. ولكن الطرح الماركسي غير مكتمل في هذه المسرحية، فثمة ضبابية في الطرح والموقف، حيث لا يدرك المتلقي من الفقير غير أنه فقير ولا يمثل طبقة اجتماعية ـ عمال.. فلاحين مثلاً ـ والغني مجرد غني، يمتلك القدرة على شراء الفقراء.. كما عالج في هذه المرحلة، قضية أرّقته طويلاً، وسيكون لها حضور قوي في مرحلته الثانية، وهي قضية السلطة والجماهير... ففي مسرحية "مأساة بائع الدبس الفقير" ثمة بائع فقير اسمه "خضور" لا يدري ما يحاك لـه.. مما يؤدي إلى تدبير تهمة له من قِبل "حسن" لينزل عليه العذاب من كل حدب وصوب... ويشير ونوس بذكائه إلى ثبات بنية السلطة في الأنظمة القمعية.. حيث تتجلّى كل مرة في اسم جديد، بينما يبقى المضمون ثابتاً من خلال ـ اتخاذ الشاب اسم حسن ـ ثم ـ حسين ـ ثم محسن... ثم تنتهي المسرحية بعد أن يتهدج صوت الجوقة، دون أن نرى أفرادها.. وهي تقول:‏

"اندثر.. أندثر‏

وتحطمت تماثيل أخرى‏

وفي ضمير الساحة لا تزال حكايات لم تروَ‏

حكايات عن بائع البرتقال... عن بائع البصل‏

عن موظف مصلحة المياه عن طالب المدرسة.‏

عن حارس مصنع الكونسروة.. عن السكرتيرة الجملية‏

وطفل الحضانة لم تحمه الحداثة.‏

كلا.. كلا.. ليس نعاسكم ما يقتل في الحلوق الكلمات‏

لا تنسوا أن التمثيل تهشم وتضرب‏

الخوف.. الخوف والريبة.‏

صمتاً.. صمتاً.‏

ما نحن إلا تماثيل في الساحة‏

نحن الناس الذين كانوا "يسدل الستار" والذين ليسوا الآن.‏

هذه النهاية تؤشر إلى انشغال سعد الله ونوس بالواقع الاجتماعي والسياسي(2) في زمنه. انشغاله بالفئات البسيطة من الناس، وهي تشكل موضوعاً للقهر من قبل السلطة، بل للقمع.. وهي شخصيات قابلة للغياب، كما غاب خضور في ظل سلطة ظالمة. بينما يصمت الناس ممثلين بالجوقة "جوقة التماثيل" "صمتاً صمتاً" (ما نحن إلا تماثيل) لا نرى ولا نسمع، وإن فعلنا.. فليس ثمّة فعل نقوم به.. وفي ظل هكذا سلطة.. نحن الناس الذين كانوا.. ويريد أن يقول كانوا أناساً قبل هذه السلطة. بينما لم يعودوا كذلك الآن.. "والذين ليسوا الآن..".‏

"فالسلطة القمعية في مواجهة الفرد المستلب والقضية ترتبط بخلفية طبقية اجتماعية قبل كل شيء.."(3).‏

ولكن المواجهة في المثالين السابقين غير محددة؛ وضبابية؛ ولا تتوضح فيها طبيعة كل طبقة، بل طبيعة هذه السلطة وماهيتها، وقد أشار ونوس نفسه إلى أن هذه المرحلة، لم تكن محددة في فكره ومواقفه.. يقول: ".. المناخ الفكري والنفسي الذي ساد المسرحيات الأولى كان محصلة لفترة.. قلق نفسي وفكري.. كانت تصطرع في النفس نزعات ميتافيزيقية ورومانسية ووجودية.."(4).‏

وعندما تغيب الديمقراطية.. "لا يمكن أن يصل المهرج إلى كرسي الحكم بفضل جوقة من الانتهازيين الذين "ينفخونه" ويسبغون عليه الحكمة والعبقرية كما في مسرحية "لعبة الدبابيس" حيث لا يختلف "برهوم" عن "مشدود" لأنهما وجهان لعملة واحدة"(5).‏

كما عالج ونوس قضية العرب، قضية فلسطين التي سيعود إليها في بداية مرحلته الثالثة، عالجها في مسرحية فصد الدم التي حاول من خلالها أن يبتعد عن الإنشائية والتقريرية والخطابة ـ على عكس من سبقوه إلى معالجتها، بعيداً عن الاستجداء الميلودرامي والارتجال، حيث انطلق من رؤية عقلانية، فأعلن رفضه لمنطق التلاؤم مع الواقع الراهن، فجعل شخصية "علي" الذي يمثل التمسك والصلابة الوطنية ورفض كل ما من شأنه تكريس الخنوع والاستسلام للواقع، ينتصر على شخصية "عليوة" الذي يرى أن لابد من التكيّف مع الواقع الراهن الآن. ولابد من نسيان القضية برمتها.‏

كما قدّم في هذه المسرحية صورة للأنظمة العربية التي تتقاتل وتتذابح بينما يغيب الشعب عن المعادلة، يغيب عن ساحة الفعل في الحياة السياسية. وترتفع أجهزة الإعلام بالصراخ، تكيل الوعود والوعيد، وتستغل القضية للصعود على جثة القضية، كما تجسد ذلك في شخصية الصحفي..‏

"إن هذه المعالجة إذا ما أخذت بسياقها التاريخي ـ أي في ذلك الوقت ـ تعدُّ بحق متقدمة، إلى حدٍ بعيد لأنها تنطلق من رؤيا واقعية لا مكان فيها للأحداث المضخمة والبطولات الملفقة"(6).‏

إن المقدمات تؤشر إلى الخواتيم.. وهذا ما أراد أن يقوله في مسرحية "المقهى الزجاجي" التي تدور أحداثها في مقهى؛ وهو رمز للعطالة الاجتماعية ورمز للوطن الذي سيتهدم ما لم ينتبه أهله إلى الأخطار التي تتهدده وتصدّعه، والناس غافلون نيام، لا يكترثون، حتى للموت، بينما يتابعون تساليهم وألعابهم، وتابوت الميت يخرج من المقهى، فيكتفون بقولة "الله يرحمه" ثم يعودون إلى ما كانوا فيه من سرور وعدم انتباه، وكأنما كان ونوس يؤشر إلى ما حدث حقيقة في حزيران 1967.. حين تهدّم المقهى على رؤوس من فيه..‏

جاسم: لا تبتئس.. لستَ أول من تحل به الهزيمة.. وتذكّر أن الدنيا سجال.‏

أنسي: لا أتحدث عن هزيمة النرد.. هنالك ما هو أسوأ.. انظر.. أحقاً لا تراها وهي تنهال كالقذائف.. الزجاج يمتلئ شروخاً لا.. لنبذل مجهوداً.. لن ندع بنياننا ينهار فوق رؤوسنا.. لقد متنا.. إننا أموات.‏

انتبهوا أيها الأصدقاء.. تهشّم الجدار.. انهضوا قليلاً.. يجب أن نحاول؛ لابدّ أن نساند.. أتحسب أنه أقوى من الحجارة.. لن يصمد.. هي لحظات.. أيها الصديق.. قل.. ألا تسمعها؟!.. طق..طق.. طق"(7).‏

(وما كان من أهل المقهى "الوطن" إلا أن أخرجوا منذرهم ومحذرهم من الهزيمة والسقوط خارج المقهى.. خارج الوطن).‏

