الجمعة، نوفمبر 28، 2008

مبحث في ابي تمام

بقلم صالح الزناتي


يلاحظ أن النظرية النقدية فيما يخص أغراض الشعر عند العرب- في كثير من أجزائها-
نظرية أخلاقية؛ ذلك لأنها تشترط لكل غرض شعري شروطا أخلاقية، حتى ما يسمى بالغزل النهشليّ شيخ ابن رشيق القيرواني، "العادة عند العرب أن الشاعر هو المتغزل المتماوت، وعادة العجم أن يجعلوا المرأة هي الطالبة والراغبة المخاطبة، وهذا دليل كرم النحيزة في العرب وغيرتها على الحرم"(1). ولذلك عيب على عمر بن أبي ربيعة تصويره المرأة محبة له، تسعى وراءه، لأن المرأة في شعر الغزل عند العرب "إنما توصف بأنها مطلوبة ممتنعة"(2)، كذلك لم يقبل الإسلام التغزل بمعيّن فإنه لا يحل(3). وكان أفضل الغزل عند النقاد- مثل قدامة بن جعفر- ما يصور الموقف النفسي للشاعر، لا ما يقدّم الصفات الماديّة للمحبوبة.
ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن شعر المدح عند العرب- في كثير منه- يحقق أهدافا أخلاقية، ذلك لأنه يصور المثل العليا التي يجب أن يتحلى بها الفرد في سعيه تجاه الكمال في إطار المجتمع العربي. أي أن شعر المدح يصور الجوانب الإيجابية من شخصية البطل في المجتمع العربي، ولذلك كان أفضله عند النقاد ما يكون بوصف الممدوح بالفضائل الأخلاقية في المجتمع الإسلامي؛ كالعقل والعفة والعدل والشجاعة والكرم(4). أما الصفات الجسدية فتأتى أهميتها من دلالتها على صفات نفسية وأخلاقية لدى من يتصف بها. ويكون المدح بهذه الفضائل الأخلاقية إعلاء لها، وتأكيداً على أهمية التمسك بها، عن طريق عرضها وتقديم نماذج بشرية متخلقة بها. قال أبو تمام الطائي:
ولولا ِخلالُ سنَّها الشعرُ ما درَى ….. بغاةُ العُلا من أينَ تُؤتَى المكارمُ(5)
ولا أهمية لما يقال من احتواء شعر المدح على الملق والنفاق، فمثل هذه الدوافع مما يصعب الإمساك به علمياً، وإنما كان يؤخذ أصحابها بالوحي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنا ظواهر الناس وأما سرائرهم فموكولة إلى الله سبحانه وتعالى، كما ذكر عمر بن الخطاب رضى الله عنه(6).
وإذا كان قد ورد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه المقداد "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب"،(7) فإن الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) قد ذكر في شرح صحيح البخاري أن العلماء قد ذكروا أن المراد به "من يمدح الناس في وجوههم بالباطل"، وقال عمر: المدح هو الذبح، قال وأما من مدح بما فيه فلا يدخل في النهى فقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحثُ في وجه مادحه ترابا(8).
وقال الإمام محيى الدين النووي (ت676هـ) في شرحه لصحيح مسلم تعليقاً على الحديث السابق الذي أورده في (باب النهى عن المدح إذا كان فيه إفراط، وخيف منه فتنة على الممدوح) قال النووي: "ذكر مسلم في هذا الباب الأحاديث الواردة في النهى عن المدح، وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيحين بالمدح في الوجه. قال العلماء: وطريقة الجمع بينها أن النهى محمول على المجازفة في المدح والزيادة في الأوصاف، أو على من يخاف عليه فتنة من إعجاب ونحوه إذا سمع المدح، أما من لا يخاف عليه ذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته، فلا نهى في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة، بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كنشطة للخير والازدياد منه أو الدوام عليه، أو الاقتداء به كان مستحباً. والله أعلم"(9).
وجعل الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضاً من الشعر الجائز "ما خلا عن هجو، وعن الإغراق في المدح والكذب المحض (10)"، وذكر أن ما كان كذباً وفحشاً فهو مذموم(11).
وكذلك جعل النقاد العرب "خير الهجاء ما تنشده العذراء في خدرها فلا يقبح بمثلها (12)"، وقال خلف الأحمر، "أشد الهجاء أعفه وأصدقه (13)".
وإذا كان شعر المدح يصور الملامح الإيجابية لشخصية البطل في المجتمع العربي، فإن الهجاء يصور الملامح السلبية لها، ويكشف عن الرذائل التي يجب أن يحذرها العربي.
وليس هناك ما هو أدل على أخلاقية الشعر العربي من قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر حكمة (14)". الذي شرحه الحافظ المباركفوري (ت1353هـ) في كتابه "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" بقوله: "قوله (إن من الشعر حكمة) أي قولاً صادقاً مطابقاً للحق، وقيل أصل الحكمة المنع، فالمعنى أن من الشعر كلاماً نافعاً يمنع من السفه (15)".
وذلك فضلاً على ما استقر في التفكير النقدي عند العرب، من أن كثيراً مما لا يسوغ في الكلام يسوغ في الشعر، ويكتسب قبولاً، ومن ذلك قولهم: "ليس لأحد من الناس أن يطري نفسه ويمدحها.. إلا أن يكون شاعراً، فإن ذلك جائز له في الشعر، غير معيب عليه (16)" أي أن المحاكاة في الشعر- كما ذكر أرسطو من قبل- تحسّن القبيح، فما كان قبيحاً قبل الشعر يصبح فيه- بفضل المحاكاة- سائغاً مقبولاً(17).
وهكذا نرى أن النظرية النقدية- فيما يخص الأغراض الشعرية عند العرب- في مجملها- نظرية أخلاقية. الأمر الذي يمكن معه ارتياد آفاق جديدة من البحث والدراسة لها.

-2-

يكتسب شعر المدح في العصر العباسي أبعاداً ثانية عندما يمعن في وصف الوقائع التاريخية التي تتصل بالممدوح، وينقل لنا صوراً واضحة الملامح لمعارك العصر، التي كانت في الغالب جهاداً من المسلمين لأعدائهم كالروم على وجه الخصوص، لذلك لا نغلو إذا وصفنا عدداً من قصائد الشعراء العباسيين بأنها من شعر الجهاد الإسلامي.
وشعر الجهاد من أهم أغراض الشعر الإسلامي- في رأينا- ذلك لما للجهاد من أهمية متميزة في الشريعة الإسلامية، وأهمية مماثلة في حياة المسلمين، لا ندلل عليهما لوضوحهما في أذهان أكثر الناس.
ولا نعني بتسجيل الشعر في العصر العباسي للوقائع التاريخية أن الشعر فيه قد تحول تأريخاً، فذلك مجاله (النظم) التعليمي. وإنما نعني أن الشعر فضلاً على قيمته الأدبية يُضيف إليها قيمة أخرى تاريخية، فليس الشعر رصداً حرفياً للواقع، وإنما رؤية فنية له وإعادة إنتاج لأحداثه، وقديماً قال أرسطو (ليست المحاكاة رواية الأمور كما وقعت فعلاً، بل رواية ما يمكن أن يقع.. فلو كتب تاريخ هيرودتوس شعراً لظل تاريخاً، لأنه يروي ما وقع لأشخاص معينين، فهو جزئي يروي ما هو خاص بأفراد، على حين مواضيع الشعر كلية عامة. وليست أسماء الأشخاص في الشعر إلا رموزاً كلية لنماذج بشرية، حتى لو كانت هذه الأسماء تاريخية لأن وقائع التاريخ ذريعة الفنان) (18). أي أن هدف الشاعر إنما يكون فنياً في المرتبة الأولى، وتكون محاكاته للطبيعة ووسائلها مضيفة إليها ومكملة لها، تكشف عن (المعاني الإنسانية وقضاياها الكلية التي تبين عنها الحوادث المسوقة في حكاية الشعر، فالشعر بهذا- كما قال أرسطو- أوفر حظاً- في الفلسفة- من التاريخ) (19).
وتتحول قصائد أبي تمام الطائي في مدح القائد العربي أبي سعيد الثغري الطائي، وفي مدح الخليفة العباسي المعتصم، كما تتحول مدائح أبي الطيب المتنبي لسيف الدولة الحمداني إلى ملاحم أو فصول من ملاحم، تصور جهاد المسلمين للروم، يختار فيها الشاعر من عناصر الحادثة التاريخية ما يحتاج إليه فنياً لتشكيل تجربته الشعرية. ولا بأس- هنا- في أن تكون لنا نحن العرب ملاحم نابعة من ظروفنا، ولا بأس في أن تكون لنا اصطلاحاتنا النقدية التي تستمد محتواها من تاريخنا الثقافي والفكري.


-3-

نختار للكشف عن مبنى التفكير الفني عند أبي تمام، ورؤيته في تفسير التاريخ قصيدته البائية المشهورة التي مدح بها الخليفة العباسي المعتصم (179هـ 227هـ) عندما فتح عمّورية من أرض الروم في رمضان عام 223هـ كما قيل- تلبية لنداء المرأة العربية المسلمة التي استغاثت به: وامعتصماه.
يلاحظ أن التفكير الفني لأبي تمام في هذه القصيدة- وربما في كثير من شعره يعتمد- أساساً- على بنية التضاد، حتى لتنبني قصيدته على عدد من الثنائيات المتضادة، تؤدي هذه الثنائيات- بما تكتنزه من توتر وتناقض، وبما تشير إليه من نشاط عقلي وإتكاء ذهني- دورها في تصوير أبعاد الصراع الذي تحمله القصيدة على نحو يركز عليه قبل أي شيء غيره.
يفتتح أبو تمام قصيدته قائلاً:

السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ …….. في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ
بيضُ الصفائحِ لا سودُ الصحائفِ في …….. متونهن جلاءُ الشكِّ والريبِ
والعلمُ في شُهبِ الأرماحِ لامعةً …….. بين الخميسين لا في السبعةِ الشهبِ
عجائباً زعموا الأيامَ مجفلةً …….. عنهن في صفرِ الأصفارِ أو رجبِ
وخوفوا الناسَ من دهياءَ مظلمة …….. إذا بدا الكوكبُ الغربي ذو الذنبِ
وصيروا الأبرجَ العليا مرتبةً …….. ما كان منقلباً أو غيرَ منقلبِ
يقضونَ بالأمرِ عنها وهي غافلةُ …….. ما دارَ في فلكٍ منها وفي قطبِ

فيتمثل مدخل أبي تمام إلى القصيدة في تحديد موقفه من ثنائية متضادة مطروحة لحل المشكلة التاريخية الراهنة وقتذاك. تلك الثنائية طرفاها المتضادان: السيف × الكتب، وتتوزع الثنائيات المطروحة في الأبيات التالية عليهما من أجل جلاء حقيقة كل منهما وما صدقاتها، على النحو التالي:
السيف × الكتب والنجوم
الجد × اللعب
الصدق × اللعب
الجلاء × الزخرف
بيض الصفائح × سود الصحائف
شهب الأرماح × السبعة الشهب

فإذا بنا أمام ثنائية طرفاها:
أ- حلّ إسلاميّ مفرداته (القوة من الرمي بالرماح غيرها- الصدق- الجد).
ب- حلّ غير إسلامي مستمد من اللامعقول الذي يحاربه الإسلام؛ مفرداته تتكشف دلالاتها الثرّة إذا تذكرنا سياقاتها في القرآن الكريم- هي (الزخرف- الكذب- اللعب (اللهو)- الصحف السُّود- النجوم، وهي تسبح في أفلاكها بريئة مما يخرصون).
وقد اختار أبو تمام الحلّ الأول منذ مفتتح قصيدته.
ويترتب على هذا التقابل الرئيس بين هذه الأضداد، أن يمتد به الشاعر ليستعمله حين يستطرد للحديث عن الطرف المنفي المرفوض منه في هذه الثنائية وهو الطرف الثاني: فأحاديث المنجمين: ليست بنبع ولا غرب، والأبرج العليا منها: ما كان منقلباً أو غير منقلب. حتى ليمكن فهم قوله: (ما دار في فلك منها وفي قطب) على ضوء مقولة التضاد. وقد بدأ الشاعر بالطرف الثاني المنفي من هذه الثنائية، ليعمل على نفيه واستبعاده من أجل أن يتفرغ للطرف الأول الذي هو موضوع القصيدة في الحقيقة. يقول الشاعر:

فتحُ الفتوح تعالى أن يحيطَ به …… نظمٌ من الشعرِ أو نثرٌ من الخُطَبِ
فتحٌ تُفتح أبوابُ السماءِ له ……وتبرزُ الأرضُ في أثوابها القُشُبِ
يا يومَ وقعة عمّورية انصرفتْ ……منك المنى حُفَّلاً معسولةَ الحَلَبِ
أبقيت جد بني الإسلامِ في صَعَدٍ ……والمشركينَ ودارَ الشركِ في صَبَبِ
أمُّ لهم لورجوا أن تُفتَدى جعلوا ……ِفداءها كلَّ أمٍ منهم وأبِ
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ……كسرى وصدتْ صدوداً عن أبي كَرِبِ
بكر فما افترعتها كفّ حادثه ……ولا ترقت إليها همةُ النُّوبِ
من عهد إسكندر أو قبل تلك قد ……شابتْ نواصي الليالي وهي لم تشبِ
حتى إذا مخض الله السنين لها ……مخضَ البخيلةِ كانت زبدةَ الحقبِ
أتتهم الكربة السوداء سادرة ……منها وكان اسمُها فرّاجة الكُرَبِ
جرى لها الفأل برحاً يوم أنقره ……إذ غودرتْ وحشةَ الساحاتِ والرُّحَبِ
لما رأت أختها بالأمس قد خربت ……كان الخرابُ لها أعدى من الجربِ
كم بين حيطانها من فارس بطل ……قاني الذوائب من آني دمٍ سَربِ
بسنة السيف والخطى من دمه ……لا سنةِ الدينِ والإسلامِ مختضبِ

ويلاحظ أن الشاعر كلما توغل في موضوع قصيدته، وازدادت حماسته لما يعاني أو يصف منه، عليه ازداد توغله في طريق الصناعة الفنية، لكن من خلال ما اعتمده منذ بداية القصيدة من مبنى التضاد، ويصل في هذا الجزء من القصيدة من خلال التضاد إلى ما يمكن عده ضرباً من التناقض أو التعارض الظاهري (paradox)(20) فهذا الفتح الذي يبدو أعلى من أن يحيط به طرفا الأدب- الشعر والنثر، وبينهما تضاد- ربما كان أولى بالفهم الاتجاه إلى القول باستحقاقه أن يخلد في الشعر والنثر. ذلك الفتح الذي تحتفل به كل من السماء والأرض- وهما طرفا ثنائية أيضاً- بطريقتها الخاصة، فتتفتح السماء بالعطاء، وتتشقق الأرض بالعطاء الناتج عن عطاء السماء، وتأخذ زينتها، ومن هذا التعانق الذي يحدثه الشاعر بين السماء والأرض تنثال المعاني الروحية المصاحبة لهذا الفتح التي تشعها كلمة الفتح ابتداء.
ويتبدى التناقض من خلال وصفه يوم وقعة عمّورية بأن يصور المنى فيه (حفلاً معسولة الحلب) ثم يسلب ذلك كله بقوله: انصرفت. وعندما يجعل عمّورية أماً لهم يفدّونها بكل أم وأب (وهما طرفا ثنائية أيضاً) ثم ينفي كل ذلك عنهم بقوله: لو رجوا أن تفتدي.
وعندما يجعل عمّورية وهي فراجة الكرب عندهم مدخلاً للكربة السوداء إليهم، وعندما يأتيها- من الفأل البارح- الذي يتمسكون به لولعهم بالتكهن والتنجيم لجاهليتهم- الخراب والوحشة. وأوضح من ذلك أن يصف جنود الروم في عمّورية بأنهم كلهم (فارس بطل) ثم يسلب هذا الوصف كل جدوى أو فاعلية، عندما يخبر عنهم بأنهم كلهم- في هذه المعركة- (قاني الذوائب من آني دم سرب)، مختضب بدمه من سنة السيف، لا من سنة الإسلام في خضاب الشيب بالحنّاء. أي أن الشاعر مازال متمسكاً ببنية التضاد لكنه يعقدها شيئاً فشيئاً مع تصاعد الموقف وتعقد جو المعركة في هذه القصيدة. فكان اكتشافه التناقض الظاهري (paradox) وسيلة فنية اعتمد عليها في تشكيل تجربته أو صناعة قصيدته في هذا المقطع من قصيدته على وجه الخصوص، وإن سقطت منه أشياء في سائر القصيدة مثال قوله:

بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها …… تنال إلا على جسر من التعب

وغيره من أبيات القصيدة، الأمر الذي يرجع إلى ولع أبي تمام ببنية التضاد.
ومن أثناء هذا المقطع تطلُ صورة عمّورية أماً بكراً! تمنعت على الفرس كما صدت عن العرب- وهذه ثنائيات متضادة أيضاً- برزة (أي حيية ومتبرجة) شابت لها الليالي، وهي لم تشب. يالها من أنثى عجيبة! تدخر عفافها للمعتصم! يستعين الشاعر على تصويرها فضلاً على الكلمات المتضادة، بالكلمات الأضداد مثل: الفأل- برحا- برزة..، حيث تدلُّ كل كلمة بنفسها على معنيين متضادين في وقت واحد. لعل تصوير عمّورية في صورة الأنثى الخالدة التي تجمع طرفي الحياة أو النقيضين، ضرباً من التناسب في الصنعة الفنية- يتفق مع ما يذكره الشاعر في المقطع التالي من تضحية المعتصم بنسائه وعاجل لذته بمثل قوله:

لبيتَ صوتاً زبطرياً هرقتَ له ….. كأسَ الكرى ورضابَ الخُردِ العُرُبِ
عداك حَرُّ الثغورِ المُستضامةِ عن …. بردِ الثغورِ وعن سلسالِها الحصبِ