النادل: اهدأ يا سيد أنسي.. إني أستميحك العذر.. تلك فكرة المعلّم ظاظة.. أرجوك ساعدني قليلاً "يحمله بعنف، ويسر به.. بينما يلبّط أنسي بقدميه، وكلماته تتناثر".‏

أنسي: ليس عادلاً.. لنفعل شيئاً.. ستصيبني الحجارة.. سنموت.. اتركني.. لقد متنا.. إننا أموات.. أيقظهم.. مقهانا يتهدّم..‏

(تتوالى هذه الكلمة متخافتة حتى يسدل الستار). "يتهدم.. يتهدم.. يتهدم.."(8).‏

"في مرحلة ونوس الأولى.. حافظ مبدعها على تقديم نهايات مغلقة تقدم رؤيتها المتشائمة في الحياة العربية.. وحتى مع نهاياته شبه المفتوحة فهو يقدّم ذات الرؤية في صورة تساؤلات مجاب عليها سلفاً داخل العمل الدرامي ذاته. فالجماعة الشعبية التي حدقت فيها "ميدوزا" منذ أول نص له، قد تحجرت وتحولت إلى تماثيل تحتل الميادين العامة دون أن تعلب دوراً في حركة أحداثها. والمقهى بما فيه من بشر يلتقون يومياً وبشكل رتيب ويعبرون عن حالة من البلادة وإضاعة الوقت، فيما لا يفيد وهو ما يضيف للإدانة الونوسية للجماعة الشعبية.. وما زالت الجماعة عند ونوس متحجرة؛ حتى وهي تلعب طاولة النرد على المقهى، والموت محاصر لها بسبب عجزها عن الفعل وتغييب وعيها في نمطية الأداء اليومي.. انشغال الجماعة الشعبية باللعب، ليس فقط هروباً من واقع زاخر بالأحداث، وإنما أيضاً انشغالاً بأفعال لا مجدية تستغرق زمن الجماعة وتستهلكه فيما هو غير مثمر لذاتها، وغير دافع لحركة مجتمعها ومهمّش لدورها في التاريخ"(9).‏

2 ـ المرحلة الثانية، ما بعد حزيران 1967:‏

أصبح سعد الله ونوس أكثر وضوحاً وتحديداً بعد هزيمة 1967.. التي استشفها في مرحلته الأولى، واتجه بكل قواه نحو التسييس، ليجعل من هذه القضية "التسييس قضيته الأولى في ممارسته المسرحية والتنظيرية للمسرح بعد الهزيمة. فبمقابل حالة الاستلاب التي يعيش فيها الجمهور، وحالة تعمّد أبعاده عن السياسة. يجب أن تطرح الحالة المضادة؛ أي يجب أن تُطرح قضية التسييس، ففي حواراً حول تجربته المسرحية، أجراه معه نبيل الحفار، يقول ونوس "بع عام 1967 كانت المعركة ملحّة بالنسبة للمسرح، وعلاقته بالسياسة، وكان واضحاً أن المسرح بوغتَ ومثله مثل الشعوب العربية، بهزيمة الخامس من حزيران 1967. وأنه قد تأخر كثيراً في الإجابة على أسئلة ملحّة.. إذن بعد 1967، طرحت العلاقة بين المسرح والسياسة بشكل حاد.. وكانت التجارب المسرحية السابقة على 1967 تتوهم أنه بالإمكان ممارسة تجربة مسرحية حدودها الفن، وحدودها تعميم خدمة ثقافية ما. عبر تقديم نماذج عشوائية وغير مترابطة من "ريبرتوار" المسرح العالمي، لذا كانت معركتنا الأولى هي: هل ينبغي أن يهتم المسرح بالسياسة أم لا؟‏

فهزيمة حزيران كانت شديدة الوطأة، وقد خلفت نوعاً من الصحوة الفكرية؛ في كل أوساط المثقفين، لذلك بعد أن صار ثمة إقرار بأن العلاقة وثيقة بين المسرح والسياسية، كان لابد من أن نواجه قول المسرح السياسي من خلال معايير سياسية: مدى تقدمية هذا العمل؟ وعمقه في طرح القضية، واستشراف الآفاق المفتوحة أمام الحلول أو مدى سطحية المعالجة وتفاهتها، وبالتالي تكريس ما هو متخلّف في الوعي السياسي السائد.. إذ لابد من المضي أعمق لتحديد هوية السياسية التي تبناها المسرح.."(10).‏

تبنّى المسرح السياسي. ولكن ليس أي مسرح سياسي، بل المسرح السياسي التقدمي.‏

وقد وضّح هذا المفهوم من خلال توضيحه لمفهوم التسييس.. بحيث يصبح المسرح حوار بين مساحتين، الأولى هي ما يعرض فوق خشبة المسرح، والثانية هي جمهور المتلقين، المتفرجين في الصالة، والمساحة الأولى يجب أن تعكس ظواهر الواقع ومشكلات المساحة الثانية، ليقوم حوار مرتجل، ومتدفق وحقيقي بين المساحتين.‏

"يتحدد مفهوم التسييس من زاويتين متكاملتين.. الأولى فكرية وتعني أننا نطرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية، وأننا نحاول في الوقت نفسه استشفاف أفق تقدمي لحل المشكلة.."(11).‏

"والثانية فنية من خلال هدم العلاقة التقليدية الساكنة بين الصالة والخشبة، لإقامة علاقة جديدة يندغم فيها الممثل بالمتفرج في جوٍّ من الإلفة والصراحة؛ بحيث تتقوض الحواجز، ويحلّ الحوار بينهما، بدلاً من علاقة المرسل والمتلقي"(12).‏

فلا يكفي من وجهة نظر ونّوس أن تطرح القضايا السياسية على المسرح حتى يصبح سياسياً، بل يجب أن تطرح من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية، ومثل هذه المعالجة تحاول فهم آلية الواقع، لكشفه ولتعرية القوى التي تعيق تقدّمه؛ ولإدانة الأنظمة الفاسدة المسؤولة عن تكريس ما هو متخلّف ورجعي. كل ذلك يجب أن يتم من خلال رؤية متكاملة ومعالجة تقوم على خلفية نظرية واضحة في ذهن الكاتب ـ دون إغفال لجانب المتعة الفنية. فالتعبير بحرية وصراحة عن الآراء السياسية، يمكن أن يكون تعويضاً باهراً.. فالمسرح من خلال جماعيته وعمله الذي يتعلّق باليومي. وذي العلاقة بالحاضر والمباشر مع الناس، إنما يعطي الوهم بنشاط أو بعمل سياسي.. إذن يجب تسييس المسرح للتواصل مع المتفرج ومحاورته وتبصيره بقضاياه الأساسية.. وحثّه على اتخاذ القرارات والمواقف منها. وهكذا كما يقول ونوس "يجب أن نشحن لا أن تفرّغ".‏

"تمثل هذه المرحلة انعطافاً نوعياً في وعي الوجود المؤسس للبنية التكوينية للنص. حيث ينتقل وعي الحرية من الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية جوهر الوجود، إلى الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية شرط الوجود قيمياً. من وعي الحرية بوصفها جوهر الكائن إلى وعيها بوصفها شرط كرامة وسيادة الكائن، من وعيها بوصفها وضعاً أنثولوجياً، إلى وعيها بوصفها صيرورة تاريخية على طريق اكتمال الوجود بالقيمة... وذلك لا يتم إلا بالغوص في حمأة الواقع وأسئلته الشائكة التي توحد مساحتي الوجود.. العرض المسرحي وجمهور الصالة بمشكلاتهم وهمومهم وأشواقهم"(13).‏

فالمسرح إذن تجمع سياسي تطرح فيه المشكلات السياسية والاجتماعية والثقافية، وتُناقش. وهذا ما يستدعي بالضرورة إلغاء المفهوم التقليدي للشخصيات ـ الأبطال ـ فثمّة أصوات وملامح من وضع تاريخي معيّن، وأهمية الأفراد تتحدد من خلال التفاصيل أو الخطوط التي تضيفها على الوضع التاريخي العام فيصبح المسرح بهذه المثابة أداة تغيير، وليس أداة تكريس لما هو سائد، وهو إضافة إلى ذلك ـ بحسب قول ونوس ـ في مقدمة مسرحيته: "مغامرة رأس المملوك جابر.." حوار بين مساحتين: العرض المسرحي وجمهور الصالة، حيث يكون الارتجال الجريء. سمة رئيسية، من سمات هذا الحوار، مما يقوّي الإحساس بوحدة المصير المشتركة بين الفرقة المسرحية وجمهور الصالة.‏

شكّل هذا مجموعة الأفكار الرئيسية لفكرة تسييس المسرح لدى سعد الله ونوس. إنها تشكل في مجموعها رؤيا للمسرح على المستويين الفكري والفني، بدونها يصعب أن ندخل إلى عالم سعد الله ونوس المسرحي في المرحلة الثانية. حيث ظهرت هذه الرؤيا في مجمل مسرحياته التي أنتجها بعد هزيمة حزيران 1967.. ولعلّ أشهر هذه المسرحيات وأكثرها إثارة للجدل.. مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران.." التي كتبها عام 1967، فكانت ردّة فعل ملتاعة ومريرة، ودعوة للالتفات إلى الواقع وما يحدث فيه حيث أعمل ونوس مبضعه في تعرية الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المسؤولة عن الهزيمة، كما طرح قضايا البسطاء الذين تضرروا حقاً من الهزيمة وسمى الأشياء بأسمائها الصريحة.. كلّنا مسؤول عن الهزيمة..‏

"كانت النقلة عنيفة وحاسمة في مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" حيث في هذا النص يؤسس سعد الله لفكرة "الحوار والمشاركة" ليس عبر الرسالة المعرفية والأيديولوجية للنص فحسب، بل من خلال التشكيل البنائي للنص ذاته، إذ يكسر الحاجز الفاصل بين المعرفة والسلطة لتدمير معرفة السلطة التي قادت إلى الهزيمة. دافعاً بجمهور العدالة أن ينتزع حقه بالمشاركة في صناعة القرار، عبر الحوار والتدخل المباشر على الخشبة لمواجهة معرفة السلطة بسلطة المعرفة التي بدونها لا يمكن للناس أن يمتلكوا حريتهم.."(14).‏

ركّزت كثير من الآراء التي ظهرت عقب عرض هذه المسرحية على أنها عمل يقوم على تعذيب الذات، وجلدها، وفضح الأخطاء، فترسم صورة شديدة القتامة لا يمكن أن تكون معها ذات رؤيا اشتراكية. ولكن مثل هذه الآراء تظلمها لأن هذا العمل يساير منهج ونوس في التحريض وعدم المطامنة، فونوس يطالب بإزاحة هذه الأوضاع المزرية التي أدت بنا إلى ما نحن فيه، إلى الهزيمة. هي دعوة إلى تجاوز الارتجال في عملنا. ورد الفعل، إلى الفعل المنظم الذي تجسّد في تلك الشخصية من شخصيات حفلة سمر التي تحمل حلماً.. وتحمل بندقية وتجوب الأرض.. وصاحبها يعانق بندقيته كابنه الوحيد، ولا يلبس ثياب الجنود..‏

إن ونوس لا يغلق الأفق نهائياً، ولكنه يقسو ليكون وقع التحريض أقوى، ولا نبالغ إذا ما قلنا: إن النجاح الجماهيري الذي حققته هذه المسرحية، لم تحظَ به أية مسرحية جادة حتى حينه في إطار المسرح العربي. وإن النقاشات الساخنة التي أثارتها في حينها، لم تُثرها أية مسرحية عربية أخرى.. إنها كما يقول الناقد محمود أمين العالم: "من أنضج مسرحياتنا العربية المعاصرة عامة، سواء من حيث البناء الفني أم المضمون.."(15).‏

طرح ونوس في هذه المسرحية سؤالين صعبين بقدر ما هما جوهريان وأساسيان من نحن؟ ولماذا..؟‏

وضع ونوس أمامنا مرآة كبيرة، بحجم الهزيمة التي لحقت بنا، وقال لنا" انظروا من نحن، تعالوا نتعرّف على حقيقتنا من غير أقنعة أو تهويل أو تزييف. إن أية مجابهة مع العدو سوف تنهار وتتداعى إذا لم تقم على أرضية صلبة، بمعنى آخر ـ إذا غاب الشعب، وهو صاحب المصلحة الحقيقية، وصاحب الدور الريادي في كل معركة، فلن تكون المؤسسات والدوائر الرسمية قادرة على عمل شيء.. ستقف عاجزة مشلولة لا تقدر على الحركة.. استطاعت مسرحية "حفلة سمر" أن تفجّر جملة من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية دفعة واحدة، وأظهرت ترابط هذه القضايا وتداخلها من منظور تقدمي.. ومن خلال مناقشة عميقة للبنى التي أدت إلى الهزيمة. كما قدّمت مثالاً تطبيقياً، شكلاً ومضموناً لوظيفة المسرح ودوره، عبر تسييسه كما أراده ونوس أن يكون.‏

وإذا كانت "حفلة سمر..." قد عالجت الواقع عبر حكاية معاصرة وبشكل مباشر فقد اعتمد ونوس في تثبيت مفهوم التسييس في هذه المرحلة على مسرحيات أخرى. اتخذت من الإبعاد الزماني والمكاني وسيلة فنية، فاعتمدت على التراث، سواء كان شعبياً أم تاريخياً.. للسعي إلى استقطاب قطاعات واسعة من الجمهور، غير عابئ بالصيغة المسرحية المستقلة، باحثاً عن صيغة جديدة ـ قديمة. مألوفة في المجتمع العربي ـ كالراوي مثلاً ـ والمقهى والقصاص، والحدوتة.‏

ومن خلال الإبعاد الزماني والمكاني، يقيم جسراً بين ما يعرض بزمنه الماضي.. وما يحدث، لخلق توازيات تضيء الحاضر.. ومن هذه المسرحيات مسرحية "الفيل يا ملك الزمان" 1971، وقد عرض من خلالها لمشكلة السلطة وعلاقتها بالشعب، وعلاقة الشعب بها.‏