فقد اختار المعتصم الثغور/ الحرب، على الثغور/ النساء، فاختار الحرب والمشقة على البرد واللذة. وكانت تضحيته هذه من أجل الأنثى الخالدة عمّورية.
وإذا كان هذا التشخيص للمدينة في صورة الأنثى له ما يبرره من توظيف فني فإن له أيضاً ما يدعمه في الذهنية العربية، فالمدن- لدينا نحن العرب- نساء، بل ونساء أبكار أيضاً- عرائس (فحائل عروس الشمال، وجدة عروس البحر الأحمر- والإسكندرية عروس البحر الأبيض- والمنيا عروس الصعيد- وهكذا تتعدد العرائس؛ فالعقلية العربية تستسيغ فكرة تعدد الزوجات!) ولعل ذلك الربط بين المدينة والأنوثة- خاصة في هذا النص الذي يدور حول عمّورية المدينة المفتوحة للمعتصم- يرجع إلى ارتباط البطولة لدينا نحن العرب- كوراثة ثقافية تاريخية إن جاز التعبير عن العصور العربية الأولى- بالرحلة والسفر، تماما كما ترتبط لدينا أيضاً- كوراثة عن تلك العصور- بالفحولة، ومن تلك الاستعمالات الواضحة الدلالة، ما كانت تطلقه العرب على الشاعر المتميز- أي البطل في مجال الشعر- من وصف (الشاعر الفحل). كذلك كانت تضحية المعتصم السابقة من أجل إحراز نساء الروم. فقد حاول أبو تمام تصوير عظمة انتصار المسلمين بكثرة ما حازوه من سبى رومي. يقول الشاعر:

والحربُ قائمةٌ في مأزقٍ لجج ….. تجثو القيامُ به صغراً على الركبِ
كم نِيلَ تحت سناها من سنا قمرِ ….. وتحت عارضها من عارضٍ شنبِ
كم كان في قطع أسبابِ الرقابِ بها ….. إلى المخدّرة العذراءِ من سببِ
كم أحرزتْ قضبُ الهندي مُصلتة ….. تهتزُ من قُضبٍ تهتزُ في كثبِ
بيضٌ إذا انتضيت من حجبِها رجعتْ ….. أحقَّ بالبيضِ أتراباً من الحُجُبِ
خليفةَ اللهِ جازي اللهُ سعيَك عن ….. جرثومِة الدينِ والإسلامِ والحسبِ

وعلى الرغم من أن الشاعر ابتدأ هذه الصورة التي استطرد إليها عن السبي الذي حازه المسلمون معتمداً على التضاد في البيت الأول منها بقوله (تجثو القيام به...) إلا أنه أضاف إليه ضروباً من التكرار اللفظي عن طريق الجناس (قضب وقضب- بيض وبيض) ورد الإعجاز على الصدور (أسباب وسبب- بيض وبيض- من حجبها والحجب).
ومن خلال هذا الجو الديني الذي تتنفس فيه القصيدة، والذي سنوضحه مفصلاً فيما بعد إن شاء الله، والذي يشير إليه البيت الأخير من هذا المقطع، يمكن عد صورة النساء السبايا تلميحاً لم يجرؤ الشاعر على التصريح به عما كان ينتظر المعتصم وجنوده من أجر لمن يستشهد منهم في هذه الموقعة، أو هي إشارة إلى أجر المجاهدين عجلت لهم منه في الدنيا البشرى بما ينتظرهم من جزيل الأجر في الآخرة، وفي هذا السياق تشع كلمة أتراباً- إذا قُرئت على أنها تمييز- لكلمة البيض في البيت قبل الأخير- دلالات دينية لورودها في سياق الحديث عن الحور العين، وذلك في قوله تعالى (إنا أنشأناهن إنشاء* فجعلناهن أبكاراً* عرباً أترابا* لأصحاب اليمين) سورة الواقعة: الآيات 35- 38.
مما يرشح لهذا الاحتمال الذي قدمناه لتفسير هذه الصورة في القصيدة، خاصة وأن الشاعر قد قدم المصاحب اللفظي المعهود لهذه الكلمة (أتراباً) في البيت السابق:

لبيت صوتأ زبطرياً هرقتَ لهُ ….. كأسَ الكرى ورضابَ الخُردِ العُرُبِ

ثم تكون نقلة فنية من الشاعر نحو تعقيد الصورة من خلال بنية التضاد تتساوق مع توغله في القصيدة، في المقطع التالي: يقول الشاعر:
لقد تركتَ أميرُ المؤمنينَ بها ….. للنارِ يوماً ذليلَ الصخرِ والخشبِ
غادرتَ فيها بهيمَ الليلِ وهو ضحىً ….. يشلهُ وسطَها صبحٌ من اللهبِ
حتى كأنَّ جلابيبَ الدجى رغبتْ ….. عن لونها وكأنّ الشمسَ لم تغبِ
ضوءٌ من النارِ والظلماءُ عاكفةٌ ….. وظلمةٌ من دُخَانٍ في ضُحَىً شحبِ
فالشمسُ طالعة من ذا وقد أفلتْ ….. والشمسُ واجبة من ذا ولم تجبِ
تصرّح الدهرُ تصريحَ الغمامِ لها ….. عن يوم هيجاءَ منها طاهرٍ جنبِ
لم تطلعِ الشمسُ فيه يومَ ذاك على ….. بانٍ بأهلٍ ولم تغربْ على عزبِ
ما ربعُ ميةَ معموراً يطيفُ به ….. غيلانُ أبهى ربيً من ربعها الخربِ
ولا الخدودُ وقد أدمينَ من خجلٍ ….. أشهى إلى ناظري من خِّدها التربِ
سماجةٌ غنيت منا العيونُ بها ….. عن كلِ حسنٍ بدا أو منظرٍ عجبِ
وحسنُ منقلبٍ تبقى عواقبه ….. جاءتْ بشاشتهُ من سُوءِ منقلبِ
ويلاحظ أن التقنية الجديدة التي يستعملها أبو تمام من التضاد في هذا المقطع هي ما أسماه الشاعر (بنوافر الأضداد) الذي يشتمل فيه البيت على وصفين متضادين، الأمر الذي لاحظه وأشار إليه- من قبل- أستاذنا الدكتور شوقي ضيف، وذكر له عدداً من الأمثلة منها قول أبي تمام:
بيضاء تسري في الظلام فيكتسي ….. نوراً وتسربُ في الضياءِ فيظلمُ
الذي يعلق عليه بقوله: "أرأيت إلى هذا التضاد وهذا الضياء المظلم؟ إن حقائق الأشياء تتغير في شعر أبي تمام على هذه الصورة التي نرى فيها الضياء المظلم..."
ومنها قول أبي تمام في وصف الشراب:
جهميةُ الأوصافِ إلا أنهم ….. قد لَقبوها جوهرَ الأشياءِ
الذي يعلق عليه الدكتور شوقي ضيف بقوله: (فهي جهمية أي ليس لها اسم، لأن الأسماء في رأي جهم بن صفوان تطلق على الجواهر والأعراض.. "فقد رقت- كما ذكر التبريزي- حتى كادت تخرج من أن تكون عرضاً أو جوهراً أو أن تسمى شيئاً إلا أنها لفخامة شأنها لقبت جوهر الأشياء" فهي مسماة وغير مسماة في الوقت نفسه) (21).
وعندما ننظر في أبيات هذا المقطع من القصيدة، فإننا نلاحظ في البيت الثاني أن بهيم الليل قد تحول إلى ضحى، وأن ذلك الظلام يطرده من قلب عمّورية صبح لكنه من اللهب، (فجمع بين الترك والطرد وبين ظلمة الليل والصبح فطابق بين موضعين (22)). فهناك ظلام لكنه ليس بظلام فقد تحول إلى ضحى، وهناك صبح لكنه ليس بصباح حقيقي فإنه من لهب. والصورة في البيت التالي استطراد لتفسير السابقة؛ فالدجى وهو قائم موجود كأنه رغب عن جلابيبه فهو يحاول تبديلها، وكأن الشمس- وهي غير موجودة- قائمة لم تذهب. وفي البيت الرابع يقدم صورتين لمشهد واحد تبدوان متناقضتين لأول وهلة: ضوء من النار يحاول تبديد الظلام العاكف على المدينة، وظلمة من الدخان تذهب لون الضحى وتشحب ضياءه، فيغالبه الظلام , والبيت الخامس تفسير لهذه الصورة واستطراد لها، فبعد ما ذكره ترى شمساً طالعة في الليل مع أن الشمس الحقيقية قد ذهبت. وترى ظلمة في النهار مع أن الوقت ضحى. وفي البيت السادس يتكشف الدهر ويتجسد موقفه إزاء عمّورية، فيصيبها بيوم طاهر جنب، يفسر الشاعر حقيقة اليوم في البيت التالي له؛ بما يذكره من مفارقة يحدثها يوم عمّورية، الذي لم تطلع شمسه على بان بأهله من الروم إذ قتل، وفي المقابل لم تغرب على عزب من المسلمين إذ أنكحتهم رماحهم سبايا الروم.
ثم يعمق أبو تمام المفارقة- من خلال توظيف التراث- عندما يجعل ربعها الخرب- أي عمّورية- غاية في البهاء! فيقرنه بربع مية معموراً يطيف به ذو الرمة تقديساً وشوقاً، ويفضله عليه. فعمّورية محبوبة، تزداد مع الخراب حسناً! وفي سياق الحب، وتناسباً مع تصويره عمّورية امرأة كانت عصية شموساً قبل المعتصم، يراها أبو تمام- في البيت التاسع- من خلال مشهد الخراب الذي تلذذ به سادياً- امرأة لصق خدها- وكانت تصعره في ذي قبل- بالتراب، ومشهدها- ذليلة لصقت بالدقعاء- أشهى لديه من مشهد خدود الحسان وقد أدمين من خجل. وشتان ما بين المشهدين، ولكن الشاعر يصنع شعره من خلال الصور المتقابلة؛ المتناقضة والمتفارقة! وإن كان يعترف في بيت تقريري بأن منظرها سمج في الحقيقة، لكنه يستقبله استقبالاً مفارقاً لما يناسبه إذ يستلذه! فيجمع بين نوافر الأضداد أيضاً. ويختم هذا المقطع بالتضاد أو التقابل الواضح بين حسن المنقلب لدى المسلمين، الذي جاء من سوء المنقلب لدى الروم.
وهكذا نرى أبا تمام قد أوغل في كتابة قصيدته من خلال ما أسمته البلاغة العربية الطباق، وبلغ في تعقيده، فتدرج إلى استخدام التناقض الظاهري paradox ثم إلى استخدام نوافر الأضداد.


واعتماد أبي تمام على فن المطابقة من البلاغة العربية أمر قد لاحظه القدماء، وعلله بعض المحدثين؛ فقد ذكر أستاذنا الدكتور شوقي ضيف:
(وإن من يدرس أبا تمام يرى هذه الأضداد متصلة بأخلاقه، فهو تارة كريم جداً، وتارة بخيل جداً، وهو تارة متدين وتارة ملحد مسرف في إلحاده)(24). فيعلل ولع أبي تمام بفن المطابقة في شعره بطبيعة أخلاقه القائمة على التضاد. أي أن بنية التضاد تعد أساساً لأخلاق أبي تمام وفنه على السواء.
ونضيف إلى ما قاله القدماء والدكتور شوقي ضيف التأكيد على أن هناك مصدراً مهماً نقترح إفادة أبي تمام منه- في هذا الصدد- بحكم ثقافته الواسعة (25) وبفعل الجو الديني الذي يتنفس فيه شعره في الجهاد الإسلامي، ذلك المصدر هو القرآن الكريم.
فقد استعمل القرآن الكريم- كما لاحظ البلاغيون القدماء ابتداء بابن المعتز ت 296هـ في كتاب البديع.. بصفة عامة الطباق. ونلاحظ أن هناك من السور المكية القصيرة التي تبدأ بالقسم سوراً اعتمدت بنية التضاد أساساً لمبناها يتغلغل خطابها على سبيل المثال: سورة الليل يقول الله سبحانه وتعالى:
والليل إذا يغشى/ والنهار إذا تجلى/ وما خلق الذكر والأنثى/ إن سعيكم لشتى/ فأما من أعطى واتقى/ وصدق بالحسنى/ فسنيسره لليسرى/ وأما من بخل واستغنى/ وكذب بالحسنى/ فسنيسره للعسرى/ وما يغني عنه ماله إذا تردى/ إن علينا للهدى/ وإن لنا للآخرة والأولى/ فأنذرتكم ناراً تلظى/ لا يصلاها إلا الأشقى/ الذي كذب وتولى/ وسيجنبها الأتقى/الذي يؤتي ماله يتزكى/ وما لأحد عنده من نعمة تجزى/ إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى/ ولسوف يرضى)
وفي هذه السورة الكريمة نجد أنفسنا إزاء ثنائيات متضادة متتابعة تشمل شتى المجالات:
1- من ظواهر الطبيعة: الليل × والنهار - يغشى × تجلى.
2- من البشر والخلق: الذكر × والأنثى.
3- من أعمال البشر: أعطى × بخل- اتقى × استغنى- صدق × كذب.
4- من حساب الله ومجازاته: الحسنى × العسرى- الآخرة × الأولى- سيجنبها الأتقى × يصلاها الأشقى.
وهكذا تتابع الثنائيات والمحصلة: أن تثبت الآيات الكريمة لله سبحانه وتعالى الخلق والأمر.
وتعمق التقابل بين الكفر والإيمان الذي هو قسمة طبيعية شأن الليل والنهار، وترتب على هذه القسمة في السلوك: الأشقى × والأتقى قسمة في الجزاء الجنة × والنار.
وهذه الثنائيات هي ما نلتقي به في سورة مكية قصيرة أخرى مبدوءة بالقسم أيضاً هي سورة الشمس: يقول الله تعالى:
(والشمس وضحاها. والقمر إذا تلاها. والنهار إذا جلاها. والليل إذا يغشاها. والسماء وما بناها. والأرض وما طحاها. ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها. كذبت ثمود بطغواها. إذ انبعث أشقاها. فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها. فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها. ولا يخاف عقباها.) صدق الله العظيم. فتطالعنا الثنائيات الآتية التي تتغلغل في أثناء الكون، ومجالات الخلق، والجزاء:
1- من ظواهر الطبيعة التي تشهد بوجود الخالق سبحانه ووحدانيته:
الشمس × القمر
النهار × الليل
السماء × الأرض
جلاها × يغشاها
وهذه القسمة تعادل القسمة إلى إيمان × وكفر، فمن السماء النور والهداية وعلى الأرض البشر والظلام، ولابد أن تتعانق السماء والأرض ليعم الخير ويتحقق مجتمع اللّه.
2- النفس البشرية التي سواها الخالق سبحانه:
فجورها × تقواها
دساها × زكاها
3- الجزاء والمحاسبة:
خاب × أفلح
4- مثال رجل السماء والهداية، ومثال رجل الأرض والضلال:
رسول الله صلى الله عليه وسلم × أشقاها
وهكذا تتتابع الثنائيات لتكون لها المحصلة السابقة نفسها من إثبات الخلق والأمر لله سبحانه وتعالى، وتعميق التقابل بين الكفر والإيمان على مستوى السلوك وعلى مستوى الجزاء على السواء.
وتتأكد من خلال تلك الثنائيات- القسمة الجديدة أو الثنائية الجديدة التي أتى بها الإسلام وهي الحياة الدنيا والآخرة التي ينقسم موقف الإنسان فيها ثنائياً أيضاً إلى مؤمن وكافر، فينقسم جزاؤه تبعاً لذلك إلى الجنة والنار. هذه الثنائيات الإسلامية: الدنيا × الآخرة، الكافر × المؤمن، الجنة × النار، قسمة جديدة على عقل العربي الجاهلي الذي لم يكن يعرف سوى قسمة ثنائية واحدة هي الحياة × الموت فقط.
وحري بنا- ونحن ندرس شعر الجهاد الإسلامي الذي يتضمن هذه القسمة الإسلامية الجديدة أن نعقد الصلة بينه وبين القرآن الكريم الذي أتى بهذه القسمة التي تمثلها
الشاعر الإسلامي الحقيقي وأقام تفكيره الفني وفق معطياتها.
يرشح لهذه النتيجة ما سنذكره الآن من تمثل أبي تمام- في هذه القصيدة للتفسير الإسلامي للتاريخ الذي أتى به القرآن الكريم.

****

بدر من أبي تمام في قصيدته البائية التي ندرسها هنا، ما يمكن أن نعده تفسيراً للواقعة التاريخية أو الحدث التاريخي وبياناً لمكوناتهما أو عناصرهما.
من ذلك قوله:

لو يعلمُ الكفرُ كم من أعصُرٍ كمنت ….. له العواقبُ بين السُّمر والقُضُبِ
تدبيرُ معتصمٍ باللهِ منتقم ….. لله مرتقب في الله مرتغبِ
ومُطعم النصر لم تكهم أسنتهُ ….. يوماً ولا حُجبت عن روحِ مُحتجبِ
لم يغزُ قوماً ولم ينهد إلى بلد ….. إلا تقدمه جيشٌ من الرعبِ
لو لم يقد جَحفلاً يوم الوغى لغدا ….. من نفسه وحدها في جحفلٍ لجبِ
رمى بك اللهُ برجيها فهدّمَها ….. ولو رمى بك غيرُ اللهِ لم يصبِ
من بعد ما أشبوها واثقينَ بها ….. واللهُ مِفتاحُ بابِ المعقلِ الأشبِ
إن الحمامين من بيضٍ ومن سُمُرِ ….. دلوا الحياتين من ماءٍ ومن شجرِ
عداك حَرُّ الثغورِ المستضامةِ عن ….. بردِ الثغورِ وعن سلسالها الحصبِ
أجبته معلناً بالسيف منصلتاً ….. ولو أجبتَ بغيرِ السيف لم تجبِ
حتى تركتَ عمودَ الشركِ مُنعفراً ….. ولم تُعرجْ على الأوتادِ والطنبِ
لما رأى الحربَ رأي العينِ توفلس ….. والحربُ مشتقة المعنى من الحربِ
غداً يصرفُ بالأموالِ جريتها ….. فعزه البحرُ ذو التيار والحدبِ
هيهات زُعزِعت الأرضُ الوقورُ به ….. عن غزو محتسبٍ لاغزو مكتسبِ
ولّى وقد ألجمَ الخطىُّ منطقَهُ ….. بسكتة تحتها الأحشاءُ في صخبِ
أحذى قرابينه صِرفَ الردى ومضى ….. يحتثُ أنجى مطاياه من الهربِ
موكلاً بيفاعِ الأرضِ يشرفه ….. من خِفةِ الخوفِ لا من خِفةِ الطربِ
خليفةَ اللهِ جازي اللهُ سعيكَ عن ….. جرثومةِ الدينِ والإسلامِ والحسبِ
بَصُرتَ بالراحة الكبرى فلم ترها ….. تُنَالٌ إلا على جسر من التعبِ
إن كان بين صروفِ الدهرِ من رحمٍ ….. موصولةٍ أو ذمامٍ غيرُ منقضبِ
فبين أيامكِ اللاتي نُصرتَ بها ….. وبين أيامِ بدرٍ أقربُ النسبِ

ونقف أولاً عند تفسيره للحادثة التاريخبة فنراه تفسيراً إسلامياً للتاريخ تبدو ملامحه منذ البيت الأول الذي تحدث فيه عن عاقبة الكفر التي كانت حتمية وإن تأجلت. والبيت الثاني الذي يجعل المعتصم بالله يدبر من أجل أن ينتقم من الروم بالله ولله، يراقب الله ويرجو ما عند الله.
وفي البيت الثالث تحدث عن انتصار المعتصم الذي يتم في إطار من رزق الله ومشيئته فهو (مُطْعَم النصر) بصيغة اسم المفعول أي مرزوقه من الله سبحانه وتعالى الذي جاهد المعتصم في سبيله كما بدا من البيت السابق. وقوله (مطعم النصر‎) في سياق الجهاد في سبيل الله يمكن أن يمثل تناصاً مع سياقات قرآنية متعددة، منها قول الله تعالى: " قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم " الأنعام 14.
وقوله تعالى- على لسان إبراهيم عليه السلام- "الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين" الشعراء79. حيث يرد في الآية الأولى الإطعام مسنداً إلى الله الخالق مرتبطاً بالنصر وفي الثانية يرد مرتبطاً بالهداية.
وفي البيت الرابع يحدث الشاعر تناصّاً مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم (نصرت بالرعب- وفي رواية: مسيرة شهر) (26). ولا يفعل الشاعر ذلك من قبيل المبالغات في المدح التي يتوهمها بعض قراء الشعر ويهربون إلى القول بها عندما يعجزون عن استكناه أسرار الشعر، وإنما هي تعبير فني نراه متساوقاً مع ما سيعقده الشاعر من صلة بين هذه الغزوة وبين غزوة بدر الكبرى التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بما تشعه من دلالات روحية ثرة تكتسبها موقعة عمّورية من خلال هذا الاقتران.
وفي البيت السادس تناص آخر مع آية قرآنية كريمة هي قول الله تعالى: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " الأنفال 17. ويقصد الشاعر من وراء هذه العلاقة مع نص الآية الكريمة أن يظهر عمل المعتصم هذا من خلال مشيئة الله سبحانه وتعالى، الأمر الذي يزيد معنى توفيق الله له ويقترب في هذا البيت من معنى التسليط الذي تذكره الآية الكريمة (ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شىء قدير) الحشر 6. وورد أيضاً في قوله تعالى (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) النساء 90.
ويكرر الشاعر في البيت السابع إسناد الفتح إلى الله سبحانه، ولم يبق أبو تمام للمعتصم من دور يمدح به أو من معنى مدحي يخص ذاته سوى قوله:

لو لم يقْد جحفلاً يومَ الوغى لغدا ...... من نفسَه وحدها في جحفلٍ لجبِ

وعندما أراد أن يثبت له أنه من نفسه ورباطة جأشه في جحفل، جاء نفيه- في مطلع البيت- بعد الشرط مثبتاً أنه كان يقود في هذه المعركة جحفلاً حقيقياً. كما أن الشاعر لما أراد أن يظهر المعتصم ممدوحاً بشخصه دون جيشه فذكر أن غزوه غزو محتسب لا غزو مكتسب جاء قوله (غزو محتسب) يظهر المعتصم من خلال معان روحية، تنكر فيها الذات احتساباً وتتلاشى وسط التماس الأجر من الله. بخلاف غزو المكتسب الذي تظهر فيه ذاته الأنانية ذات البطولة المستعلنة التي تحاول الكسب المادي. ولما حاول الشاعر أن يؤكد المعنى المدحي السابق وأن يظهره في سياق حكمة عامة جاء قوله يدمج شخصية المعتصم في شخصية جنوده ويذيبها فيها بدلاًمن أن يكرس تمييزه وذلك في قوله التالي:

إن الأسودَ أسودَ الغيلِ همتُها يوَم الكريهةِ في المسلوبِ لا السلبِ

مما يرجح لدينا انشغال الشاعر بمعاني الجهاد والفتح قبل انشغاله بمعاني المدح وشخصية الممدوح.
هذا مع ملاحظة أن استطراده لذكر شخصية ملك الروم الذي يستكمل به عناصر الواقعة التاريخية أو ملامح المعركة، والذي استخدم فيه مقدرته التصويرية لرسم صورة كاريكاتيرية مضحكة وساخرة لملك الروم، هذا التصوير- أظنه- يخدم شخصية المعتصم ويرسم أشياء من ملامحها عن طريق تقديم النموذج السلبي أو النموذج الضد، ولكن هذه الملامح المستخلصة تخدم الجانب الإنساني من شخصية المعتصم قبل أن تخدم الجانب البطولي منها، وتعلي من قيم الجهاد الإسلامي فالمعتصم يحتسب جهاده لا يكتسب به في مقابل ملك الروم الذي يفرق الأموال ليحفظ نفسه وينجو بها. وإذا كان ملك الروم يضحي بجنده بل بأخلص المقربين إليه، فإن المعتصم مع جنوده يحافظ عليهم ويقاتل بهم، وهمهم العدو لا الغنائم.
ثم يعود ليؤكد إسلامية هذه الغزوة، فالمعتصم (خليفة الله) ينفذ مشيئته وجهاده سعي مشكور يدافع به عن الدين والإسلام، وكذلك عندما يجعل بين هذه الغزوة لعمّورية، وغزوة بدر صلة رحم ونسب، والإسلام يؤكد على أهمية صلة الرحم ويدعمها. ويلاحظ أن الشاعر في كل القصيدة وفي البيت الأخير:

فبين أيامكَ اللاتي نُصرتَ بها ......وبينَ أيامِ بدرٍ أقربُ النسبِ

على وجه الخصوص يبدو أبو تمام مقتصد اً في أوصاف المدح مغايراً لمألوف الشعراء في المبالغة، فلا ينسب إلى المعتصم النصر أو يجعله من عند نفسه، بل يجعله من عند الله سبحانه وتعالى. مما يؤكد ما قررناه من قبل من التزامه التفسير الإسلامي للتاريخ الذي لايغفل الجانب الغيبي بل يقدره حق قدره، ويبرز عمل الإنسان وجهده واضحاً من خلال مشيئة إلهية كلية سابقة وشاملة ونافذة وعلم رباني لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. يتجلى هذا المعنى للتفسير الإسلامي للتاريخ (27) من خلال آيات قرآنية كريمة متعددة منها قوله تعالى: " لقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه " آل عمران 152
وقوله تعالى " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين" الحشر2.
وقوله تعالى: " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين " التوبة 11. إلى آخر هذه الآيات الكريمة التي تبدو فيها إرادة البشر متضمنة في إرادة إلهية أشمل في تناسق تام. ومما سبق يبدو لنا أبو تمام من خلال هذه القصيدة شاعراً إسلامياً حقيقياً يستقي من القرآن الكريم أدواته الفنية التي يشكل بها تجربته الشعرية متمثلة في بنية التضاد، كما يستمد من القرآن الكريم رؤيته في تفسير التاريخ.
بقلم صالح الزناتي


"البخلاء" هو الكتاب الذي صور فيه الجاحظ البخلاء الذين قابلهم وتعرفهم في بيئته خاصة في بلدة مرو عاصمة خراسان.

ويوضح د. نظمي خليل أبو العطا في كتابه الجديد أن الجاحظ صور البخلاء تصويراً واقعياً حسياً نفسياً فكاهياً, فأبرز لنا حركاتهم ونظراتهم القلقة أو المطمئنة ونزواتهم النفسية، وفضح أسرارهم وخفايا منازلهم واطلعنا على مختلف أحاديثهم، وأرانا نفسياتهم وأحوالهم جميعاً، ولكنه لا يكرهنا بهم لأنه لا يترك لهم أثراً سيئاً في نفوسنا.

من محتوى الكتاب يعرض د. نظمي لبعض النماذج منها:

1ـ ديكة مرو البخيلة:

قال ثمامة: لم أر الديك في بلدة قط إلا وهو لافظ، يأخذ الحبة بمنقاره، ثم يلفظها قدام الدجاجة، إلا ديكة مرو، فإني رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحب قال: فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد , وفي جواهر الماء، فمن ثم عم جميع حيوانهم.

2ـ طفل مرو البخيل:

عندما سمع أحمد بن رشيد حديث ديكة مرو البخيلة من ثمامة قال: كنت عند شيخ من أهل مرو. وصبي له صغير يلعب بين يديه، فقلت له: إما عابثاً وإما ممتحناً: أطعمني من خبزكم، قال: لا تريده هو مر، فقلت: فاسقني من مائكم، قال: لا تريده هو مالح. قلت: هات لي من كذا وكذا قال: لا تريده هو كذا وكذا. إلى أن أعددت أصنافاً كثيرة كل ذلك يمنعنيه ويبغضه إليّ فضحك أبوه وقال: ما ديننا؟ هذا من علمه ما تسمع؟ يعني: أن البخل طبع فيهم وفي أعراقهم وطينتهم.

3ـ معاذة العنبرية وشاتها الاقتصادية:

قال شيخ: لم أر في وضع الأمور مواضعها وفي توفيتها غاية حقوقها، كمعاذة العنبرية. قالوا: وما معاذة هذه؟ قال:

ـ أهدي إليها العام، ابن عم لها أضحية، فرأيتها كئبة حزينة مفكرة مطرقة، فقلت لها: مالك يا معاذة؟ قالت: أنا امرأة أرملة، وليس لي قيم ( أي: من يقوم بأمرها )، ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي، وقد ذهب الذين كانوا يدبرونه ويقومون بحقه، وقد خفت أن يضيع بعض هذه الشاة، ولست أعرف وضع جميع أجزائها في أماكنها، وقد علمت أن الله لم يخلق فيها ولا في غيرها شيئاً لا منفعة فيه. ولكن المرء يعجز لا محالة. ولست أخاف من تضييع القليل إلا أنه يجر إلى تضييع الكثير.

ـ أما القرن فالوجه فيه معروف، وهو: أن يجعل منه كالخطاف ويسمر في جذع من أجذاع السقف فيعلق عليه الزبل ( السلة )، والكيران، وكل ما خيف عليه من الفأر والنمل والسنانير وبنات وردان ( الصراصير )، والحيات وغير ذلك وأما المصران فإنه لأوتار المندفة، وبنا إلى ذلك أعظم الحاجة.

وأما قحف ( العظم فوق الدماغ ) الرأس والليحان وسائر العظام فسبيله أن يكسر بعد أن يعرق، ثم يطبخ فما ارتفع من الدسم كان للمصباح وللإدام وللعصيدة ولغير ذلك، ثم تؤخذ تلك العظام فيوقد بها، فلم ير الناس وقوداً قط أصفى ولا أحسن لهباً منه وإذا كانت كذلك فهي أسرع للقدر لقلة ما يخالطها من الدخان وأما الإهاب فالجلد نفسه جراب وللصوف وجوه لا تعد. وأما الفرث ( أي: الزبل ) والبحر فحطب إذا جفف عجيب.

ثم قالت: بقي الآن علينا الانتفاع بالدم، وقد علمت: أن الله عز وجل لم يحرم من الدم المسفوح إلا أكله وشربه. وأن له مواضع يجوز فيها ولا يمنع منها وإن لم أقع على علم ذلك حتى يوضع موضع الانتفاع به، صار كية في قلبي وقذى في عيني وهما لا يزالان يعوداني.

قال: فلم ألبث أن رأيتها قد تطلقت وتبسمت فقلت: ينبغي أن يكون قد انفتح لك باب الرأي في الدم. قالت: أجل ذكرت أن عندي قدوراً شامية جدداً. وقد زعموا: أنه ليس شيء أزيغ ولا أزيد في قوتها، من التلطيخ بالدم الحار الدميم، وقد استرحت الآن، إذ وقع كل شيء في موقعه.

قال: ثم لقيتها بعد ستة أشهر، فقلت لها: كيف كان قديد تلك؟ قالت: بأبي أنت! لم يجيء وقت القديد بعد لنا في الشحم والإلية والجنوب والعظم المعرق وفي غير ذلك معاش ولكل شيء إبان.

4ـ يسمعون بالشبع ويتهمون بأكل الهاضمات:

قال الجاحظ: وحثني أبو الأصبغ بن ربعي قال: دخلت عليه بعد أن ضرب غلمانه بيوم، فقلت له: ما هذا الضرب المبرح، وهذا الخلق السيىء؟ هؤلاء غلمان، ولهم حرمة وكفاية وتربية، وإنما هم ولد هؤلاء كانوا إلى غير هذا أحوج.

ـ قال: إنك لست تدري أنهم أكلوا كل جوارشين. ( بضم الجيم ـ أي: الأدوية الهاضمة ) كان عندي.

ـ قال أبو الأصبع: فخرجت إلى رئيس غلمانه فقلت: ويلك!! مالك وللجوارشن وما رغبتك فيه؟ قال: جعلت فداك: ما أقدر أن أكلمك من الجوع إلا وأنا متكىء، الجوارشن ماذا أصنع به؟ هو نفسه ليس يشبع، ولا يحتاج إلى الجوارشن ونحن الذين إنما نسمع بالشبع سماعاً من أفواه الناس، ما نصنع بالجوارشن.

5ـ ليلى الناطعية ولبس المرقع:

ـ ما زالت ليلى الناطعية ترفع قميصاً لها وتلبسه، حتى صار القميص الرقاع، وذهب القميص الأول، ورفت ( أصلحت ) كساءها ولبسته، حتى صارت لا تلبس إلا الرفو، وذهب جميع الكساء وسمعت قول الشاعر:

البس قميصك ما اهتديت لجيبه فإذا أضلك جيبه فاستبدل

6ـ فقالت: إني إذاً لخرقاء، أنا والله أحوص ( أخيط ) الفتق وفتق الفتق وأرقع الخرق وخرق الخرق.

7ـ البخيل بالبخور:

قال بخيل: حبذا الشتاء فإنه يحفظ رائحة البخور، ولا يحمض فيه النبيذ إذا ترك مفتوحاً، ولا يفسد فيه مرق إذا بقي أياماً، وكان لا يتبخر إلا في منازل أصحابه، فإذا كان في الصيف دعا بثيابه فلبسها على قميصه لكيلا يضيع من البخور شيء.

8ـ وقيل لبخيل: قد رضيت بأن يقال: عبد الله بخيل.

قال: لا أعدمني الله هذا الاسم.

قلت: كيف؟.

قال: لا يقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال، فسلم إلي المال، وادعني بأي اسم شئت.



السبت، أكتوبر 25، 2008

قرائة في مستوى بناء النّص المسرحي:الإشارات الرّكحيّة....

بقلم صالح الزناتي



لتناول هذا الجانب لابدّ من طرح السّؤال التّالي :
مالفرق بين الإشارات التّي تتصدّر الحوار والإشارات التّي تتخلّل الحوار ؟
عادة ماتكون الإشارات المتصدّرة للحوار ذات قيمة ترسيخيّة أي أنّها تلعب دورا تأطيريّا حيث تقوم بوضع القارئ في الفضاء العامّ للمسرحيّة
(النّص الأوّل من المسرحيّة:"نحن في مقهى شعبي ... ثمة عدد من الزبائن يتفرقون على المقاعد المبعثرة في أرجاء المقهى ... معظمهم يدخنون النرجيلة ويشربون الشاي ... وبينهم يروح الخادم ويجيء حاملا صواني الشاي والقهوة ... إنه لن يتوقف عن الرواح والمجيء طوال السهرة . يسيطر على المقهى جو من التراخي والفوضى الشعبية . وتسود ضجة الكلام مختلطة بقرقرة النراجيل ، وبأغان تنبعث من راديو عتيق في المقهى . الأغاني تلعب دورا هاما في تهيئة الجو لبدء المسرحية . إنها ستتيح لنا الفرصة لتحقيق التآلف الذي يمهد للبدء بحكاية السهرة . ينبغي أن يحس المتفرجون بنوع من الاسترخاء ، وربما الطرب ، شأنهم في ذلك شأن زبائن المقهى . وكما قلت في الملاحظات السابقة ، ليست هناك ساعة معينة للبدء . فالأغاني التي تذاع يمكن أن تطول فترتها أو تقصر حسب تقدير العاملين في المسرحية . كذلك يتم اختيار هذه الأغاني في زمن تقديم العمل ، ووفقا للظروف التي يقدم فيها.)
بينما الإشارات التّي تتخلّل الحوار تنهض بوظائف أخرى عديدة لا يسعنا أن نعرض لذلك من وجهة نظريّة وإنّما نشيرفقط إلى أهمّ مايمكن أن نشير إليه ، إنّها يمكن أن تكون من النّاحية الشّكليّة إمّا معارضة للرّد( أي مستقلّة عنه) أو شبه مستقلّة عن الرّد أو مكمّلة للرذّ.
وإن نحن تأمّلنا الإشارات الّتي تتخلّلل النّص سنجدها منقسمة إلى جزئين حسب الوّظائف التّي تسند إليها:
الجزء الأوّل أو الوظيفة الأولى متمثّلة فب الإشارات الرّكحيّة المتخللّة للحوار تلعب نفس الدّور والوظيفة الموكّلة لتك التّي ترد متصدّرة للحوار، فإن نحن تأمّلنا الإشارات الرّكحيّة التّي تتخلّل النّص الأوّل من المسرحيّة الوارد في الكتاب المدرسي بعنوان " في إنتظار العمّ مونس "والّذي قدّمتها آنفا -("نحن في مقهى شعبي.............ووفقا للظروف التي يقدم فيها.")- لم نتبيّن فرقا جوهريّا بينها وبين تلك المتصدّرة للمشهد فهي تكررّ أوتفصّل بعض ما جاء في الإشارات المتصدّرة للمشهد من الجهات التّالية :


مايدرك بالسّمع:من هذه الإشارات مايركّز على حالة الفوضى أو شبه الفوضى السّائدة في المقهى ، ثمّ هناك إشارة إلى قرقرة النّراجيل وكذلك بعض الأحاديث الجانبيّة والتّي لانتبيّنها، فهذا الذّي يدرك بالسّماع يوحي بجوّ من الفوضى كما ورد ذلك في تلك الإشارة المتصدّرة للمشهد .
وأمّا مايدرك بالعين أيضا يلخّص ماورد في الإشارة المتصدّرة للمشهد : حيث تجسّدت لنا حركات الزّبائن ، هذه الحركات جماعها تلبية الدّعوة وحركة النّادل الّذي يقوم بإحضار الشّاي والنّرجيلة .
على كلّ حال ما تمّ تفصيله هو حالة خاصّة فرضته علينا طبيعة النّص الاوّل ، وعموما أهمّ إستنتاج نخرج به أنّه لافرق بين تلك الإشارات المتصدّرة للحوار أو الأخرى المتخللّة له حيث كان للأخيرة أن قامت بعمليّة تفصيل لماورد بالمتصدّرة للحوار ، وهذه الحالة ستتكرّر في بعض المواصع الأخرى من المسرحيّة على غرار النّص المعنون ب"المصير الفاجع" ولكن الإشارات المتخللّة للحوار في ذلك النّص ستقوم بتفصيل ماورد في الأقسام السّرديّة الواردة على لسان الحكواتي .
وهنا لايسعنا إلاّ العودة إلىالجزء الثاني من وظيفة الإشارات الرّكحيّة المتخلّلة لحوار وذلك سواءا كانت متخلّللة إيّاه أم في نهايته...فهي في مجملها تضفي عنصر الفرجة في المسرحيّة وتجعل منه عملا مسرحيّا في أتمّ المعنى في شكله المؤلّف، وهي ككلّ إشارات تقوم بوصف حالة الممثّل في المساحتين أثناء مبادرته بالحوار ، سواءا كان ذلك وصفا لملامحه الخارجّية الجسديّة الحسيّة أم الأخرى النّفسيّة .
كما تظطلع بدو أخر متمثّل في تحديد الفضاءاتالتّي تجري فيها الأحداث من ذلك مشهد الدّيكور الّذي يحمله الممثّلين الّذي يجسّد بلاط الوزير

*دورها في بناء المسرحيّة:
جسّدت الإشارات الرّكحيّة الحركات الحسّية والنّفسيّة للشّخصيّات كما رسمت الأطر المكانيّة لفضاء الأحداث وفقا لقاعدة وصفيّة عريضة تتناول كلّ الجزئيّات ، كما كان لها أن حملتنا ضمن سياقات تارخيّة هامّة وحطّات لامعة من مسيرة عروبتنا الماضية من ذلك بلاط الخليفة والوزير حيث هذا المشهد في أصله عائد بنا إلى عهد الخلافة العبّاسيّة في القرن السّابع للهجرة........