(فزكريا) يحرض جماعة الناس لتثور ضد استبداد السلطة، بعد أن عمل على إيقاظ وعيهم، وتبصيرهم بما يحدث حولهم من مظالم واستبداد.. ولكن استكانة الناس أمام جبروت السلطة وأبّهة الملك تجعل الجميع يخرجون منكّسي الرؤوس، متوافقين مع قيودهم واستكانتهم للعبودية.. ثم يعلن الممثلون في ختام المسرحية. أن لا حرية في ظل الحكم الاستبدادي.. وأن الاستكانة والمطامنة ستجعل الفيلة تتكاثر لتتكاثر بعد ذلك الدماء المسفوحة.. "إنها عندما تتكاثر تبدأ حكاية دموية عنيفة"(16).‏

تابع موضوعة السلطة في مسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر.." 1971. فالسلطة منقسمة على نفسها، وظالمة للرعية، وبالمقابل هناك الشعب المظلوم والخائف، تمثله جماعة من الرجال..‏

إن أجواء التناحر على السلطة في مجتمع يقوم على الاستغلال. ستفرز بشكل طبيعي الانتهازيين "المملوك جابر.." الذين يسعون وراء المال والربح السريع والمجد والنساء.. فالمملوك جابر لا يهتم للصراع القائم بين الوزير والخليفة، ولكنه عندما وجد ثغرة يستطيع النفاذ منها لتحقيق مصالحه، تحركتْ انتهازيته وبدأ اهتمامه. فتقدّم باقتراح إلى الوزير يجعله ينفذ خطته في استدعاء أعداء البلاد لنصرة الوزير.. ثم ينال هو العطايا والمزايا..‏

كما ربط ونوس في هذه المسرحية بين معاناة الشعب جرّاء السلطة الفاسدة المنقسمة على نفسها، فلا تهتم بأن تسرق من الشعب قوت يومه أو تستدعي أعداء البلاد وتفتح لهم الأبواب وبين سلبية هذا الشعب وعدم قدرته على الفعل. وبين صعود الانتهازيين، واستمرار عسف السلطة وقمعها. كما طرح موضوعة لا مبالاة الجماهير وسلبيتها.. وهو موضوع أثير لديه، فلا مبالاة الناس وسلبيتهم وعدم اهتمامهم بما يحدث حولهم. سوف يجرّهم إلى الدمار والخسران. حتى على الصعيد الفردي.. فتراه دائم التأكيد أن ما يجري في المجتمع مهم للجميع، وعلى الجميع أن يعيه وينخرط فيه ليؤدي دوره الفاعل، وإلا حلّ البلاء. وقد طرح هذا الموضوع في كثير من مسرحياته: "المقهى الزجاجي ـ مغامرة رأس المملوك جابر ـ الفيل يا ملك الزمان"، كما أفرد لهذه الفكرة مسرحية كاملة اقتبسها من "بيتر فايس" هي مسرحية "رحلة حنظلة". وهذا ما يجعلنا نلاحظ كثرة الشخصيات السلبية في مسرحه. وهي شخصيات في غالبيتها خانعة مستلبة خائفة مشتتة أو انتهازية لا تحمل من المبادئ ما يبث بارقة أمل في الخلاص. وقد يُظن من خلال ذلك أن "ونوس" لا يحمل رؤية متفائلة، ولكنه يرى غير هذا، وينظر إلى المسألة من خلال علاقة المسرح بالجمهور، ومن خلال الفعل الذي تمارسه المسرحية على جمهور المتلقين. هل تمنحهم الرضى والمطامنة؟ وهذا ما لا يرضى عنه أم تحرضهم وتدفعهم للفعل، واتخاذ المواقف الإيجابية؟. يقول: كان مهماً بالنسبة لي دائماً، وفقتُ أم لم أوفّق ـ لكن هذا ما كنتُ أريده، أن أبني وعياً لا أن أُعطي وعياً جاهزاً، وبناء الوعي يتم عبر السلب، تأخذ عيباً من العيوب وتضخّمه، وتظهر عقابيله وآثاره، وتكون بذلك قد قدمت أمثولة أو درساً تطبيقياً لهذه الحالة، ويجب ألا ننسى أن المسرح في النهاية هو عملية جدل، وأن الخلاص ليس فيما يُطرح على الخشبة فقط. وإنما فيما يتمخّض عنه الجدل بين الصالة والخشبة..‏

إن تفاؤل العمل أو تشاؤمه، لا ينبع من مدى احتوائه على شخصيات إيجابية متفائلة أو سلبية متشائمة. وإنما يتم ذلك من خلال مجمل العمل وبنيته. هل يسير هذا العمل نحو أفق مسدود تشاؤمي أم أنه يشير إلى أن هناك أفقاً آخر، شرط أن تبدّلوا عاداتكم في التفكير والسلوك والنضال. وبهذا المعنى رأى أن هذه الأعمال إيجابية أكثر بكثير مما لو وضعتُ فيها شخصيات متفائلة وبطولية تقلب معادلة المسرحية وتحقق انتصارات على الخشبة، وتوزع انتصارات وهمية على المتفرجين.."(17).‏

في مسرحية "الملك هو الملك" يحاول ونوس فضح أنظمة التنكر البورجوازية ـ كما يقول ـ فيعالج قضية الحكم بصورة أكثر نضجاً وعمقاً. فالحاكم الفرد المطلق الذي يحتجز بيده كل السلطات يستمد قوته من الرموز المحيطة به، ومن القوى التي تقف خلفه للحفاظ على مصالحها "شهبندر التجار" أو "الشيخ طه.." والحاكم ليس إلا تجسيداً رمزياً لهذه القوى، وليس شخصه مهماً ما دام النظام قائماً، ولا يعني استبداله. شيئاً ما دامت القوى والنظام لا يزالان قائمين..‏

إن الاعتماد الكبير على التراث، عدا بعض المسرحيات في هذه المرحلة ـ قد ميّز إبداع ونوس في مسرحيات المرحلة الثانية. فالحكايات الماضية تشكل المادة الأولية للمسرحية ليطرح من خلالها القضايا المعاصر. الاجتماعية والسياسية التي يريد تناولها فيعالجها من خلال مفاهيم عصرية. تعالج قضايا المجتمع الراهنة لتحريض المتلقي ليتأمل واقعه، فيشارك مشاركة إيجابية فيما يدور حوله من أحداث تمسّه وتتعلّق بمصيره، ويبيّن ونوس أن عقابيل الاستسلام للواقع المريض، أخطر بكثير من أعباء النضال من أجل محاولة تغيير هذا الواقع.‏

"المرأة الثانية: وماذا نفعل إن انطبقتْ أبواب السجون على أحبتنا؟.‏

الرجل الثالث: وتعوّدنا تغيّر الأوضاع.‏

الرجل الثاني: وتعاقب الخلفاء والوزراء.‏

المرأة الثانية: وقتل الرجال لأتفه الأسباب.‏

المرأة الأولى: وغياب رجال لكذبة أو وشاية.‏

الرجل الثالث: ما لنا نحن وشؤون السادة..."(18).‏

اهتمت مسرحيات هذه المرحلة بموضوع السلطة والجماهير وقد رمى ونوس عبر هذه المسرحيات بالأسئلة والإجابات كلها.. باحثاً بغضب ولوعة عمّا يربط الإنسان بالوطن، والوطن بالإمكانية التي تدافع عنه، ولأنه كان يشتق أسئلته من التاريخ، ويجانب الأسئلة العابثة لتوليد الأسئلة الجديدة. التي تحاور الهزيمة لترد عليها.. ولتبعد شبحها عن الوجود العربي. ولذا فإنه عاد إلى الإنسان ولكن بصيغة جماعية هذه المرة سائلاً عن النصر والهزيمة وشروطهما، وعن أحوال المحكومين والحاكمين. طارحاً مسألة "التسييس" التي رأى من خلالها أن مآل الإنسان في وعيه ومآل وعيه في فعله، ومصير فعله فيما يميّز من أفعال الحاكمين" ولا يمكننا أن نمر في هذه المرحلة دون التعرّض لمسرحيته "سهرة مع أبي خليل القباني" التي كتبها تكريماً لهذا المبدع الرائد المسرحي السوري، دون أن تخرج عن إطار مسرح التسييس. فالقباني ابن عصره وبيئته، ولا يمكن فصل تجربته المسرحية، عن الوضع الاجتماعي ـ الاقتصادي السائد في تلك الفترة. إنه رائد دفع ثمن ريادته، صارع عقولاً متحجّرة، كانت ترى في الفن الجديد، ضرباً من الكفر والإلحاد، ونوعاً من الفسق والفجور. ولكن ونوس يؤمن بحركة التاريخ، ويؤمن بانتصار الجديد التقدمي على القديم الرجعي إيماناً قاطعاً.‏