والمفيد والمهمّ بالنّسبة للإشارات الرّكحيّة ، لنا نحن التّلاميذ تحليلها وفقا لمنطلقات متعدّدة ولكن شريطة أن تكون قاعدتنا في ذلك
المنطقيّة والبراهين الصّحيحة والواضحة ، وقبل أن أختم مداخلتي لايسعني إلاّ أنّ أذكّر أنّ الإشارات الرّكحيّة من زاوية أصلها إنّما هي عائدة إلى طرفين أساسيّن في عمليّة الإخراج والتّأليف ، فالمخرج يختصّ بوضع الملامح النّهائيّة للمشهد ، والمؤلّف أثناء نقله للمسرحيّة لايسعه أن ينقل ملامح الممثّلين في المساحتين سواءا كانت نفسيّة أو جسديّة إلاّ عن طريق تدوينها في شكل مقاطع سرديّة طويلة أم قصير وترد في نصّ المسرحيّة باللّون الدّاكن بين معقّفين.

السبت، أكتوبر 11، 2008

الوجود الجميل إلى إستطيقا الوجود

بقلم صالح الزناتي

إن الانشغال بالمسألة الجمالية عموما ، يدخل في صلب العمل الفلسفي. إذ أن مسالة الجميل طرحت منذ البدايات الأولي في المتن الفلسفي، بل أن التفكير في سؤال ما الجميل؟ قد انطبع بحدود الأنساق الفلسفية وبإكراهاتها النظرية الصارمة، إذ أن اللغوس أعلن أوليته وإطلاقيته علي حساب الأنظمة الأخرى فاعتبرها في كل الحالات دون المقتضي الأساسي للتجربة الفلسفية، وهو ما كان يقوي العلاقة المتناقضة بين الجميل والحقيقي ومن ذلك بين الفنان والفيلسوف.

إن الفنان بالنسبة لأفلاطون مثلا ، لا يفعل شيئا آخر غير أنه يحاكي الجمال الطبيعي الذي هو بدوره محاكاة لمثال الجمال، إذا الفن بالنسبة له محاكاة للطبيعة التي تحاكي مثال الأشياء، ومثال ذلك فكرة السرير التي يأخذها الحرفي قانونا لصناعة السرير ويخلق عندها السرير المحسوس والمادي أما الفنان فهو يحاكي هذا السرير المحسوس الذي حققه الحرفي، سرير هو ذاته نسخة.وهكذا يأتي الفن في المرتبة الثانية من النظام الأنطلوجي فهناك أولا الفكرة ، ثم الأشياء وأخيرا الإبداعات الفنية. وينطبع هذا الموقف ليعطي للجمال الفني البعد الذي يفصله عن ما هو حقيقي ، بل ليس إلا صورة وهمية تبتعد بنا عن ما هو كلي وأصلي ما دام يتورط في بعد مادي / حسي. إن الجميل لا يكون جميلا إلا بالجمال ، والجمال لا يكون في الأشياء ولا في الأشياء الفنية بل في عالم المثل باعتباره عالم حقيقي وجميل وخير، لذلك يميز أفلاطون بين الجمال في التجربة الحسية المباشرة باعتبارها صفة نحملها عن الكائنات والأشياء ويعتبره ظاهرا ليس إلا انعكاسا للجمال في ذاته أو لمثال الجمال، بحيث لا تكون الأشياء المحسوسة جميلة إلا بمشاركتها في مثال الجمال، ذلك أن فكرة الجمال أرقي من الانشراح الذي تسببه الأشياء الجميلة المحسوسة. إن أفلاطون يؤسس نظرية موضوعية للجمال ، إذ يبين في محاورة " المأدبة" كيف يمكن أن نرتقي من الرغبة في الأجسام الجميلة إلي حب الأنفس الجميلة، حتى ننتهي إلي تأمل الجمال في ذاته، وهو ما يقتضي ضرب من التدريب يرتقي من التطهير إلي الارتقاء وأخيرا التأمل، يعطي هذا التدريب شكلا جدليا صاعدا في اتجاه ما هو مطلق. إن أفلاطون يضحي بالفن والفنان من أجل طلب الكلي والمطلق الذي يعجز الفن عن استقدامه إلا بضرب من التشويه وخرقا للجمالية الحقيقية ولذلك يكون المطلب أساسيا في تحرير اللوغوس الفلسفي من كل محاكاة وفرار من ما حسي استعداد بالإنسان إلي مغامرة الوجود الحق والخير والجميل الذي لا يتأسس إلا بالتأمل وليس بالمحاكاة.

إن مثل هذا الفصل بين الجميل والحقيقي ، نجد صداه أيضا في تاريخ الفلسفة . إذ رغم الإجراء الإشكالي الذي حرر الأثر الفني من كل محاكاة واعتباره أثرا قائما بذاته يتعرف من خلاله الفنان على قدرته على الخلق والإبداع. فالأثر الفني بالنسبة لهيجل ليس إلا تعبيرا عن ما يتمثله الإنسان في صيرورة علاقته البحثية عن المطلق الذي لا يكون مطلقا في كمال كلي ومتعال ومنذ البدايات الأولي بل مطلق لا يكون إلا مجموع الوساطات التي يتوسط بها ذاته والعودة إلى ذاته أكثر بهاءً وجمالا. إن المطلق هو الشغل الشاغل للفيلسوف أما أمر قوله ضمن التجربة الفلسفية لا يكون يقينا ذاتيا أو إملاء أخلاقيا ولا تجربة فنية ، بل استنباطا من أنصاف الحقائق التي تورط فيها هذا المطلق وضاع فيها. إن الفن هو أحد هذه الأشكال التاريخية التي تعبر عن المضامين الحقيقية للحق وهو يبحث عن ذاته، في شكله البدئي الذي يتحول من الفن الرمزي إلي الفن الكلاسيكي إلى الفن الرومانسي الذي لا يبلغ المطلق إلا وهو متعلقا بشكل حسي يرتهن فيه ويتكسر علي حدوده. ولذلك فإن الأثر الفني يكون لا محالة تعبير عن الفكر وفي ذلك رفعته ولكن الفكر لا يكون متصالحا مع ذاته بل مجسدا فيما هو حسي وفي ذلك نقصانه. إن الجميل الفني جميل أرقي لا محالة من الجمال الطبيعي لأنه انعكاس للعمل الدؤوب في محاولة ترويض المطلق بالنسبة للإنسان. فهو شاهد علي أن الإنسان كائن كلي ، يعين فكره بنحو كلي، أي مفصولا عن كل وعي مباشر ، جزئي ولكن الأثر الفني يكون شاهدا أيضا علي ما لا يستطيعه الفنان من جهة إمكان هذا الكلي الذي يتمثله تمثلا أنانيا وحسيا فيختفي الكلي ويعجز الفنان في الإقبال عليه بنحو جميل.

إن الانخراط بالأثر الفني، في الصيرورة التمثلية لتكوينية الذات في البحث والتعبير عن ذاتها، هو ما يفتح للفن علاقة بالموجود والوجود، هي تلك العلاقة التي من خلالها يسعى الفنان إلى حمل الوجود ببصمته الذاتية وقدرته على اختراعه بنحو يشهد علي فعاليته التمثلية فيما هو متمثل، ولا يكون التمثل ممكنا إلا من خلال تلك الإضافة التي يمنح فيها الفنان للأشياء الحسية أبعادا تفصلها عن وجودها المباشر لترتقي بها إلي مطلب ما هو كلي وكوني . إن الجميل استقبال للكوني وللمطلق وبذلك يفتح هيجل مهمة الفنان والفن علي ما هو مطلق ، وهي المهمة التي سرعان ما يتراجع عنها،إذ أن المطلق لا يرقص إلا علي كماله الذاتي في تطابقه مطلقا مع ذاته ولا يكون ذلك إلا داخل المحراب الفلسفي وليس تحت ريشة الفنان أو سحر كلمات الشاعر كأشكال تخيلية لهذا المطلق. إن الفن إذا ليس إلا مجرد واسطة من أجل بلوغ هذا الارتقاء إلي ما هو فلسفي مطلق أي حقيقي ومعقول في تطابقه مع ما هو واقعي.إن واقعية الفن هي من جنس هذه الواقعية الناقصة ، أي واقعية تنحو إلي التعبير عن الواقع ولكنها تفشل في ذلك فيكون الفن ساعتها إنفصال عن حقيقة هذا الواقع إلي واقع خيالي يشهد بفشل الفنان والفن في التصالح مع الواقع الفعلي والحقيقي. إن هيجل يضحي مرة أخري بالفن علي مذبح الضرورة المنطقية لاكتمال النسق الفلسفي.

إن ربط الفن بالتمثل يحرره لا محالة من النظرة الأفلاطونية ولكنه أوقعه في أسر الفكرة وصيرورتها ليجعل الفنان مجرد شاهدا عليها وكان التجربة الإنسانية هي تجربة فكرية / تمثلية فحسب؟ وكان التمثل والتمثيل هو علاقة ما بالحقيقة . إن اختبار الإنسان خارج هذه التجربة التمثلية ، تكشف أن الإنسان أكثر بكثير واقل بكثير من ذلك، لأن الإنسان ليس هو ما يتمثله عن ذاته بل هو ما يكون ملقي به في العالم وفي الوجود بدون عون أي بدون واسطة سوي السلطوية منها.فهو خاضع إلي إستراتيجية سلطوية ، تتغلغل في قواه ضمن المفاعيل التي لا تفصله عن ذاته فحسب بل تخنق فيه الحق في الحياة ، في الجسد ، في الاختلاف لتحكم قبضتها عليه فتصيره ضمن قوة واحدة هي قوة إنتاج وإعادة إنتاج لما يجب قوله ولما يجب أن يراه. إن هذه الحاكمية وهذه الإستراتيجية الميكروفزيائية تكشف عن وهم التمثل والتمثيل وعن وهم الكلي عندما نرصده قضايا كلية، نبحث عنها في الماوراء أو في الإنسان أو في النزعات الإنسانية التي تتخذ من الكلي محطة يصلها الإنسان وفيها مقره ولكن بها موته أيضا. إن الكلي ليس في الذهن ولا في التاريخ ، لأن التاريخ لا ينشر عقلا ومعقولا، ولا هو بلورة لتمثل متمثل، بل هو مجموع الحيل والمفاعيل العرفانية ، السلطوية التي تزيف،وتسير ، تفصل وتصل ضمن أبعاد لا تعني الكلي ولا حتى الإنسان ولا الحقيقة والحق بل تعني السلطة مما يجعلها تمارس بما يقويها كسلطة تمارس من أجل خلق شروط الحياة كشرط جنائزي. إن ما تقوم به السلطة أمر يهم السلطة حتي تكون سلطة حيوية ، تتمفصل عبر قوي الفرد فتكون الأقوى لأنها الأقدر على الإخضاع والفصل أي على تفعيل إستراتيجيتها الحربية في النشر والانتشار والتحكم و التموقع بل لا يكون كل ذلك ممكنا إلا عبر وسائطها الحيوية .إن السلطة حيوية لأنها ليست فكرة ، ولا تمثلا، ولا تصورا ولا مفهوما بل هي مواقع ، أي مؤسسات وخطابات مرئيات ومنقال. إزاء هذا التفطن الذي جعل من ميشال فوكو يطرح السؤال : كيف يمكن مواجهة السلطة؟ أي ماذا يجب أن ننتظر من المثقف اليوم من دور إزاء هذه الإستراتيجية السلطوية؟هل ننتظر درسا في الخلاص؟ أم درسا في الحقيقة ؟ أم درس في المقاومة ؟

إن المقاومة ليست درس بل تموقع في كل مواقع السلطة وهي أيضا ليست فكرة بل فضح لأرشيف السلطة أي تموقع في وثائقها في سنداتها ومستنداتها ونشرها علي الملأ. إن التموقع فكر لا ينهض ليكون بداهة أو مطلق أو حضور تمثلي ولا هو انكشاف بل هو اشتباك أي مقاومة والتي تعني فك الارتباط أو فصل يخلق فضاءً ويخلق تفكيرا . إن المقاومة تتخذ شكلين - الحق في الاختلاف من أجل الحق في التنوع -الابتعاد عن كل دمج حتى تصبح الحياة حضورا جسديا في العالم. إن علاقة الذات بالذات هي مصدر للمقاومة ولذلك فإن المقاومة بالنظر لفوكو تعني الانثناء علي الخارج وخلق ثغرات في استراتيجية السلطة . لم يعد النضال يفهم أو يترقب إمبراطور الفقراء ولا ملكوت الآخرة ولا حتى عودة العدل بل يقوم مقام الهدف الواضح هو الحياة المفهومة كحاجات أساسية كاكتمال للحسي وللجسد :انجاز لإمكانات وككمال للممكن أي الحق في الحياة بجعلها أرضية للمقاومة بفك مراقبة السلطة عليها أي الحق في الجسد ، في الصحة أي في السعادة وأن يكتشف الإنسان ذاته ويتجاوز كل ما يمكن أن يكون اضطهادا واعتقال للحياة هو الفعل الجميل بحق. جمالية ترتقي إلي "فن إدارة الذات " تلك هي المقاومة وذلك هو طريق الجمالية عندما ينقطع الوجود عن التمثل وعن مطلب الكلي ليتعين مقاومة تخلق اشتباكا ربما يقتضي تأويلها كإتيقا للمشكل و لما هو إشكالي.

صناعة المسرحية عند سعد الله ونوس

بقلم صالح الزناتي


صناعة المسرحية عند سعد الله ونوس , قراءة في المدخل والإشارات الركحية
من خلال " مغامرة رأس المملوك جابر "
نور الدين بن حميده

يشترك مسرح سعد الله ونوس مع رؤية بريخت المسرحية في جملة من المبادئ أهمها المباعدة و الإغراب
المباعدة وهي ألا يندمج الممثل في الدور و كذلك المشاهد الذي يجب أن يكون يقظا و حاضرا طوال العـرض وأن يدرك أن ما يراه تمثيل و ليس حقيقة و ألا يكون موقفه إندماجيا بل موقف المفكر و المتأمل. فمطلوب من الطرفين ألا يتماهيا مع ما تعيشه الشخصية.
الإغراب وهو تحويل ما هو عادي عند المتفرج إلى غير عادي لخلق لحظة الإكتشاف عنده أي وضع المتناقضات في مقابل بعضها في سبيل التوصل إلى حالة من الوعي و التفهم وهكذا تكون الصورة المغربة صورة تجعلنا ندرك الموضوع و في نفس الوقت تشعرنا بأنه غريب عنا.

I- قراءة المدخل أو" هوامش للعرض و الإخراج".
يميز سعد الله ونوس بين مسرح التسييس و المسرح السياسي . ويحدد الفرق بين المساحتين بأن "الأولى هي العرض المسرحي الذي تقدمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور و تحاوره والثانية هي جمهور الصالة الذي تنعكس فيه كل ضواهر الواقع و مشكلاته"ص43 فالأولى تقوم على طرفين أحدهما يبلغ رسالة ما و الثاني يتقبلها أم الثانية فتقوم على إشتراك الطرفين في عملتي البث و التقبل مما يولد ضرورة العمل الإرتجالي. علما بأن الإرتجال والإشتراك في إنتاج التجربة المسرحية بشكل آني يفترضان صعوبتين: أولاهما ترسخ التقاليد المسرحية حيث لا سابق لمثل هذه العلاقة و ثانيتهما طبيعة المتفرجين النفسية و موانعهم الداخلية التي قد تمنعهم من الإنخراط في إنتاج التجربة. و هذه الموانع تدفع المسرحي إلى الانطلاق باصطناع جمهور مشارك أي" الممثل المتفرج" كبديل لما يمكن أو ينبغي أن يكون عليه المتفرج. و معلوم أن المتفرج سينتبه إلى ذلك . وهو انتباه مطلوب لـ "كسر طوق الصمت" والتكلم عن المتفرج بما يعتريه أثناء العرض, وبالتالي تحويل المتفرج بشكل ما إلى طرف في العرض رغم أن التدخلات المنبعثة من الصالة سيؤديها ممثلون مدربون.
و لهذا فعلى النص المسرحي أن يحتوي على أسباب إثارة الحوار بين الخشبة و الصالة كتعلق الموضوع بحياة المتفرج و مشاكله المعيشة آنها وهو ما يفترض إلمام الكاتب بكل ما يتعلق بالبيئة التي يكتب عنها.
إن حلم سعد الله ونوس هو أن تمتلئ المساحتان "بعرض تشارك فيه الصالة عبر حوار مرتجل و غني يؤدي في النهاية إلى هذا الإحساس العميق بجماعيتنا و بطبيعة قدرنا و وحدته"ص45 . و لا يفوت سعد الله ونوس أن يذكر بأن حرصه على الشكل لا يلهيه عن المضمون حيث يريد لتلك الهواجس الجمالية أن تفجر المشاكل و التطلعات السياسية. و بناء على كل ما تقدم يفترض أنه لا وجود لنص مسرحي نهائي لأن ظروف العرض هي التي ستشكله في كل مرة بما يتناسب مع المعطيات الموضوعية التي تساهم في إنتاجه. وهو يرى أن نموذج المقهى في مسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر" نموذج للتجربة الساعية إلى كسر المسافة الفاصلة بين المساحتين . و لذلك فإن البداية كثابت فنيا في المسرح التقليدي يقع تجاوزها , و يراد لها أن تكون تلقائية غير خاضعة لتزمين معين و إنما بعد الشعور بالإنسجام بين المجموعتين. و على هذا نلاحظ أنه يهدف إلى كسر عقبتي الزمان و المكان و تحويل الحدث المسرحي إلى ما يشبه سهرة المنوعات وهويقترح مسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر" كوسيلة اصطناعية قابلة للتعديل و التغيير.
وقد لاحظت أن سعد الله ونوس عبر عن كل تلك التنظيرات ضمن الإشارات الركحية محاولا التأكيد على وعيه بصعوبة المهمة.