3 ـ المرحلة الثالثة:‏

صمت سعد الله ونوس ثلاثة عشر عاماً أو يزيد.. قضاها في المراجعة والتأمل ليكتشف أن المشكلة أعمق. وأكثر تعقيداً من علاقة سلطة/ مجتمع. بل إن هناك تركيباً ثلاثياً ـ ربما ـ يجب أن يغوص فيه أكثر لمحاولة استكشافه، هناك بنى اجتماعية متخلفة جداً، تتجاور وتتساوق زمانياً مع بنى اجتماعية حديثة، حداثة شكلية. مما يشكل قطيعة وفصاماً في المجتمع,. إضافة إلى غياب أي تساوق، أو أي مشروع مستقبلي، يمكن أن تقوم به دولة عصرية، لا تتعادى فيها السلطة مع المجتمع، بحيث تهمّش السلطة مجتمعها. وتجبره على العودة في آلية دفاعية سلبية إلى بناه التقليدية والأخلاقية القديمة.‏

بدأ ونوس في كتابته الجديدة. ومرحلته الجديدة فكرياً وفنياً، يبتعد عن متفرج واجب الوجود. ليقنع بوجود متفرّج محتمل.. متفرج يقرأ عليه سعد شيئاً من حكايات التاريخ، تاركاً له حرية الإدراك والتأويل.. وهو في هذه المرحلة، كتب مسرحية مضيئة تاركاً لطرف آخر بعيدٍ عنه تحديد ملامح الجمهور المسرحي، وإمكانية عرض المسرحية، والعثور على المسرح الأكثر ألفة مع جمهور قادر على التأويل والفهم. بدأ يُعيد الاهتمام بمقولات المواطنة والعقل المستنير، والعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني، وكان يستأنف فعلاً ثقافياً تتبادل فيه الأفكار والقيم المواقع من دون خصام، ويعمل على ترهين التاريخ وتجديد أسئلته.‏

عاد سعد الله ونوس إلى الكتابة بغزارة ونَهم. فأنتج عام 1989 مسرحية الاغتصاب التي أعاد فيها معالجة المشكلة الفلسطينية من خلال استفادته من نص الكاتب الإسباني "بويرو باييخو" الذي بعنوان: "القصة المزدوجة للدكتور بالمي..".. وقد تمّ عرض هذه المسرحية في بيروت عام 1993، وأخرجها المخرج جواد الأسدي..‏

تعمق ونوس في هذه المسرحية قضية الصراع العربي الصهيوني، حتى وصل إلى أنه صراع بين مساحتين لا يمكن أن يلتقيا فالأرض ضيقة كالقبر ـ على حد تعبير بطلته المغتصبة دلال ـ فلا يمكن أن تتسع لنا ولهم.. وهذا هو موقف إسماعيل الذي فقد رجولته إثر العذاب الذي لاقاه على يد الوحوش الصهاينة، بحيث بات مقنعاً أن إمكانية التعايش.. ليست ممكنة، هذه الوحشية جعلت الإنسان في داخل بعض الصهاينة يستيقظ فيقوم طبيب إسرائيلي بمداواة جراح الأسرى وتتحوّل راحل إلى مناضلة في سبيل القضية الفلسطينية.‏

ثم صمتَ ونوس مرّة أخرى عرف خلالها بمرضه العضال.. ليعود إلى الكتابة بغزارة وتحدٍ، فكتب على التوالي "منمنمات تاريخية" 1994، و"طقوس الإشارات والتحولات" 1994، ومسرحيتي "يوم من زماننا" و"أحلام شقية" في كتاب واحد 1995 ثم ملحمة السراب" مطلع عام 1996، وأخيراً قدم قبل وفاته بشهر مسرحية "الأيام المخمورة" 1997. إضافة إلى مجموعة نصوص "بلاد أضيق من الحب" عن الذاكرة والموت 1996، ولا تعود القضية إلى مجرد الخصب العددي في وتيرة الإصدارات، بل تعود إلى كون هذه المسرحيات تشكل مرحلة جديدة نوعياً ومتمايزة فنياً وفكرياً في مسيرة مسرح سعد الله ونوس، سواء من حيث العمق الإنساني والفردي للشخصيات وتلاوينها وتنوّع أحوالها وتناقض حالاتها وتحولاتها، أم من حيث التركيب المدهش والتدامج الجدلي بين تواتر المشاهد وتسارعها. وبين بانورامية المدى الشاسع في فضاءات الأمكنة وفضاءات الأحداث إلى حشود من تصارع الشخصيات وتشابك الوقائع وترابطها.‏

وسنجد في هذه المرحلة تنوعاً في الأجواء والأحداث المستمدة من عدّة أزمان من القرن التاسع الهجري "منمنمات تاريخية"، التي يعرض فيها لغزو التتار لبلاد الشام ولحصار دمشق، ولشخصية المثقف العربي ممثلة بشخصية ابن خلدون. إلى القرن التاسع عشر الميلادي "طقوس الإشارات.." إلى أيامنا الراهنة، "يوم من زماننا ـ أحلام شقية". إلى المرحلة الشرسة الحاضرة الآتية في إطار إفرازات النظام العالمي الجديد "ملحمة السراب..".‏

إن ثمة ملامح عامة تظهر في كتابة هذه المرحلة لدى سعد الله ونوس. ومنها: الخروج على الأطر التي كانت تضبط الكتابة لديه، بكل مكوناتها، من عملية التأليف بالمعنى الحرفي إلى طبيعة الموضوعات التي تتطرق إليها الكتابة، فالكتابة هنا توسع هامشها لتتحرر من الشكل والكليشات، على الرغم من أنه لا يزال يستخدم تسمية "مسرحية" ليصف إنتاجه، إلا أن المسرحي فيه قد تحرر من هاجس "العرض" بينما يطغى القالب الروائي السردي في هذه الأعمال.. منذ "الاغتصاب" وبدت الموضوعات المطروحة أكثر شمولية وتنوعاً، تجمع بين الخاص الذاتي والعام، وتحاول أن تربط بينهما. واللافت للنظر أنه ـ لأول مرة ـ في مسرح ونوس تظهر أهمية الإنسان الفرد "الإنسان العادي أو الإنسان الصغير، أستعير هنا تسمية بريشت" كشخصية لها قوامها الإنساني، وهذه الشخصية المعبّرة عن الإنسان العادي تأخذ حيّزاً واضحاً في المسار الدرامي، لا بل تؤثر به "شخصية ماري/ غادة في أحلام شقية"، "شخصية "فاروق" في يوم من زماننا" و"ألماسة" في "طقوس الإشارات والتحولات". فبغض النظر عن قيمة اهتماماتها وتركيبتها فهذه الشخصيات تسمح لمبتكرها أن يطرح إشكالية هامة، هي إشكالية "الفعل" وجدواه. هل يمكننا أن نغيّر حياتنا؟.. هل يمكننا أن نغيّر العالم.‏