II- تدخل الكاتب في مستوى الصناعة الفنية:
1- ضبط العلاقة بين الخشبة و الصالة: يمكننا أن نلاحظ أن الكاتب قد بدأ مسرحيته بما يجري في الصالة متدرجا عبر الإشارات في تقصي مظاهر الإنسجام المطلوب لإنطلاق التمثيل مراوحا في ذلك بين ما يرى :"تظل الرؤوس تتقارب في أحاديث جانبية" ص 58 و ما يسمع: "تنتهي أغنية و تبدأ أغنية جديدة" ص48, إلى أن يبلغ نقطة إلتقاء الخشبة بالصالة , فــ"يدخل خمسة ممثلين ثلاثة رجال وامرأتان..." ص64. و في هذا المستوى تنشأ العلاقة بين المساحتين في شيء من التناغم الفني. و لكي يجعلها أكثر توطدا , فإنه يفارق الزمان فيتطابق الماضي و الحاظر, ويفارق المكان فتتطابق الخشبة و الصالة في قوله: "يمثلون جميعا أهالي بغداد في ذلك الزمان يتقدمون من الزبائن و يتوزعون أمامهم"ص58. و على لسان الزبون1: "أي والله كأن الأحوال لا راحت و لا جاءت" ص58 ثم يتقدم في مزيد تثبيت طبيعة العلاقة بين الممثلين و الجمهور حيث يتكاملان و لا يعرقل أحدهما الأخر: "أثناء حديث الزبونين يظل منغمرا في متابعة مجرى ما يريد قوله" ص,64 بل إنه يعمد إلى بيان ردة فعل المتفرج من حين إلى آخر فـــ"يتوقف الخادم فجأة وهو يحمل صينية, و ينتبه ناحية الممثلين متابعا لعبتهم باهتمام" ص65. وقد ينغمس الكاتب مع الأحداث لفترة إلا أنه سرعان ما يعود للتذكير المباشر بحضور الصالة و ما يحدث فيها و لو بإشارة بسيطة :"لغط بين الزبائن ثم يتوضح" ص80, حتى لا يتناسى القارئ ذلك. و سيظل حريصا على توطيد أواصر العلاقة بين الخشبة و الصالة, فيجعل بعض الممثلين: "يقطع التمثيل ملتفتا إلى الزبائن"ص81, أو في الصالة "يخفت صوت الغناء و يصبح خلفية" ص 121. و تبدو العلاقة في منتهى التطور عندما : "السياف يتقدم من الزبائن حاملا الرأس المقطوع، ينظر إليهم و يقهقه" ص162. و تبلغ تلك العلاقة منتهاها باندماج المساحتين في قوله "و يعم الصمت فترة مديدة, ثم ينهض الرجل الرابع من بين القتلى و يقف قرب الحكواتي.. بعد قليل تظهر زمرّد في الطرف الآخر فيناولها الحكواتي رأس المملوك جابر تحتظنه و تقبله... و بحركات بطيئة كالطقوس يتقدم الثلاثة من الزبائن تتوسطهم زمرّد التي تحمل الرأس بين يديها" ص166
يتضح مما تقدم أن الاشارة الركحية تنهض بوظيفة دقيقة تنم عن خلفية فكرية ذات تجليات اجتماعية , من أهدافها دحض الفوارق وتسوية الأوضاع ضمن مساحة واحدة على مبدا التشارك في كل شيء .
2- الإشراف على الديكور: يقوم الكاتب عبر الإشاراة الركحية بعمل المخرج في تحديد قطع الديكور و لأن المسألة في منطلقها النظري تجري دون ستار و على أعين الجميع ,فكثيرا ما نجد الكاتب يعمد إلى إبراز تلك الناحية. قد يكون تدخله من باب الوصف العام لما يجري كقوله :"يدخل الممثلون الخمسة و هم يحملون معهم شباك فرن و بعض القطع الأخرى التي يمكن أن توحي بمنظر شارع عام" ص69و يمكن أن يرد على شاكلة الإقتراح: "يمكن هنا في كل المشاهد الإستعاذة عن ذلك بالبانوهات المرسومة" ص69. كما أنه لا ينسى أن يشير إلى ما ينبغي عمله بقطعة الديكور بعد أن تؤدي دورها: "ثم يحمل قطع الديكور و يخرج هو الآخر" ص.146. وقد تتعدد مستويات السرد و تتداخل الإشارة و سرد الحكواتي ,فيذهب الكاتب إلى التذكير بما يجري على الخشبة من تعديل الديكور كقوله :"خلال كلام الحكواتي توضع قطع ديكور تمثل ديوان الوزير" ص 96. أو قوله: "يضعان ما يحملان من قطع ديكور بسيطة تمثل ديوان الخليفة" ص123. وهو في هذين المثالين يبين أن كلام الحكواتي هي الفسحة الفنية التي يغتنمها الكاتب لتغيير الديكور. و هكذا فإن تغيير الديكور لم يعد يقتضي التوقف عن التمثيل و إنزال الستار. و سعد الله ونوس يحاول في هذا الخصوص أن يكون وفيا لما أورده في المقدمة. و قد يدفعه حرصه على التدخل في خصوصيات العمل الفني إلى تجاوز الديكور العام إلى بعض تفاصيله مثل الإضاءة وهي عنصر أساسي دال في المسرح. و لكن إعراضه عن جملة من التقنيات و الممارسات التقليدية من زمان و مكان هو ما جعله يشير إلى هذا العامل التقني مرة واحدة خلال المسرحية في قوله :"تسقط حزمة ضوء على رأس جابر فينبثق منه لمعان" ص114. والغريب أن هذه الإشارة الوحيدة ارتبطت برأس جابر الذي كان من أهم محاور المسرحية.
3- الإشراف على الممثلين: تصور سعد الله ونوس من خلال الإشارات أن الممثل الواحد يمكن أن يكون صالحا لآداء أكثر من دور من منطلق ما في الدور من مباعدة, إذ ليس عليه نظريا أن يتماهى بالشخصية التي يتقمصها. و لهذا وجدناه يحدد أدوار الممثلين و ينوعها في مرات عديدة كقوله :"بينما الحوار مستمر يدخل رجل رابع يحمل كيسا فارغا. ينبغي أن يقوم بدوره نفس الممثل الذي يقوم بدور منصور و إن بدا الآن أكبر سنا" ص83.أو قوله: "يدخل الممثلان اللذان قاما بدوري الوزير و الأمير عبد اللطيف" ص.123. و يكرر نفس الإشارة تقريبا مع إضافة ما يطرأ من تغيرات :"يؤدي الدورين الممثلان اللذان أديا أولا دوري الوزير و عبد اللطيف و ثانيا دوري الخليفة و عبد الله" ص .153. .بل إنه يذهب أحيانا إلى تسلم دفة السرد من الحكواتي و نقل ما يجري على الركح كبديل عن الممثلين: "تتم رواية هذا المقطع على صوت خبب الخيول و صليل السيوف و تقطعه الصرخات.. و بين حين و آخر يندفع بعض اللذين تعرفهم ممن مثلوا عامة بغداد أو سواهم" ص165. حتى إنه يمسرح الحكواتي فيجعله يغادر الكرسي وهو يروي و "يجول بين الأجساد التي تتكدس" ص.165. و من أدلة إشرافه الكامل و تمثله لتفاصيل ما يجري,حرصه في الإشارة على التنبيه إلى إتجاه الممثل للتذكير والإشادة بنوعية علاقته بالجمهور كقوله :"يركع جابر بحركة بطيئة و وجهه للجمهور بحيث تبدو واضحة كل الإنفعالات التي يمكن أن تعبره" ص115.
لقد بدا سعد الله ونوس من خلال الإشارات الركحية حريصا على متابعة الممثل وهو يتحرك على الخشبة و بين
الحضور, و مهتما بأدق التفاصيل. إنه يشير حتى إلى إنعدام الحركة كقوله "يستمر المشهد و يتم إيمائيا على صوت
الحكواتي" ص161. و هكذا يبقى المشهد قائما في ذهن القارئ بتفاصيله. إن الكاتب ينقل عن الشخصية كل ما
يتعلق بها محددا جميع حركاتها كما يتصورها أو كما يقترحها. فالوزير:" يدور قاضما شاربه بأسنانه" ص.97. مما
يجعله في حالة من التوتر النفسي. وهو في أحيان كثيرة ينقل الحركة و يحلل أبعادها كقوله عن جابر ": يبالغ في
الإنحناء و يزيد من مظاهر الإحترام حتى لينكشف النفاق واضحا" ص.103. و لكل هذا صلة وثيقة بتقديم سعد الله
ونوس لشخصياته في الإشارات الركحية.

III- تقديم الشخصية:
بنى سعد الله ونوس تقديم الشخصية ,من خلال الإشارة الركحية ,على ثلاثة قوائم أساسية: الملامح العامة والخصوصيات التأهيلية أي ما يؤهل الشخصية للعب الدور, ثم مدى قدرتها على التكيف مع الدور أو الأدوار التي تؤديها.
1- الملامح العامة: و نلحظ ذلك منذ بداية المسرحية حيث يقدم شخصية :"العم مونس رجل تجاوز الخمسين حركاته بطيئة وجهه يشبه صفحة من الكتاب القديم الذي يتأبطه" ص51 ..فالتقديم إلى حد هذا المستوى يبدو تقليديا كما في جل الكتابات الأدبية ,عدا عن الملاءمة بينه و بين الكتاب و ما في ذلك من دلالة. كما أنه في تقديم شخصية المملوك جابر توخى نفس الأسلوب تقريبا حيث إنه: "شاب تجاوز الخامسة و العشرين من عمره معتدل القامة شديد الحيوية يمتاز بملامح دقيقة و ذكية" ص59. و كذلك صديقه:"المملوك منصور في حوالي الخامسة و الثلاثين من عمره أو أكثر قليلا قامة قصيرة و بنية قوية ملامح وجهه تشف عن وداعة و طيبة" ص59 . إلا أنه سيجاوز التقديم التقليدي الذي يعتمد القامة و السن و الملامح العامة مع بعض الشخصيات الأخرى و ستجد نفسها في دولاب الحدث المسرحي مع الإستقراء التدريجي لبعض خصوصياتها.
2- الخصوصيات التأهيلية: عندما قدم سعد الله ونوس شخصية العم مونس لم يتوقف عند ملامحها العامة ,و لكنه رسخ فيها من الصفات ما يمكن إعتباره مؤهلا للعب دور الحكواتي , و الحفاظ على الحياد طيلة المسرحية التي تشهد عديد الإهتزازات. فدوره يقتضي ضربا من اللامبالاة تجاه ما يجري حوله لأنه هو الذي ينتجه بشكل ما. و لذلك قال عنه: "عيناه جامدتا النظرة, و رغم إختباط لونيهما فانهما توحيان بالحياد البارد... على العموم هو الحياد البارد الذي سيحافظ عليه تقريبا خلال السهرة كلها" ص51 . و يمكن أن نلاحظ أنه اهتم بترسيخ خصوصية الحياد البارد باعتبار ما يقتضيه الدور. إلا أنه في تقديم شخصية جار يرى: "في عينيه خاصة يترامى بريق نفاث يوضح انطباع الذكاء و يؤكده" ص 59 . فبعد أن ننتهي من قراءة المسرحية نفهم أنه أراد لتركيبة هذه الشخصية أن يشقها تناقض ما بحكم وضعها الإجتماعي و حلمها بالإرتقاء. و إذا بالذكاء وحده لا يشفع و المهم أن ما وصفت عليه شخصية جابر من ذكاء هو ما أهلها لمتابعة الدور إلى أواخره. ومن خلال هذا نفهم أن سعد الله ونوس قد اختار الشخصيات التي تصورها مناسبة لما طرحه و نظر له خاصة على مستوى قدرتها على التكيف والتأقلم و التنوع في أداء الأدوار.
3- تكيف الملامح مع مقتضيات الأدوار: تجمع الشخصية الفنية على شخوص والمهم بالنسبة إلينا أن سعد الله ونوس جعل الشخصية الواحدة قادرة على الاضطلاع بأكثر من دور, و بالتالي تقمص أكثر من شخصية كلما اقتضى الأمر ذلك . وهو ما طرحه منذ البداية. و لا يظهر ذلك فقط في تصريحه أكثر من مرة بأن هذه الشخصية أو تلك هي التي أدت الدور السابق لشخصية أخرى مثل قوله :"ينبغي أن يقوم بدوره نفس الممثل الذي يقوم بدور منصور و إن بدا الآن أكبر سنا" ص 73 , إذا ليس في هذا المستوى فحسب بل كذلك في مستوى اقتدار و مهارة الممثل العمليين. فملامح جابر الدالة على الذكاء الوقاد تصبح " على وجهه تتخايل ابتسامة الخبث" ص60 . و الملامح البادية على وجه المرأة تصبح إختزالية دالة على حالة نفسية تعتري جماهير بغداد عندما :"يرتعش وجهها بالخوف و ترتبك" ص78 . أو عندما يبرز في جابر قدرته على المباعدة و عدم التماهي وهو: "يمضي مغنيا وسط ذهول الآخرين" ص94 . كما أنه كثيرا ما يعقد الصلة بين الظاهر والباطن عبر وصف الملامح الخارجية المؤدية إلى التفاعلات النفسية كقوله عن الوزير :"بدأ يغضب و يزوي ما بين حاجبيه" ص104. أو التصريح بتلك التفاعلات و دلالاتها كقوله عن عبد الله أخ الوزير :" تلوح على وجهه أبشع علامات الإزدراء" ص 128. و على هذا نلاحظ أن سعد الله ونوس وظف الإشارة الركحية لتفعيل تصوره لما يمكن أن تنجزه الشخصية عبر جملة تحركاتها المسرحية.

IV- الحركة المسرحية:
عرفنا أن تحركات الممثل على الخشبة أساسية دالة بذاتها وهو ما استوجب النظر فيها من خلال إشارات الكاتب . و قد اشتملت تلك الإشارات جملة من الحركات البسيطة التي تؤديها الشخصية وهي تتنقل على الخشبة, و كذلك الأفعال التي ضخها الكاتب لدفع الحدث المسرحي و تكثيف المسار السردي.
1- الحركات البسيطة الدالة: قد يرد هذا الصنف من الإشارات بكلمة تحيل على الحركة :"يدخل الزوج" ص 129, أو: "و يخرجا" ص142, أو بجملة فعلية يميز الحال فيها نوعية الحركة كقوله :"و يخرج متخفيا" ص 148, و ما إلى ذلك من الأفعال المماثلة التي يعلو نسقها و ينخفض بحسب ما يعتري الأحداث من حركية. وقد ترد الاشارة باسم يعوض الفعل كقوله :"صمت" ص 143, أو بمجملة إسمية "وهو ينصرف" ص .146. إن هذه الحركات البسيطة هي التي تكفلت بمهمة نقل الإهتزازات الطارئة على أنساق الحدث في كل مرة مرة.
2- الحركات المكثفة: إن استغراق الكاتب في نقل تلك الحركات هو ما يدفعنا إلى الإعتقاد بأنه يريدها وظيفية في نقل المشهد بدقة, أو في دفع المسار الحدثي. فعند قدوم الحارسين على أهالي بغداد وارتعاب الناس يبدو الرجل الرابع متزنا حكيما عاقلا من خلال إشارة الكاتب حيث كثافة الأفعال التي تعكس تلك الأبعاد في قوله: "ينتبه إلى إقترابهما... يغير الكلام و يواصل دون تلعثم، يتابعه الآخرون بخوف و دهشة" ص 79 . إن طبيعة العطف بين أفعال الإشارة هي التي تعكس ما على الشخصية من اضطراب و قدرة على تدارك الموقف في آن. و لذلك يضيف :"كلما اقترب الحارسان يعلو صوته" ص79 . إلا أن هذه الحركات المكثفة قد لا تكون ضمن إشارة واحدة , بل على إشارات متقطعة يتابع الكاتب من خلالها الشخصية ليبين تصاعد ملمح ما في داخلها كتصاعد الغضب في صدر الوزير وهو ما صوره عبر تكرار حركة النشوق. فمن :"يتناول نشوقه" ص 103, إلى: "فيما يبدأ الوزير يعطس" ص104: إلى "مندهشا... يتناول النشوق,و بحركة آلية يدس منه في أنفه" ص 105, حتى قوله: "مندهشا...تتوقف يده التي تبحث عن بعض النشوق" ص 107 , بعد أن صار "نافذ الصبر" ص106. وهكذا فمتابعة الحركات جاءت لتبين تصاعد وضع نفسي ما. و لعل أكثر موطن تتكثف فيه الإشارات هو أواخر المسرحية عندما يصبح جابر بين يدي السياف و تتسارع تساؤلاته و دقات قلبه و تفاعل المتقبلين معه. فيبلغ الأمر حد التداخل بين سرد الحكواتي و تولي الكاتب للعملية السردية باعتبار كثرة الإشارات الركحية. فمن صفحة 159 إلى صفحة 161 سيراوح الكاتب بين جملة يقولها جابر و إشارة يعلقها بنفسه. وهو ما يجعل النص متسقا منسجما مع النسق العام لمجريات الأحداث في تلك اللحظة المسرحية. إن كثرة الأفعال في تلك الإشارات هي التي دفعت بالأحداث إلى التسارع تناسقا مع ما في نفس جابر من اضطراب.

V- تداخل الإشارة بسرد الحكواتي:
الواضح أن الكاتب قد استجلب شخصية الحكواتي ليوكل إليها مهمة سرد الأحداث كلما اقتضت الضرورة الفنية ذلك, إلا أنه يحدث أن تتداخل مستويات السرد فتقوم الإشارة بجانب من تلك الوظيفة. وقد حصل في بعض المواطن الحدودية بين جمهور المقهى و الممثلين (و الكل ممثلون) عندما اقتضت الضرورة أن تقوم الإشارة بوظيفة التنسيق كقوله: " أثناء الحوار السابق يعود بنا المشهد إلى رواق في قصر الوزير" ص 88. وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى استبدال الحكواتي بالإشارة , و كأن الكاتب , وقد أفلت منه القلم , ينساب مع الحركة السردية فينوب عن الحكواتي . و خير مثال على ذلك الفقرة الواردة بين صفحتي 95 و 96 حيث تبدأ الإشارة على أعقاب كلام الحكواتي للتذكير و التعديل في البداية: "خلال كلام الحكواتي توضع قطع ديكور تمثل ديوان الوزير"ص 96 , ثم الوصف و تقديم الشخوص و وصف ما يوجد بديوان الوزير. لكن اسهابه في وصف شخصية الوزير و بعض حركاته يجعل الإشارة تتجاوز حدودها التقليدية إلى مشاركة السارد في تحيين مسار الحدث.
و إذا اعتبرنا أن الحكواتي نفسه شخصية مسرحية، فلابد لها من واصف. لقد قدمها الكاتب في بداية المسرحية و لذلك فإنه يتعهدها بالمتابعة من حين لآخر كلما اصبحت طرفا في الحدث كقوله: "يخفت الضوء في القاعة... بينما يشتد على الكرسي الذي يجلس عليه الحكواتي – إلى قوله – تمتزج الحركات بكلام الحكواتي و تشكل معها ما يشبه اللحن الحزين" ص 111. و بعدها مباشرة يستلم الحكواتي زمام السرد :"و طلب الوزير أن يحضر الحلاق في الحال" ص111. و لكن الكاتب يعود فيأخذ منه ذلك الزمام لينقل الحركة المسرحية و يصف ما يجري على الركح بشكل مواز: "يدخل الحلاق ووراءه الغلمان الثلاثة" ص111. إلا أن هذه الإشارة تسهب هي الأخرى لتجمع بين التقديم و الوصف المفصل و المساهمة في الإخراج المسرحي. و بنفس الطريقة يمكننا فهم الإشارة الواردة بالصفحة 115: "يركع جابر بحركة بطيئة", حيث يصبح السرد على السرد واضحا.

VI- تفاعل السمعي و البصري في الإشارة:
إن الكاتب هو صانع المسرحية الأول. و على هذا فهو من يرى و يسمع كل شيء. و إذا كان المرئي هو المهيمن على ما تنقله الإشارات، فإن المسموع لم يعدم، ذلك أنه كثيرا ما نقل الأصوات كقوله: "تنتهي أغنية و تبدأ أغنية" ص 48 ,أو: "الضوضاء تنتشر في المقهى... كلام و أحاديث جانبية و قرقرة نراجيل و سعلات جافة و أحيانا نسمع الحوارات الجانبية التي تعلوا فوق الأغنية" ص48 . إن هذه الدقة والإلمام هي من باب الواقعية في نقل المشهد بأصواته جميعها. ومثل هذا متواتر في المسرحية. مع العلم بأن بعض الإشارات الناقلة للصوت جاءت لتعميق البعد الدرامي كقوله :"يعلو صراخ الطفل" ص130 ثم: "الصراخ يعلو" ص 130, و بعدها :"بلهجة يرعشها الخجل و الغضب" ص 131. و كل هذه الإشارات في وصف وضع بائس تعيشه عائلة من واقع بغداد الممزق . و لتثبيت تلك المسحة الاشكالية يقول في وصف الزوجة :"يغص صوتها بالبكاء" ص131. أو: "مع شهيق دموعها"ص 132, على أساس أن تضرر العامة هو ما يهمه في نهاية الأمر. و تكرر الإشارات الناقلة لصوت البكاء عبر المسرحية يعطيها وظيفة أخرى. ففي وصفه للمرأة الأولى: "وهي تبكي "ص152, ثم مرة أخرى بنفس العبارة :"وهي تبكي" ص152, نجده يدفع إلى شحن الأنفس و تعبئة الناس ضد مثل هذه الأوضاع. وهي الخلفية الفكرية التي تحكم المسرحية فلا غرابة خاصة متى عرفنا أن التغريب مقصود.

علم النفس ومبادئه...

بقلم صالح الزناتي



علم النفس (Psychology) : هو العلم الذي يدرس السلوك سواءً كان هذا السلوك ظاهراً أو باطناً فهو يدرس السلوك الظاهر كالأفعال التي يقوم بها الفرد، والسلوك الباطن كالتفكير والتخيل والتذكر. وعلم النفس الحديث بدأ مع إنشاء أول مختبر لعلم النفس التجريبي في ألمانيا على يد فونت عام (1879) وأصبح علماً له موضوعه ومنهجه القائم على التجربة مما أدى إلى إحداث تطور كبير في مسيرة هذا العلم فظهرت مدارس عديدة في العالم نذكر منها المدرسة السلوكية ويمثلها واطسن ومدرسة التحليل النفسي ويمثلها فرويد ومدرسة الجشطلت ويمثلها فيرتهيمر. وينقسم علم النفس إلى فروع كثيرة نذكر منها، علم النفس العام، وعلم النفس الفسيولوجي وعلم النفس التربوي وعلم نفس النمو وعلم النفس الاجتماعي وعلم النفس العسكري، وعلم النفس الجنائي وعلم النفس المهني.

الانفعال (Emotion): هو اضطراب حاد يشمل الفرد كله ويؤثر في سلوكه وخبرته الشعورية ووظائفه الفسيولوجية الداخلية وهو ينشأ في الأصل عن مصدر نفسي، ويستثار عندما يواجه المرء ما يؤذيه أو يهدده فيصبح نشاطه كله مركزاً حول موضوع الانفعال، ويصاحب الانفعال تغيرات فسيولوجية داخلية مثل خفقات القلب، وارتفاع ضغط الدم واضطراب التنفس واضطراب في عملية الهضم.

الانحراف السيكوباتي: هو سلوك لاأخلاقي، أو هو سلوك مضاد للمجتمع يسيطر على الشخصية السيكوباتية ويتميز هذا السلوك (بنزوات) ولا يراعي الفرد المسؤولية في أفعاله وينحصر همه بإشباع اهتماماته المباشرة والنرجسية دون اعتبار للنتائج الاجتماعية.

البارانويا (Paranoia): اضطراب عقلي نادر ينمو بشكل تدريجي حتى يصير مزمناً ويتميز بنظام معقد يبدو داخلياً منطقياً ويتضمن هذاءات الاضطهاد والشك والارتياب فيسيء المريض فهم أية ملاحظة أو إشارة أو عمل يصدر عن الآخرين، ويفسره على أنه ازدراء به ويدفعه ذلك إلى البحث عن أسلوب لتعويض ذلك فيتخيل أنه عظيم وأنه عليم بكل شيء.

الغريزة (Instinct): هي عبارة عن دوافع طبيعية أساسية لسلوك الفرد ونشاطه تزوده بالقوة الحيوية الدافعة وتحدد غاياته وهي فطرية في الإنسان تولد معه والغريزة هي التي توجه انتباه الفرد نحو غايةٍ أو غرضٍ ما فيدركه ويشعر حياله بشعور خاص، لذلك فهو يسلك نحوه سلوكاً خاصاً أي أن للغريزة غرضاً ترمي إليه، فالغريزة الجنسية مثلاً تهدف إلى الحفاظ على النوع ولكل غريزة شعور خاص بها فالغضب يثير غريزة القتال والخوف يثير غريزة الهرب، والتعجب يثير غريزة الاستطلاع.

السلوكية (Behaviorism): هي مدرسة في علم النفس، تعتبر السلوك مجرد استجابة فسيولوجية للمثيرات التي تحدثها البيئة الخارجية وهي تستبعد كل ما هو غير ملاحظ ولا تأخذ بعين الاعتبار عوامل الوراثة أو الفكر أو الإرادة فمنهجها موضوعي، موضوعه الرئيسي هو السلوك وهي تهدف إلى التنبؤ بالسلوك وتحديد الكيفية التي يستجيب بها الفرد للمثيرات. ولقد راجت هذه المدرسة في الولايات المتحدة الأمريكية ويعتبر واطسون رائد هذه المدرسة ومؤسسها ومن ممثليها كيو، سكنر ثورانديك.

الارشاد النفسي والطب النفسي (Psychidtry - counseling) : يهتم الطب النفسي بتشخيص اضطرابات الشخصية والكشف عن أسبابها ومن ثم الكشف عن أسباب سوء توافق الفرد والعمل على علاجها. كما في بحث الطبيب عن أسباب القلق مثلاً أما الارشاد النفسي فهو يهتم بالأفراد الأسوياء الذين يأتون إلى المرشد النفسي طلباً للمساعدة وليس للعلاج.

الهو (Id) : حسب فرويد هو الجانب اللاشعوري من النفس، الذي ينشأ منذ الولادة ويحتوي على الغرائز التي تنبعث من البدن والتي تمدنا بالطاقة النفسية اللازمة لعمل الشخصية بأكملها فهو جانب غريزي غير خاضع لتأثير المجتمع والأخلاق وهو دائم السعي للحصول على اللذة وتجنب الألم ويخضع لمبدأ اللذة وليس لمبدأ الواقع وهو الذي يمد الجانبين الآخرين، الأنا، والأنا الأعلى بالطاقة اللازمة لعملياتهما ويحتوي في الوقت نفسه على العمليات العقلية المكبوتة التي استبعدتها المقاومة عن الأنا. وهكذا فإن الأنا، والأنا الأعلى هما اللذان يكبحانه ويعملان على لجمهِ والسيطرة عليه.

الأنا الأعلى (The super ego): القسم الثالث من الشخصية، ينمو تحت تأثير الواقع ويمكن النظر إليه على أنه سلطة تشريعية تنفيذية أو هو الضمير أو المعايير الخلقية التي يحصلها الطفل عن طريق تعامله مع والديه ومدرسيه والمجتمع الذي يعيش فيه والأنا الأعلى نزاع إلى المثالي لا إلى الواقعي، يتجه نحو الكمال لا إلى اللذة. ويوجه الأنا نحو كف الرغبات الغريزية للهو وخاصة الرغبات الجنسية والعدوانية، كما يوجهه نحو الأهداف الأخلاقية بدلاً من الأهداف الواقعية.

الأنا (The ego): هو أحد الجوانب اللاشعورية من النفس، يتكون من الهو وينمو مع الفرد متأثراً بالعالم الخارجي الواقعي ويسعى للتحكم في المطالب الغريزية للهو مراعياً الواقع والقوانين الاجتماعية، فيقرر ما إذا كان سيسمح لهذه المطالب بالإشباع أو بتأجيل إشباعها إلى أن تحين ظروف وأوقات تكون أكثر ملاءمةً لذلك، أو قد يقمعها بصورة نهائية. فهو يراعي الواقع ويمثل الادراك والحكمة والتعلم الاجتماعي ولقد شبه فرويد علاقة الأنا بالهو برجل يمتطي جواداً يحاول السيطرة عليه وتوجيهه.

الاستبصار (Insight): مصطلح في علم النفس يعني التأمل الباطني introspection للذات ووعي المرء بدوافعه الرئيسية ورغباته ومشاعره وتقييم العقلية الخاصة وقدراته ومعرفته بنفسه، والمصطلح يفيد معنى آخر هو تفهم المريض للعلاقات القائمة بين سلوكه وذكرياته ومشاعره ودوافعه التي كانت من قبل، كما يعني أيضاً الادراك الفجائي لعناصر موقف ما وادراك علاقات هذه العناصر بعضها ببعض مما يؤدي إلى فهم الموقف بشكل كلي.

الاستبطان (Introspection): هو تأمل الفرد لما يجري في داخله من خبرات حسيةٍ أو عقليةٍ. ولقد بدأ المنهج الإستبطاني مع العالم الألماني فونت (1832 1920) وكان يهدف إلى معرفة ما يجري للعقل الإنساني عندما يخضع لمؤثرها. والاستبطان يتناول أيضاً الحالات الشعورية القائمة، أو السابقة وقد استخدم هذا المنهج بشكل واسع في الدراسات النفسية، إلا أن المدرسة السلوكية استبعدته واعتبرته منهجاً غير علمي لأنه يعتمد على الملاحظة الذاتية وليس الموضوعية.

الإحباط (Frustration): يقصد بالإحباط في علم النفس، الحالة التي تواجه الفرد عندما يعجز عن تحقيق رغباته النفسية أو الاجتماعية بسبب عائق ما. وقد يكون هذا العائق خارجياً كالعوامل المادية والاجتماعية والاقتصادية أو قد يكون داخلياً كعيوب نفسية أو بدنية أو حالات صراع نفسي يعيشها الفرد تحول دونه ودون إشباع رغباته ودوافعه. والإحباط يدفع الفرد لبذل مزيد من الجهد لتجاوز تأثيراته النفسية والتغلب على العوائق المسببة للإحباط لديه بطرق منها ما هو مباشر كبذل مزيد من الجهد والنشاط، أو البحث عن طرق أفضل لبلوغ الهدف أو استبداله بهدف آخر ممكن التحقيق. وهناك طرق غير مباشرة، يطلق عليها في علم النفس اسم الميكانزمات أو الحيل العقلية mental mechanism وهي عبارة عن سلوك يهدف إلى تخفيف حدة التوتر المؤلم الناشىء عن الإحباط واستمراره لمدة طويلة وهي حيل لاشعورية. يلجأ إليها الفرد دون شعور منه. من هذه الحيل: الكبت، النسيان، الإعلاء، التعويض، التبرير، النقل، الإسقاط، التوجيه، تكوين رد الفعل، أحلام اليقظة، الانسحاب، والنكوص. وعندما يتكرر حدوث الإحباط لدى فرد ما فإنه يؤدي إلى مشاكل نفسية معقدة وخطيرة تستدعي العلاج وقد يكون الإحباط بناءاً في بعض الأحيان لأنه يدفع بالفرد لتجاوز الفشل ووضع الحلول الملائمة لمشاكله.

التخلف العقلي (Mental retardation): هو نقص في مستوى الذكاء العام، ويعتبر الشخص متخلفاً عقلياً فيما إذا كان حاصل ذكاءه (70) أو أقل من (70) وهذه الحالة تتميز بمستوى عقلي وظيفي عام دون المتوسط وتبدو أكثر ما تبدو خلال مرحلة النمو مصحوبةً بقصور في السلوك التكيفي للفرد وقد يبلغ التخلف العقلي مرحلة أشد تعقيداً تكشف عنها الأوضاع العصبية المرضية والحالات الفسيولوجية الشاذة التي تصاحبها وعادة ما يعتمد في تشخيص التخلف العقلي على استخدام اختبارات الذكاء المقننة.

الجنون: هو التغيرات العقلية التي تطرأ على بعض الناس فتخرجهم عن دائرة العقل وهو أقسام: منها الماليخوليا وهي التي كانت معروفة بالسوداء أول درجات الجنون وأعراضها دوام الاكتئاب وشدة الاهتمام بالنفس وزعم الإنسان بأنه مصاب بجملة أمراض قتالة، ومنها المونومانيا أي الجنون بشيء واحد وهي حالة يجن فيها الإنسان بشيء أو أشياء محدودة ويتعقل ما عدا ذلك وذلك كالكبر والعجب وحب القتل والوسوسة، ومنها ألمانيا وهي أن يجن الشخص جنونا عاما مع هياج شديد ومنها الذهول وهي أن تضعف قوى الإنسان العقلية ضعفا تدريجيا، ومنها البله وهي حالة طبيعية لا مكتسبة منشأها عدم تكامل خلقة المخ من صغر الرأس أو غيرها وأكثر من هم هكذا يكونون بكما أو غير تامي الكلام. أقوى أسباب الجنون انقماع النفس عن مطلوبها بسلطة قاهرة والغيظ البالغ حده النهائي والفزع الفجائي والغيرة والوسوسة والعشق وفقد ما لا يمكن استرداده مما يكون عزيزا على النفس جدا وأكثر المصابين به النساء لشدة إحساسهن. وعد من أسبابه الضرب على الرأس والسقوط عليه ومرض الأذن والمرض الشديد وشرب الأشربة المخدرة وارتداد العرق فجأة واحتباس الحيض والرعاف وقد يكون وراثيا. معالجة هذا الداء تكون على حسب درجاته ففي الماليخوليا تكفي الرياضة والسفر وسماع الأنغام وتطلب السرور مع الحمية والراحة والاعتناء الشديد بالمعدة. وفي الجنون الخاص بشيء واحد يجتهد بإبعاد فكر المريض عن ذلك الشيء وترويضة وتفريحه. وإن كان سببه مرضا من الأمراض وجب معالجة ذلك المرض. أما الذهول فلا يشفي منه إلا أفراد قلائل لأنه يعقبه شلل عام فيموت المصاب. أما الجنون العام فيعالج بعلاج مادي وأدبي أما المادي فهو علاج لإبطاء الدورة الدموية ولكنه لا يستعمل إلا إذا كان الجهاز الهضمي سليما وسكب الماء على الرأس والاستحمام بالماء الفاتر ووضع منفطة على الصدر وغير ذلك وأما الوسائط الأدبية فهي أشد فعلا من كل ما ذكر وهي: أولا أن لا تهيج شهوة المجنون. ثانيا أن لا يخالف ولا يؤاخذ ولا يستهزأ به. ثالثا أن يجتهد في إثبات رأيه فيما هو خارج عن الجنون. معنى عدم تهيج شهوات المجانين هي أن يبعدوا عما يثير جنونهم أو عما سببه فإن كان سببه العشق وجب أن لا يذكر ما يهيجه. وإن كان سببه الوسوسة بشيء وجب إبعاده عنه. وإن كان سببه ظنهم أنهم ملوك أو علماء فينبغي أن لا يوقروا لأن توقيرهم يزيد جنونهم ويجب أن لا يترك المجنونون بنوع واحد في محل مشترك لأن بعضهم يثير جنون بعض.