ملمح آخر لافت في إبداع هذه المرحلة، وهو ظهور الحالة النفسية التي لا يمكن فصلها عن المناخ العام الذي تعيشه الشخصية. وهذه السمة موجودة في أغلب المسرحيات الأخيرة بنوعيها الدرامي والملحمي السردي.‏

مدير المنطقة: هذا الرجل الذي باركه الأخ جلال ووهبه خصيتين. تفضّل يا أستاذ (يتناول علبه سجائر ويقدّم سيجارة لفاروق).‏

فاروق: (وهو يمد يداً ترتعش..) أنا لا أدخّن، أقلعت عن التدخين منذ سنة، لكنّي اليوم أحتاج إلى سيجارة.‏

مدير المنطقة: دخّن يا أستاذ (يشعل سيجارة بولاعة من ذهب) ومهما كان التدخين مضراً فإن الضغوط العصبية والقلق أشد ضرراً وفتكاً بالإنسان(19).‏

وبغض النظر عن البُعد النفسي للشخصية فإن أهمية هذه المسرحيات تكمن في أنها لا تبسّط العلاقات مهما كانت طبيعتها، ولا تُعطي أجوبة بقدر ما تطرح أسئلة. فالطرح هو الإشكالية التي تعني الكاتب والقارئ معاً. فموضوع كل مسرحية يأتي على شكل سؤال أو أسئلة "المنمنمات.. الطقوس" أكثر منها أجوبة. فالمشكلات تُطرح بتعقيدها، والمشكلة أو القضية المطروحة مهما كانت طبيعتها تطرح ضمن علاقة ما. هي جزء منها لأن الأمور معقدة.. ومعقدة جداً.‏

وفي هذا يتشابك ما قد يبدو ثانوياً ويتقاطع مع ما هو معترف به على أنه أساسي، ويكون تلمس تراكب العلاقات وتشابكها هو الجديد والهام، في هذه المرحلة.‏

يلخص سعد الله ونوس ملامح تجربته الجديدة خلال لقاء أجري معه ونشرته مجلة الطريق. يقول: "لنتفق على نقطة، انقطعت عشر سنوات عن كتابة المسرح، خلال هذه السنوات العشر التي تبددت في سراديب الاكتئاب كنت أعلم أنني لا أستطيع أن أواصل الكتابة إلا بعد مراجعة جدية لما أنجزته وإلى ما آل إليه المسرح في بلادنا، وكذلك مراجعة التدهور الذي أصاب المشروع الوطني على امتداد الوطن العربي. وفي هذه المراجعة وجدت أني لم أركّز بما فيه الكفاية على تخلّف البنى الاجتماعية في بلادنا، وإني لم أربط إلا بشكل هامشي بين تخلّف هذه البنى، وبين نمط السلطات التي أنعم التاريخ علينا هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى كان عليَّ أن أكتشف أيضاً أن المشروع الوطني بما يعنيه من تحرر وتقدّم وحداثة لا يقتضي أن نلغي أنفسنا كأفراد لنا أهواؤنا ونوازعنا ووساوسنا وحاجاتنا الملحة للحرية، ولقول "الأنا" دون خجل.. بل بالعكس، إن هذا المشروع الوطني، لا يمكن أن ينجح ويتحقق إلا إذا تفتحت هذه "الأنا" ومارست حريتها وقالت نفسها دون حياء ودون مراءاة أو تعوّذ. كنا ساذجين في فهم الجماعة والعمل الجماعي. كنا نتخيّل هذه الجماعة أفراداً لهم وجوه واحدة وأمزجة واحدة. وكنا ننفر من الاستثناء والتفرد. ناسين أو متجاهلين أن الاستثناء والتفرد هما اللذان يجعلان من الجماعة قوة إنسانية لا مجرد جمع من الأرقام والوجودات الفارغة.."(20).‏

أخيراً. لابد من وقفة عند الكلمة التي كتبها ونوس لتقرأ في جميع أنحاء العالم في يوم المسرح العالمي، ولابد أن في اختيار ونوس لكتابة هذه الكلمة تكريماً للمسرح العربي.. وللمسرحيين العرب.. فكتب وكانت كلمة شهادة رجل مسرح حقيقي.. حمل الهم المسرحي والهم الإنساني والوطني والفكري والحضاري شهادة في الفكر والثقافة والفن والسياسة. حين أكد فيها على أهمية الحوار بين الجماعات "هذا الحوار الذي يقتضي تعميم الديمقراطية واحترام التعددية. وكبح نزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء.. إني أتخيل أن هذا الحوار يبدأ من المسرح، ثم يتماوج متسعاً ومتنامياً حتى يشمل العالم على اختلاف شعوبه وتنوّع ثقافاته...".‏

كما أكّد فيها أن "المسرح ليس تجلياً من تجليات المجتمع المدني فحسب، بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع، وضرورة من ضرورات نموّه وازدهاره" إنه ظاهرة حضارية مركّبة سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً لو أضاعها وافتقر إليها".‏

وبعد أن تحدّث عما يحدث في العالم الآن من حيف وظلم على الشعوب الفقيرة، ختم كلمته "إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ".‏


مقتبس .

مسرح التسييس : الحرية وعي الشرط التاريخي والاجتماعي للوجود:


مسرح التسييس هو حوار بين ساحته ن : الأولى هي العرض المسرحي الذي تقدمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره الثانية هي جمهور الصالة التي تعكس فيها كل ظواهر الواقع ومشكلاته، الأمر الذي من شأنه أن يدفع الكاتب ال ابتداع "بعض الوسائل الاصطناعية لكسر طوق الصمت، وتقديم نموذج قد يؤدي تكراره الى تحقيق غديتنا الأساسية في "اقامة الحوار".. اقامة حوار مرتجل وحار وحقيقي بين مساحتي المسرح : العرض والمتفرج.. ولابد لموضوع الحوار أن يكون مرتبطا بحياة المتفرج، ومشكلاته من جهة، ونوع المعالجة وشكلها، لكيلا تكون المعالجة مسألة شكلية وتقنية، حيث لابد للهواجس الجمالية أن يتم تعديلها الى "المشكلات السياسية والاجتماعية للواقع " وذلك لتشجيع المتفرج على الكلام والارتجال والحوار".