التعصب (Prejudice) : كلمة مشتقة من اسم لاتيني pracjudicium معناها السابق (precedent) أي الحكم على أساس قرارات وخبرات سابقة، ينشأ التعصب من خلال الحاجة إلى احترام الذات أو المبالغة في تأكيدها وهو نوع من أنواع النرجسية أو عشق الذات طابعة العدوان وقد يكون ظاهراً أو خفياً، لفظي أو غير لفظي، والتعصب بمعناه السيكولوجي هو شعور ودي أو غير ودي نحو فرد أو شيء دون الاستناد إلى أساس سابق له ويطبع التعصب بشحنه انفعالية مما يعطل عمل التفكير المنطقي السليم. كما أنه اختلال يعتري العلاقات الاجتماعية وتوترٌ يسيطر على خطوط الشبكات الاجتماعية غير المنظورة.

الذكاء (Intelligence) : هو القدرة على اكتساب المعارف واستخدامها في التكيف للمواقف المستجدة أو المشكلات التي يواجهها الفرد. ويعد الفريد بينيه وزميله سيمون أول من وضع مقياساً دقيقاً للذكاء أدى فيما بعد إلى اهتمام العلماء بقياس الذكاء وإلى ظهور اختبارات متعددة له. ونسبته الذكاء intelligence quotient نسبة نحصل عليها بقسمة العمر العقلي على العمر الزمني وضرب الناتج في (100). فالفرد الذي عمره العقلي (12) وعمره الزمني 12 تكون نسبة ذكاءه وفق هذا القانون كما يلي 12/12 × 100 = 100. والذكاء يكون عالياً إذا زاد عن (100) ويقل إذا قل عن (100) فالفرد الذي يتساوى عمره العقلي مع عمره الزمني تكون نسبة ذكاءه (100) أما إذا قل عمره الزمني عن عمره العقلي كانت نسبة ذكاءه أكثر من (100) وفي حال كان عمره الزمني أعلى من عمره العقلي كانت نسبة ذكاءه أقل من (100)، وعلى أساس هذه المقايييس تم تصنيف الأفراد من حيث الذكاء، فالمعتوه ***** هو من كانت نسبة ذكاءه تتراوح بين (صفر و 25)، أما الأبلة imbecile فهو الذي تتراوح نسبة ذكاءه بين (26 و 50) ويعد أحمقاً moron من كانت نسبة ذكاءه تتراوح بين (51 و 70)، أما السوي أو المتوسط (average or normal) من كان ذكاءه بين (71 و 110) ومن كانت نسبة ذكاءه بين (110 و 140) عُدَ فوق المتوسط above average، أما من كانت نسبة ذكاءه (140) فما فوق كان عبقرياً (genius).

العمر العقلي (Mental age): مفهوم وضعه العالم النفسي الفرد بينيه وزميله سيمون وهو يشير إلى مستوى القدرة العقلية للفرد مقارنةً مع أقرانه في السن نفسه، فإذا استطاع فرد عمره 10 سنوات الإجابة على اختبار ذكاء يستطيع الأطفال العاديون في هذا العمر الإجابة عليه بنجاح كان عمره العقلي 10 سنوات. وهو عامل من عوامل تقدير نسبة الذكاء لدى الأفراد.

مقياس بينيه سيمون للذكاء (Binet -siman scale): مقياس علمي دقيق للذكاء، وضعه في مطلع القرن العشرين العالم الفرنسي الفرد بينيه وزميله سيمون، ففي عام (1896) م قام بينيه بدراسة بعض المشكلات لتلاميذ مدارس باريس فوجد أن بين طلابها مجموعة من ذوي الذكاء المنخفض فأخذ يفكر في وضع مقياس لقياس ذكاء التلاميذ، وقد ساعده في هذا العمل العالم سيمون وكان هذا المقياس يتضمن (30) اختباراً مرتبةً حسب تدرجها في الصعوبة وقد أجريا تعديلاً أول على هذا المقياس عام (1908) وتعديل ثانٍ عام (1911) إذ أصبح يتكون من 54 اختباراً متدرجةً في الصعوبة. وقد تعرضت هذه المقاييس للكثير من النقد في موثوقيتها.

الذهان (Psychosis): اضطراب شديد في الشخصية، يبدو في صورة اختلال عنيف في القوى العقلية واضطراب في ادراك الواقع والحياة الانفعالية وعجز عن قضاء الحاجات الحيوية مما يؤدي إلى عدم حدوث التوافق بين الفرد وذاته وبينه وبين الآخرين، وهو يقسم إلى قسمين الأول، عضوي المنشأ كبداية الخرف أو تصلب شرايين المخ أو كاضطراب هرموني أو اختلال شديد في عملية الهدم والبناء ****bolism والثاني وظيفي أو نفسي وليس له أي أساس عضوي مثل البارانويا أو جنون الارتياب والشيزوفرينيا أو الفصام.

الرهاب (Phobia): خوف أو هلع مرضي شديد من موضوع محدد أو موقف لا يستثير بطبيعته الخوف. والخوف الطبيعي ضروري إلى حد ما للبقاء إذ أنه ينبه الكائن الحي إلى الأخطار المحدقة به إلا أنه عندما يتجاوز حدوده الطبيعية وتصبح أسبابه غير واقعية أو غير معروفة فإنه يتحول إلى عصاب ويطلق عليه اسم رهاب فقد يشعر الإنسان بخطرٍ يهدده مع أن هذا الخطر لا وجود له في الواقع. وتتميز الأعراض الفيزيولوجية لهذا العصاب بوجود نشاط شديد في الوظيفة الاستثارية من الجهاز العصبي التلقائي.

العصاب النفسي (Psychoneurosis) : اضطراب يتميز بشدة الاستثارة والانفعالية والقلق الشديد والوساوس. وتظهر على العصابي في أحيان كثيرة أعراضاً معينة كالخوف المرضي والاكتئاب ويتم سلوكه بالتعاسة وسيطرة مشاعر الذنب وعدم الفاعلية في المواقف الاجتماعية.

عصاب الوسواس (Obsessional neurosis): أحد أنواع العصابات التي تتسلط فيه على المريض فكرة أو شعور ما لا يستطيع منه فكاكاً، رغم أنه يعلم أن هذه الفكرة تافهة لا مبرر لها، ويمتاز هذا العصاب بظهور نوع من السلوك القسري الاستحواذي لا يستطيع الفرد مقاومته فالمريض يقوم بلمس بعض الأشياء مرات عديدة أو يقوم بغسل يديه بصورة متكررة يومياً، ولا يهدأ إلا إذا قام بهذه الأفعال.

الهستيريا (Hysteria): اضطراب عصابي تتطور من خلاله أعراض عضوية كالشلل أو فقدان البصر دون أن يكون لذلك أساس جسمي. ويشعر المصاب بهذا العصاب أنه بحاجة إلى حب الآخرين واهتمامهم ويبدو أن الهستيريا محاولة للهرب من صعوبة يبدو التغلب عليها أمراً صعباً للغاية. والهستيريا شكلان رئيسيان الأول يسمى الهستيريا التحولية ويتخذ شكل اضطرابات جسدية منتقلة. والثاني يمتاز بالتفكك والشرود.

العقدة (Complex): هي استعداد لاشعوري، لا يشعر به الفرد ولكنه يشعر بآثاره التي تبدو في سلوكه أو في جسمه وهي ثمرة صدمة انفعالية عنيفة أو خبرة مؤلمة وللتربية أثر كبير في نشوء العقد عند الأفراد فالإفراط في تدليل الطفل أو الإهمال الزائد يؤديان إلى فقدان الطفل للثقة بنفسه. وتسمى العقدة بالانفعال الغالب فيها فإذا كان الانفعال السائد هو الشعور بالذنب سميت عقدة الذنب ومن الثابت أن الفرد ينسى الظروف التي أحاطت بالعقدة وأدت إلى ظهورها.

الكبت (Repression): حيلة دفاعية لاشعورية يلجأ إليها الفرد لكي يستبعد أفكاراً غير مقبولةٍ أو خبرات مؤلمة واجبارها على البقاء في اللاشعور أو العقل الباطن لكي يتمكن من نسيانها أو انكار وجودها، فالجندي الذي تشل ذراعه في المعركة ويُستبعد من ميدان القتال يتبين أن يده سليمة من الناحية التشريحية لكنها معطلة وظيفياً بسبب خوف قديم مكبوت وصراع نفسي لاشعوري، وإن ما حدث له مجرد حيلة دفاعية، لاشعورية تجنبه الموقف الصعب الذي يواجهه.

الكآبة (Depression): اضطراب عصابي أو ذهاني. يتم النوع العصابي منه بالحزن الشديد وفقد الشهية والشعور بالعجز والتشاؤم والتأنيب المستمر للنفس ويسمى أحياناً اكتئاباً استجابياً reactive depression لأنه قد ينشأ نتيجة استجابة لفقدان موضوع أو نتيجة فشل في أداء عمل أو مهنة أو انقطاع علاقة اجتماعية وثيقة. أما النوع الذهاني فهو درجة شديدة من الاكتئاب ومصادره الخارجية غير محددة وقد تنتهي حالات بعض المصابين به بمحاولة الانتحار أو الانتحار العقلي وتصحبه اضطرابات عقلية وادراكية كالهلاوس والهواجس.

المزاج (Temperament): هو مجموعة خصائص انفعالية لدى الفرد تتفاوت في درجة قوتها أو ضعفها، وثباتها أو تقلبها، أول من تحدث عن المزاج الطبيب اليوناني جالينوس الذي قال بأن أحد الأخلاط الأربعة هو الذي يقرر مزاج الإنسان وهذه الأخلاط هي الدم، البلغم، السوداء، الصفراء. أما في علم النفس الحديث فإنا المزاج يتحدد بالعوامل التكوينية والفطرية وتأثيرات الغدد الصماء والعوامل الفسيولوجية الأخرى. وقد تبين أن المزاج يتأثر ببعض الخصائص البدنية الخارجية.

سيكولوجيا الجشتالت (Gestalt psychology): ظهرت هذه المدرسة كرد فعل على علم النفس التحليلي وكلمة جشتالت ألمانية الأصل ومعناها الشكل وهي تنادي بضرورة دراسة السلوك والادراك من زاوية استجابة الكائن الحي لوحدات أو صور متكاملة وترفض النظر إلى السلوك على أنه مجموعة من الاستجابات الصغيرة على مثيرات معينة ويعتبر ماكس فيرتهيمر (1880 1943) المؤسس الحقيقي لهذه المدرسة وتبعه في زيادة هذه المدرسة كورت كوفكا (1886 1941).

عقدة النقص (Inferiority complex) : مصطلح وضعه العالم النفساني الفرد أدلر عام (1925) وهو يشير إلى حالة لاشعورية سببها نقص عضوي أو نفسي أو شعور بتدني المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية فيؤدي بالفرد إلى أن يعوض ذلك لاشعورياً عن طريق المبالغة في طلب القوة والسيطرة على الآخرين، وهنا يجب التمييز بين عقدة النقص والشعور بالنقص والذي هو طبيعي وناجم عن نقص المقدرة أو انعدام الكفاءة كما في خبرات الأطفال مقارنةٍ مع الكبار.

بيداغوجيا: كلمة مركبة من اليونانية من (بيه) بمعنى طفل و(أغو) بمعنى أربي وهو علم تربية الأطفال وتعليمهم المبادىء وهو علم واسع تخدمه سائر العلوم الأخرى ويطلق علية تسمية علم أصول التدريس وله شأن كبير في أمريكا وفي أوروبا ولكنه في أمريكا أكبر شأنا حتى أن أكثر رجال السياسة زاولوا في مبادئ أعمالهم تعليم الأطفال لا لنيل معاش ولكن ثقة منهم بأنه لا يصلح لقيادة الرجال من لم يتمرس بتأديب الأطفال وهذه الفكرة كانت شائعة أيضا لدى اليونانيين الأقدمين الذين كانوا على جانب كبير من الاهتمام بأمر تربية الأطفال وتنمية قواهم.

التقمص (Indentification): عملية لاشعورية أو حيلة عقلية يلصق فيها الفرد الصفات المحببة إليه بنفسه أو يدمج نفسه في شخصية فرد آخر حقق أهدافاً يشتاق هو إليها. فالطفل قد يتقمص شخصية والده أي يتوحد بهذه الشخصية وبقيمها وسلوكها. والشعور بالنقص قد يكون دافعاً قوياً للتقمص الذي يبدو واضحاً بشكل كبير لدى الذهانيين وخاصة المصابين بجنون العظمة فيظن أحدهم مثلاً أنه قائداً عظيماً فيرتدي الملابس العسكرية ويمشي كالعسكريين ويتصرف مثلهم. والتقمص في شكله البسيط يكون ذا أثر هام في نمو الذات وفي تكوين الشخصية

منهجيّة المقال و التحليل في مادّة العربيّة (شعبة الآداب)

بقلم صالح الزناتي




في منهجيّة تحليل النصّ
مدخل 1:
قيل (اتفق العرب على ألاّ يتفقوا) و عدم الاتفاق هذا حاصل حتى في مستوى المنهج رغم ما تعنيه هذه الكلمة من بيـان و وضوح لغة، فمنهج الطّريقِ وَضَحُهُ و المنهـاجُ كالمنهج و في التنزيـل ﴿ لِكُـلّ جَعَلْنَا منْكُم شِرْعَةً وَ منْهَاجَا﴾ ونحن لا نزعم بأنّنا سنحقّق التوحّد في الآراء، و إنما هدفنا الرّئيس هو تقديم تصوّر لما يجب على التلميذ أن يسلكه في عمله حتى لا ينعت عمله باختلال أو باضطراب المنهج، علما و أنّنا قد احتكمنا ،في انجاز هذا العمل، إلى مقاييس إصلاح الباكالوريا وبعض الكتب المختصّة، علّنا بذلك نجْمَع شتات الآراء، و نحقّق اتفاقا نكسر به مقولة عدم الاتفاق.
مدخل 2:
إن العنـاصر الكبرى التي يبنى عليهـا تحليل النصّ لا تختلف عن مثيلتهـا في تحلـيل المقال و هي المقدّمة و الجوهر و الخاتمة وهذه المحطّات الكبرى تتفرّع داخليّا إلى عناصر صغرى سنفصّل فيها القول.
صناعة المقدّمة
تنقسم المقدّمة إلى مجموعة من المحطّات التي يجب على التلميذ أن يتوقف عندها و هي على التوالي:
1-التمهيد: هو فاتحة المقدّمة و التحليل ككلّ و وظيفته وضع النصّ في إطاره التاريخي و في سياقه الفكري و لا يجب أن يكون التمهيد مُطَوَّلا و يجب أن نتجنّب فيه الأحكام المسبقة من قبيل (نجح، أبدع...) أو الحكم على النصّ كمـا يجب أن نتجنّب فيه الأحكـام الانطباعيّة من قبيل (أحسن، أجمـل، أروع، خير...) و نشير في هذا السّياق إلى أنّ التمهيد ليس بطاقة هويّة تعرّف بالشّخصيّة محور الدّرس..
2-التقديم الماديّ للنصّ: وهي عمليّة تأطيريّة للنصّ و مدار الاهتمام فيها نوع النصّ و مؤلّفه و المصدر الذي أخذ منه، مع ضرورة كتابة الأرقام بلسان القلم عند إشارتنا إلى الصّفحات التي أخذ منها النصّ.
3-التقديم المعنويّ: و يكون ذلك بضبط موضوع النصّ و من المستحسن أن تكون صياغة الموضوع في شكل جملة فعليّة.
4-الإشكاليّة أو محاور الاهتمـام: هي المرحلة الختاميّة في المقدّمة و المعلنة عن التحوّل من التقديم إلى الجوهر و يمكن الاستعانة بالأسئلة التي ترفق بالنصّ كما يمكننا التصرّف في هذه الأسئلة بالزّيادة أو النقصان أو إعادة الصّياغة، و يجب في الإشكاليّة تجنب كثرة الأسئلة كما يجب علينا أن نلتزم بالإجابة عن كلّ الأسئلة التي نطرحها.