تمثل هذه المرحلة انعطافا نوعيا في وعي الوجود المؤسس للبنية التكوينية للنص، حيث ينتقل وعي الحرية من الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية جوهر الوجود، الى الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية شرط الوجود قيميا، من وعي الحرية بوصفها جوهر الكائن، الى وعيها بوصفها شرط كرامة وسيادة الكائن، من وعيها بوصفها وضعا اتنولوجيا، الى وعيها بوصفها صيرورة تاريخية على طريق اكتمال الوجود بالقيمة، وهكذا تخرج الحرية من الوجود بوصفه مكتفيا بذاته وقانونياته الداخلية، ال مجال القيمة التي لا معنى للوجود بطريقة كريمة بدونها، أي من حالتها الوجودية ال حالتها التاريخية، عندها تنخرط في المشكلات القيمية للوجود من أجل امتلاك بعده التاريخي، والشرط الاجتماعي للكائن بوصفه ممثل القيمة التي تمنح واجب الوجود في ذاته، معنى أن يفيض عن ذاته دلالات ورموزا وأحلاما بشرية تجعله بشريا، قيميا، جماليا، وانسانيا، وذلك لا يتم إلا بالفرص في حمأة الواقع وأسئلته اليومية الشائكة التي توحد مساحتي الوجود والتاريخ، العرض المسرحي، وجمهور الصالة بمشكلاتهم وهمومهم وأشواقهم.

بيد أن هزيمة حزيران 1967 كانت الزلزال الذي صدع كل هذه الأوهام الأونتولوجية التي أشاعتها الوجودية عن الحرية، وعززها مسرح العبث.

" حفلة سمر" والجوع الى الحوار:

كانت النقلة عنيفة وحاسمة في مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران " حيث في هذا النص يؤسس سعدالله لفكرة (الحوار والمشاركة ) ليس عبر الرسالة المعرفية والايديولوجية للنص فحسب، بل من خلال التشكيل البنائي للنص ذاته، اذ يكسر الحاجز الفاصل بين المعرفة والسلطة، لتدمير معرفة السلطة التي قادت الى الهزيمة دافعا بجمهور الصالة أن ينتزع حقه بالمشاركة في صناعة القرار، عبر الحوار والتدخل المباشر على الخشبة لمواجهة معرفة السلطة، بسلطة المعرفة التي بدونها لا يمكن للناس أن يمتلكوا حريتهم، وذلك عبر الثنائية الحوارية، بين المتفرج وخشبة العرض الرسمية بين الكاتب عبد الفني، والمخرج الرسمي، وذلك عبر اشرا ء الأسئلة. والسؤال هو المدخل لتقويض القائم عبر التشكيك بصلابته الواقعية الرثة. من أجل تجاوزه فالكاتب يمثل المعرفة وارادة الجمهور المقهور والمهزوم والباحث عن معرفة سبب ما حدث، والمخرج ممثل سلطة الخشبة والعرض ويقود جهازه التمثيلي للتضليل والايهام والتسلية والترفيه وتمجيد البولات الزائفة.

هذه المرارة الساكنة أحشاء الخطاب في النص، المرارة تجاد واقع عصي على التغيير سلطة ومجتمعا، ستربض ثاوية في سفر الكتابة المتوجهة أبدا حتى اللحظة الأخيرة وهي تطمح للارتقاء بالواقع من واقعيته الرثة بالتجدد قيم الحرية والعقل والعدالة، لكن فظاظة الوجود التي تأبى أن تنصاع لحلم الحرية، تلقي بالقمامة والامامة والرثاثة بوجه الأحلام الجميلة، فلا يكون الملاذ سوى الخيبة والمرارة من جديد، وكأن الكتابة هي الأمل المحكوم به الكاتب في وجه كل هذه البشاعة التي سيكتشف عنها لاحقا بهجاء نادر في مباشرته، وشراسته. وعينه الزرقاء المتنبئة في (يوم من زماننا _ ملحمة السراب ) حيث يكتب ملحمة مأتم الحرية الذي يخيط كفنه منذ عويل الشعارات الكبرى عن الحرية والوحدة والاشتراكية، وهو يستبيح كل واحدة منها على حدة نكاية بكل هذه القيم والمثل التي آمن بها الكاتب ورعيله. وسيأتي حديث ذلك.

اذا كان المجتمع على هذه الدرجة من الامامة، والسلطة على هذه الدرجة من الشراسة، فإن نزوعا من تأنيب النفس وتقريعها، سيتبدى في هذه المرحلة الثانية من وعي الحرية، وكأن الواقع المرير الذي لوع النهضوي الراديكالي الكواكبي، هو ذاته يمضي ساكنا، لا جديد فيه سوى لبوس السلطة من الطربوش والعمامة العثمانية الى قبعة الجنرال المعلقة صورته على الجدار في «يوم من رهاننا» والذي يسهل أن تنتهك أشد المحرمات، من المس بصورته الجليلة، والشعب هو هو لا يزال مقيدا بسلاسل الاستعباد، فغضب الكواكبي من أمته وشعبه، وهو يقرعهم بأن الأمة التي لا يستشعر شعبها أو بعض شعبها بالاستبداد فإنها غير جديرة بالحرية، هذه الخلاصة المريرة القي تجرعها الكواكبي سما زعافا، ستتحول الى الأطروحة الرئيسية التي تسكن مفاصل خطاب النص عند سعدالله. والتي سيتجرعها سرطانا فاتكا، كما تجرع الكواكبي سم السلطان عبدالحميد. والكواكبي سيكون الرمز الوحيد لممكنات الحرية في مسرحيته الهجائية بمرارة "يوم من زماننا".

المرحلة الثانية:

في هذه المرحلة، سيكتب مسرحياته (الفيل يا ملك الزمان - مغامرة رأس المملوك جابر _ الملك هو الملك )، قبل صمته الذر سيدوم عشر سنوات، ليبدأ المرحلة الثالثة، التي يتجاوز فيها أحادية الرؤية الى الحرية بوصفها وضعا وجوديا جوهريا في مرحلته الأولى، والحرية بوصفها شرطا تاريخيا في مرحلته الثانية، الى انشاء كليات نوعية جديدة ومغايرة، عندما سيهدم الحاجز بين الرضع والشرط، ليوغل عميقا في داخل الذات (ذات الفرد والمجتمع والتاريخ) مواصلا سفر عذ ابات الكلمة الشريفة. في هذه المرحلة، المرحلة الثانية التي نحن بصدد تشخيصها، سيشهد منظوره المعرفي والجمالي انتقالا في وعي الحرية، حيث الانتقال من وعيها كوضع وجودي انطولوجي، الى وعيها كشرط تاريخي كما ستظهر لاحقا.

وبذلك فإن الحرية في هذا السياق ستتبدى بوصفها المعادل للوجود الانساني، أي المعادل القيمي الذي يمنى الوجود الطبيعي معناه، والالته الروحية ومغزاه الاخلاقي فهي إذن لم تعد جوهريا ثابتا أو انطولوجيا. بالمعنى الوجودي بل غدت شرطا انسانيا لابد منه قيميا، لتحقيق حالة التطابق بين الوجود والقيمة، وهنا ينهض الوعي التاريخي ليعلن أن البشر هم الذين يصنعون مصائرهم عبر امتلاك الوعي بهذه المصائر، والحرية لمن يستحقها، والانسان محكوم بها لا كوضع طبيعي بل كشرط تاريخي انساني، به يتحقق وجوده الأمثل بصورة كريمة، وليس الوجود المحض بأي ثمن كما تقدمه حكمة أزمنة الذل والقهر والاستبداد القائمة على (فخار يكسر بعضه _ ومن يتزوج أمنا نسميه عمنا) وفق ما يتأسس عليه نظام خطاب الرعية الراسخة في العبودية روحيا وانسانيا في مسرحيتي (الفيل يا ملك الزمان - ومغامرة رأس المملوك جابر).

سهرة مع أبي خليل القباني : المسرح بوصفه فعل حرية:


ستكون "سهرة مع أبي خليل القباني" المسرحية الصادرة سنة 1996 بعد (الفيل يا ملك الزمان _ ومغامرة رأس المملوك جابر لم وقبل "الملك هو الملك " الصادرة 1997 بمثابة الجذر المعرفي الذي سيؤسس لرؤية كتابة سعدالله اللاحقة، وقد كان نصا لافتا في انتباهه المبكر لميراث التنوير العربي، وهو الكاتب الذي حسم كل تطويره الفكري باتجاه الانتقال من وعي الحرية كوضع الى وعيها كشرط تاريخي، أي طور الفكري من وجودية قومية متمردة باطلق الى رؤية تاريخية متطلعة الى فعل التغيير وواثقة من قدرة الناس على صناعة مصيرها، وكانت العلاقة الخاصة التي ربطت تجربته المسرحية بتجربة بريشت واستثماره المبدع للاقتراحات التي قدمها المسرح البريشتي على مستوى البنية والرؤى، كل ذلك ساهم في ابراز سعدالله كمثقف عضوي يخوض معركة التغيير بوصفها فعلا يوميا ينبغي خوضه دائما، واعادة كسبه أبدا.

ان داعية مسرح التسييس كان دائما قادرا عي فك أي ارتباط مع الاحزاب السياسية التي ظل يحتفظ لنفسه بمسافة نقدية عنها، هذا المسافة النقدية وهي مسافة الحرية التي تقلع اليها المعرفة لخوض معركة الجذرية تجاه الأستبداد، هي آلتي ستنير لسعدالله أن يقدم رؤية مختلفة لزمن التنوير العربي بمنحى عن المناخ الفكري اليساري (الماركسي والقومي) من جهة، و(التراثي المحدثن ) الابستمولوجي، الفينوميقولوجي والتفكيكي، من جهة أخرى، حيث يرى في تجربة القباني المسرحية فعل حرية بذاتها، بوصف المسرح هو النتاج التاريخي للديمقراطية اليونانية على حد تعبه سعد اثو، وهو يكشف في هذه المسرحية عن الترابط الوثيق بين المسرح والحريات الدستورية والقانونية التي تحققت في ظل الوالي المتنور مدحت باشا 1978، وأن المسرح كان بهدف معركة الرجعية، من خلال الشيخ "سعيد الغبري" والسعى الى السلطان في سبيل اغلاقا وعلى هذا تنشأ شبكة من العلاقات المتناظرة والمتوالدة، فحيث يسود التنوير نتفته شجرة الحرية، وكلما كانت شجرة الحرية وارفة، كان الوعي بالاستبداد حادا بوصفه العقبة أمام التفتح الذهني والروحي، وكلما ازداد الوعي معرفة بقوانين الاستبداد، كان المسرح ضرورة لهذا :لوعي الحديث، للنهضة والتنوير، وبذلك فالمسرح في ذاته فعل حرية شاجب للطغيان وسيادة الو احدية الفكرية والايديولوجية السياسية، في إطار هذا الهوامش التي سقناها على متن تحليلنا لمرحلتي الحرية التي عرفها مسرح سعدالله، سنؤجل تناولنا التحليلي للمرحلة الثالثة المتمثلة بالانتقال بمفهوم الحرية من شرط وجود الكائن، وجوديا كرضه، وتاريخيا كشرط، الى الحرية كشرط لمعنى وجود الكائن، حيث الانتقال نحو الداخل للحفي فيه بحثا عن البريق الأبيض لالتماعات النفس وتخلق الجسد، وبمقدار ما تتكشف النفس في جوانيتها عن عوامل الكبح والقهر التي نتوء بها الذات داخليا، بمقدار ما تفتته حرية الجسد، بشابتها تتويجا حسيا لتموجات الروح وجرار النفس، وقروح الوجدان، ولعل ذروة التشخيص الدوامي لهذه الحوارية الجوانية بين الباطن والظاهر، يتعكس بارتهان فعل الحرية لمدى درجة تقويض الجدار وتصدعه بينهما، ومن ثم تداعى هذه الفسحة البرزخية الوهمية بين المعنى والمبنى، بين الميث واللوغوس، بين اندفاعات الحس وأشواق العقل حيث سقوط الوعي التنكري، وذلك في مسرحيته "طقوس الاشارات والتحولات " الصادرة سنة 1994 هذا التشخيص في أرقي تجلياته الدرامية في هذه المسرحية سيشكل انعطافا نوعيا فذا في سيرته المسرحية، حيث الكتابة ستعيش مرحلة تلظيها وهي تكتوي بحمى المرض الذي كان يكتب تحت وطأته الفتاكة، فيقاومه ويزجره ويؤجله هذه الانعطافة ربما يتم له عبرها أن يؤسس لايقاع جديد في المسرح العربي،، لو طال العمو، فوفق هذا الايقاع سيكتب عدة مسرحيات وان لم ترق الى تلك المجرة الدلالية التي أودعها نص "طقوس الاشارات والتحولات " وهذه المسرحيات "أحلام شقية " كتبها في السنة ذاتها وفي عام 1996يصدر مسرحية قصيرة "بلاد أضيق من الحب " وآخر هذه المسرحيات التي ينتظمها ايقاع اسقاط الجدار بين الروح والجسد، والولوج الى عوالم الداخل الذي يأتي الخارج محصلة لها هي مسرحية "الأيام المخمورة " وان كان في هذه المسرحية قد أراد من خلال هذه المباطنة الداخلية للشخصيات أن يباطن التاريخ والمجتمع وتلك السيرورة التي "كانت الناس تتمايل... وكنت الأيام مخمورة ".

صالح الزناتي

.
هل يستطيع أي صحفي أو اعلامي ان يتبرأ من المورثات الثقافيه التي يحملها ..؟؟ هل يقدر على التنصل من اخلاقيات الأديب والمثقف الكاتب؟؟ وهل يستطيع ان يخرج من البيئه التي يعيش بكامل أطرها ومعطياتها ,فيكتب مالا يقبله العقل والقلب ..؟؟ ان الكاتب أو الإعلامي لا بد ان يسير على نهج سلفه الصالح ..وان أمسك قلمه لا بد أن يحمل مع قلمه مشاعره ,احاسيسه ,ثقافته,ومورثاته الخلقية,فتأتي كتاباته تحمل الكروموسومات التي سبق ان حملها سواء من تجارب ثقافية أو مركبات جينية...
على الكاتب ان يزن احرفه وجمله قبل ان يسطرها قلمه فينشرها عبر الإنترت او شاشات التلفاز وأوراق الصحف,لأنه سابقاً قالوا ان غلطة العالم بألف ..فما بالنا بغلطة الكاتب أو الإعلامي .التي غطله واحده كفيله أن تغير او تشتت فكر أناس بسطاء لا يملكون من الدنيا إلا سطحية التفكير و هشاشة العقل

صالح الزناتي

مرحبا بكل من هل علي بالزيارة
مواقع و منتديات هامة و رائعة

tunisia sat

tunisia sat
site web tunisenne

tunisia-sport

منتديات تونس سات

startimes2

kuwait2

hannibal-sat

hannibal-sat
http://www.hannibal-sat.com/vb/

tunisia-web