الأحد، أكتوبر 05، 2008

بقلم صالح الزناتي

بقلم صالح الزناتي

بقلم صالح الزناتي

السبت، أغسطس 02، 2008

الدفاع الوطني - الاستقبال

الدفاع الوطني - الاستقبال

الأحد، يوليو 27، 2008

الإحداث في "حدث أبو هريرة قال"

بقلم صالح الزناتي



مسيرة أبي هريرة الوجودية : مفهوم المرض والرحيل

I- علاقة أبي هريرة بذاته : التجربة الحسية
بطل القصة أبو هريرة يعيش في مكة التي ترمز إلى الانغلاق والروابط الاجتماعية والتقيد بالطقوس الدينية. فهو ملتزم بعباداته متزوج بطريقة شرعية، يمثل الرجل التقليدي فارغ الكيان إلى أن يجيئه صديق له يدعوه إلى الخروج عن المألوف" أصرفك عن الدنيا عامة يوم من أيامك" فالبعث الأول منطلقه عوامل خارجية عن أبي هريرة الذي لم يكن مستعد للرحيل. كان الخروج من مكة فجرا. هذا الفجر يرمز به إلى ابتداء المغامرة الوجودية . ويتجاوز تحديد الزمان بتحديد المكان : الصحراء رمز الانطلاقة والحرية التي تقابلها قيود مكة وانغلاقها ، على رمال هذه الصحراء اللطيفة سيتمتع أبو هريرة وصديقه بمشهد الفتى والفتاة عاريين وهما يرقصان. هذا المشهد صرف أبا هريرة عن صديقه فكان بدء الانفصال عنه وقد هزه الطرب. عندها يبدأ أبو هريرة في التحول وذلك ما رغب فيه صديقه الذي عاد مرارا إلى هذا المكان ولبّى دعوة الدنيا وقد لخص المسعدي هذه الدعوة في قول الفتى:" نعم دعوة الدنيا ، دعوة الكون ، ترى هذه الأشجار وهذا الماء وهذا النور وهذا الفضاء وهذا الخلاء(ص 56-57).
أصبح أبو هريرة متهيئا لتلقي الدعوة. فقد عاد إلى مكة جسدا بلا روح يقول (ص 58) "وبقيت عامة يومي مصروف البال إلى أمر الجارية وفتاها" لكنه لم يتخلص بعد من ثقل الماضي فيقول " فكلما كان من الغد جمعت غرمي وأعرضت عن الدعوة وعدت إلى الصلاة فقصيتها واستغفرت الله " فأبو هريرة يتأرجح بين الصلاة والدعوة إلى الدنيا لم يمكنه التوفيق بينهما في حين أن صديقه قرر مصيره فاتخذ جارته وترك أهله فكأن الزواج بمفهومه الشرعي لا يتناسب والتجربة الحسية...
وينتهي أبو هريرة باللحاق بصاحبه. لقد فشل في العودة الى واقعة فيقول (ص 58) فذهب ذلك بما تضعت من العزم فكان البعث" .
كان البعث الأول إذن بعث الحس في الإنسان وقوة الطبيعة جنس وطبيعة كانا غائبين عنه : جنس يستره بنياب وطبيعة يقيدها بدين يقول الأستاذ توفيق بكار في تقديمه ص 21 "فيستجيب فيترك مكة والزوجة والصلاة وقد " بعث من بين الأموات" إلى الفردوس .. ليس فردوس السماء الذي ما فتىء يحلم به حتى أحياه بنفخة من طينة من جنة موعودة الى جنّة موجودة – مدى البعث مجازيا ومداه دلاليا انقلاب في التفكير من لا هويته مغرقة ترتقي بكل الحياة إلى الآخرة."لهم الدنيا ولنا الآخرة" إلى إنسانية معتدة تنزل بكل الحياة إلى الدنيا حتى تعمل لها " كأنها تعيش أبدا .. فكأنما "عدت الروح " إلى أبي هريرة بعودته إلى" الطبيعة الأم" يتخذ معنة الحياة من زخر مائدتها . فهي التي بعثته من رميم الرجل القديم الذي كأنه فهب إنسانا جديدا يسعى بكل حواسه إلى ملاقاة الكون للعب من نبع الوجود ونكهته".
وريحانة هي التي سينطلق منها أبو هريرة في مسيرته في تجربة عاطفة الحب معها. لهذا الاسم بعدان: بعد حسي من حيث علاقته بانتعاش الحواس وبعد ثان تمثل في التجربة الحسية وهي رمز للمتعة الحسية ، شبيهة بأبي هريرة في بعض خاصياته : هي نفور لا تستقر على حال وفي حديث المزج والجد" يتحدث عنها رجل من الأنمار قائلا: أقبلت على شبان الحي وكنت منهم ، غفر الله لنا جميعا فكانت تعاشر الواحد منا ، ثم تهجره إلى غيره ، وكانت في ذلك تلقي لنا فتبسط الأيدي ، فتمسك عنا وتولي حتى تهيجنا كغبار في يوم إعصار"(ص61 – 62 ) فهي تأبى الزواج وتعتبره عبودية. وهي إلى ذلك تحس بالغربة إذ لم تجد التجاوب مع أحد وهجرها للرجال دليل على أن الحس كما يتعاطاه الناس ليس المقصود بل الحس فلسفة عندها وستعثر على ضالتها في أبي هريرة.
وتعرف بنفسها قائلة :" أنا آخرة قومي وقد أكلتهم النار جميعا " وقد أصر المسعدي على قتل أهل ريحانة بالنار كما قتلت زوجة أبي هريرة بالنار أيضا فما مدلول النار؟ للنارمدلولان: مدلول سلبي تمثل في الإتيان على كل شيء ليكون رمز التخلص من القيم والقيود والثوابت الاجتماعية. وللنار مدلول ايجابي باعتبارها عامل نضج يولّد إخصابا وعلاقة جديدة بين ريحانة وأبي هريرة ، علاقة شبيهة بأسطورة أساف ونائلة رمز الخطيئة وتحدي القيم فتكون ريحانة الأرض التي تنتظر من يخصبها وقد قدم المسعدي لوحة فيها عملية الإخصاب في حديث القيامة " فشبه الحس بالزوبعة الممطرة (ص 84) " فما كدت أبرح الضيعة حتى جاءت المعصرات بالأنواء وكان البرق يستطير فتنطلق السماء وركامها والأشجار والجبال... فالمطر فالريح فالشدة فأنا أملأ ما أكون" ويضيف المسعدي عنصرا إضافيا للإخصاب الماء فبقدر ما عبر العنصر الأول " النار" عن النضج مثل الثاني الحياة.
لا يعتبر الحس مجرد متعة مبتذلة بل تجربة مقدسة جعلت بيت ريحانة- قبل أن تنتقل مع أبي هريرة إلى منزل بالمدينة – في الطريق الواصلة بين مكة والمدينة حجا آخر " الناس بين داخل وخارج" وريحانة في اختلافها عن النساء لا تمثل المرأة بقدر ما تمثل بعدا من أبعاد الكيان البشري فالإنسان لا يخضع بحسّه إلى أي نظام اجتماعي بل يعود به إلى العالم الفطري فالتجربة رمز إليها بريحانة هي تجربة الإنسان الفطرية والتخلص من القيم ليس معناه التمرد على المجتمع بل عودة إلى ما قبل المجتمع (وهذه التجربة الحسية في " حدث أبو هريرة قال" نزلت إلى الإجراء، التطبيق وقد نظرت لها ميمونة في دعوتها غيلان ان يمكنا يوما في الكهف (في السد الذي ألفه محمود المسعدي لاحقا لحدث أبو هريرة قال).
ستلتقي ريحانة مع أبي هريرة في حديث" التعارف على الخمر" فيشتركان في نزولهما ضيقين في حي من أحياء العرب وقد تم التعارف في مجلس الخمر أي عالم الحس. هذا التعارف انتهى بدخول ريحانة دين الحس. وقدمت صورة تعارف ريحانة بأبي هريرة في شكل صراع تقول" وهممت ألطم وجهه لطمة تذهب بخمره" لكن أبا هريرة أحسن التملك فننصهر فيه رياحانة لتصبح جزء منه فتقول " فما كدت أهم به حتى أخذني واحتملني وأنا اضطرب، فجعلني تحت سمره إلى الأرض وانصب علي فوجدته صاحبا من أشد الرجال ثم شدني إليه حتّى صرت منه (ص 71-72)
هذا الانصهار دلالة على كون ريحانة جزء من أبي هريرة ، جانب الحس في الإنسان وهو بعد من أبعاده.
وحديث " القيامة" يصف بداية ممارسة التجربة الحسية بينهما في إطار مكاني يوحي بالغرابة والرهبة لتعميق مفهوم الحس ليجعل الكون كله قائما على الإخصاب فالحس ليس مكتسبا بل هو فطري يقول المسعدي في "تأصيل الكيان " إن سر البقاء وتواصل الحياة هو التجربة الحسية ولو لا المتعة الحسية لما وجد الإنسان".
II – علاقة أبي هريرة بالكون : محطة تأملية
إن ممارسة التجربة الحسية التي اندفع فيها أبو هريرة بكل حواسه والتي تقول فيها ريحانة في حديث "الوضع" "وأكلته فأكلني وأفنيته وأفناني (ص 102) أورثته جوعا فنتيجة هذه التجربة الحسية سلبية إذ أن أبا هريرة غير قانع بها لشعوره بنقصان كيانه فيقول لريحانة " لقد علمتني الطعام ما لذته.. فهل علمتك باريحانة الجوع ؟ وهو إلى ذلك يشعر بالموت "زهرة على القبر" فتطرح عليه قضية الوجود والعدم المتمثلة في إدراك الإنسان ووعيه بمآله : الفناء (هذا الشعور أصاب أبطال المسعدي رغم عشقهم للحياة).
يبرز مفهوم المرض وتختلف الموافق بينهما : المرض عند ريحانة مرض جسدي عادي فتسيل الدموع حرقة على أبي هريرة في حين يكون المرض عنده أزمة وجودية تمثلت في رغبته في الابتعاد عن الجمود ولن يحدث ذلك إلا بتجاوز التجربة الحسية بعد أن استنفد كل أنواع اللذة من العلاقة الطبيعية مع ريحانة إلى التطرف في هذه التجربة مع مخنث المدينة.
نتبين خروج أبي هريرة من حالة الاطمئنان إلى حالة القلق التي ستؤدي به إلى التحول باعتبار إن الحيرة والتساؤل من مسؤولية الإنسانية. فالمرض إذن سيبعث الحياة والاستفاقة والإدراك بأن المتع لا تحقق إنسانية الإنسان. ستؤدي بأبي هريرة إلى الرحيل إلى التفكير المستمر فهو يكره الأشياء السهلة ويبحث عن الحقيقة. فالصحة تساوي الجمود في انعدام التساؤل وفي الاستقرار. فهو يخاف الاستقرار إذ نقول فيه ريحانة في حديث " الوضع شديد الكره للنزول يرتاد ولا ينزل ويقتله الطمع ويحييه اليأس ويخاف أن يستقر الجهد" ليصل إلى مرحلة تأملية في رحلة الإيمان بعبثية الكون والحياة نتجت عن تجربة الحس الفاشلة فعاش أبو هريرة دوامة من الحيرة والوحشة والتساؤلات الواردة في المجلس الخمري حين قص حياة أخته المعاقة وتساؤلاته عن سبب إعاقتها فيكون هذا المجلس الخمري منبها ليساعد على المأساة التي يعيشها البطل وتمثلت أولا في عدم التلذذ بالخمرة (وهي عالم الحس) وثانيا في امتناعه الدال على تأمله في هذا العالم الخمري الحسي الذي أصبح غريبا عنه. فهذا العالم الخمري يصبح عاملا من عوامل تنشيط المأساة حيث يتدرج به ثالثا إلى إمساكه عن الكلام لنتبين أنه يعيش حالة مخاض فكري : فعجزه عن فهم الوجود دلالة على وصول البطل إلى أرقى مستويات التأزم الوجودي ليصل الى التفكير في تحقيق ذاته بالفعل، بالبناء مع العدد .

III – علاقة أبي هريرة بالمجتمع : تجربة العدد : التجربة الجماعية
يدخل أبو هريرة طور العزلة عن الناس في واد فتكشف له الريح عن جمجمة رمز موت الإنسان وضعفه فزادته تأزما لكنه نام فحلم بالإنسان تأله وأخذ يشيد من الطين صرحا فرغم ضعف الإنسان المخلوف من الطين (حسب التراث الإسلامي) ينشد هذا الضعيف من الطين الخلود. فالحلم يأخذ معنى التصورات الفكرية: الفعل فهذا الطين يضع ويبدع ومنه ينشد الخلود. أنذاك ينطلق أبو هريرة في التجربة الجماعية من حالة العزلة الفردية إلى الفعل الجماعي، فهذا الحلم ألهمه" القدرة الإنسانية الخلافة التي تنفي العدم".
وينطلق الحديث عن التجربة الجماعية بنتيجتها الفاشلة إذ يصف كهلان أبا هريرة: فكان يحدثني حديث الميت يبعث كرها ويتوق إلى موته . فيبدي أبو هريرة رأيه في الناس" عشت في الناس ثلاثين. فلم أرو الله في واحدة منها إلا ذئبا ينهش ذئبا أو صاديا يشرب فيشتد صداه" (ص 149) ويقول (ص 51) خرجت أريدهم على البناء وبذلك يركز على ومضات ورائية لذكر هذه التجربة. فقد دعاهم إلى الخلق والتعاون وقعت هذه التجربة في مجتمع متخلف ينتظر " الحلول الغيبية" لإنقاذهم من الفقر.دعوة أبي هريرة هذا العدد "دعوتهم" يفيد أن التجربة لم تنبع من المجموعة ذاتها فيكون خطأ أبي هريرة من المنطلق إذ لم يعودهم على العمل والبذل بل وفر لهم ما يشتهون فعلمهم التواكل عليه فقالوا" دعانا داعي الرحيل قلت كأنكم مثلي لكن هيهات" فرحيل أبي هريرة ايجابي لأنه قائم على البحث واستقصاء معنى الوجود في حين أن رحيل الجماعة اكتسى معنى الحيرة الجوفاء ومجرد البحث عن الراحة والاستقرار فخرج بهم إلى صحراء لحثهم على الخلق والتغيير فتآكلوا رمزا للتناحر الاجتماعي والفتن والحروب.
ويبلغ أبو هريرة درجة الثائر الداعي إلى التمرد ومّما يؤكد نزعة الانا في هذا العمل الاجتماعي والسياسي إن أبا هريرة قد جنى من هذه التجربة لذة فيقول ووجدت في الفعل لمثل سكرة الخمرة وحسبته من العدد وخصب الكثرة " لكنها تفشل فيقـــــــول ( ص 156) " هذه يا كهلان قصة الطالب الكثرة جئتهم فسألتهم روحا فإذا هم أفرغ من نفخة إسرافيل" فتبين أن الأنا إذن هي باعث التجربة الجماعية ، فهناك إرادة فردية للبناء لم تنبع من المجتمع فأبو هريرة يريد البناء ليحقق ذاته في هذا البناء لذلك تفشل هذه التجربة ومن ورائها المسعدي فإفشال تجربة العدد نتيجة لرؤية فلسفية ليواصل مسيرة أبي هريرة الوجودية.
محطة تأملية ثانية : إن تجربة العدد تعقب بفترة تأملية مثل نظيرتها الفترة التأملية التي أعقبت تجربة الحس. تطرح التساؤلات على أبي هريرة فإذا به يعيش حيرة. هل يفهم الإنسان معناه حين يقتل الحس ؟
IV – علاقة أبي هريرة بالإله : التجربة الدينية الروحية
ويصعد أبو هريرة الى دير العذاري وقد حددت موقعه الجبلي راهبة الدير ظلمة الهذلية بقولها " وكان قليلا من يطرق علينا لمنعه الجبل وشدة الدير وعسره وانفصاله عن الأرض" فهو قريب من السماء رمز الغيب والماورائيات، ليكون التعبد والانفصال عن الحس والعدد ويرغب أبو هريرة في التخلص من الحس ، هذا التخلص الذي ستروضه عليه هذه الراهبة وتحدث المفاجأة وإذا بأبي هريرة يبعث الحس في هذه الراهبة ظلمة انطلاقا من كلمة " اللذة" وإذا بسواكن الحس تنفجر عندها وكانت قد كابدت للسيطرة على حواسها منذ حداثتها فيدخل أبو هريرة في علاقة حسية وراء المحراب . أراد أن تصعده ظلمة إلى السماء فأنزلها بدوره إلى الأرض وبذلك تفشل هذه التجربة الروحية ويهتدي البطل إلى" أن الغيبة تطلب فلا تدرك" فتؤدي به إلى تأملات.
يعيش أبو هريرة فترة تأملية يستقي فيها نتائج هذه التجربة الروحية فيستخلص أن الكائن البشري مركب من عدة أبعاد : لم يعش طمأنينة في الحس كما أنه لم يعشها في الروحانيات دلالة على أن الإنسان لا يستطيع الانسلاخ عن طبيعته فيرفض الحيوانية الصرفة ولا يستطيع التأله الإنساني.
أمّا الاستخلاص الثاني فيتمثل في رفضه للسبل المسلّمة التي يتطلبها التسليم للوصول إلى الاستقرار الروحي مما يؤدي ذلك إلى حيرته.
لم ينهزم أبو هريرة بل اكتسب جزء من كيانه ومن هنا نفهم رؤية المسعدي للمأساة : تأرجح الإنسان بين الحيوانية والألوهية وهذه منزلة الإنسان الأرضية- فلا يجد أبو هريرة الخلاص إلا بتجاوز هذه المأساة وهذا التجاوز لا يكون إلا بتخطي الدهر الذي سيظهر في خاتمة " حدث أبو هريرة قال" " في البعث الآخر".
المنتهى : البعث الآخر
قد صورت ظلمة أبا هريرة وما يشعر به من شوق إلى المطلق " فإذا عينه أشد ما رأيت شوقا إلى ما لا تراه غيرها من العيون... وكان يقول ( أبو هريرة) أليس فيكم من يحذق صنع الأصوات تحضر الآلهة وتكسر الزمان المحدود".
تنتهي به الرحلة إلى بعث أخر إلى ( معراج) تطلب فيه الغيبة فتدرك. يطلب أبو هريرة من أبي المدائن أن يخرج به يوما ليس من الدهر خارجا عن محدودية الزمان ويكون ذلك عند مغرب الشمس ( رمز نهاية مسيرة أبي هريرة). يصعدان جبلا حزيزا ينشد النهاية. حركة أبي هريرة حركة تصاعدية من الرمال إلى قمم الجبال دلالة على صعوبة الملتقى ووجود الحقيقة وتنتهي مسيرة أبي هريرة بالرضي والقبول يقول " هذا ما كنت أطلب" رحلته لم تكن عبثا بل مكنته من بناء كيانه ومفهوم هذه المسؤولية مستمد من الفكر الإسلامي الذي يفيد من النصوص الدينية تحمل الإنسان مسؤوليته وتحقيق هذه المسؤولية سعي ترجم عنه الشعر على لسان الهاتف – هاتف الغيب المسحون بمصطلحات صوفية كالحق والحب. إن علاقة الحب بين أبي هريرة والله أول نتيجة يفوز بها بعد نجاحه في القيام بمسؤوليته الإنسانية أما مصطلح الشوق فهو دافع أبي هريرة لهذه الرحلة لحاجة المعرفة فرحلته تتعطش إلى المعرفة التي لم تستجب لها أية تجربة فيجيب أبو هريرة على الهاتف بمفهوم الفناء في الله.
أما أبو المدائن فيمثل صورة من أبي هريرة في البعث الأول .وصف أبي المدائن نهاية أبي هريرة وصف غامض فنحن أمام لوحة فيها صوتان: صوت حيواني
" صهيل " وصوت بشري " صحية" إلا أن الصوت الحيواني اقترن لحالة نفسية : ألم والصوت البشري اقترن بحالة نفسية : فرح فيمكن أن يرمز بالألم إلى موت الحصان أي موت الجانب الحيواني في الإنسان ويمكن أن يرمز بالفرح إلى صعود أبي هريرة إلى السماء أي انعتاق الجانب الإلهي في الإنسان.
فلا أثر لموت أبي هريرة أ, انتحار لأن معنى الموت أو الانتحار ورد على لسان أبي المدائن "وإذا دم على الصخر" فهل يجوز المسعدي الانتحار في كتاباته ؟
إن المناجاة الصوفية في البعث الآخر لا يدل على معنى الانتحار فالانتحار في الفكر الوجودي نهاية الإيمان بعبثية الحياة. ولو أراد الانتحار كسلوك عملي لا ينتحر عند شعوره بالموت وعند الحديث عن أخته إن في " البعث الآخر" يكتمل كيان أبي هريرة لأنه وصل إلى المعرفة في أرقى مستوياتها.
وعلاوة على مفهوم الرحمة اللغوي فإن مدلول الرحمة الحضاري يفيد الغفران الذي يوحي بأن أبا هريرة قد تحول إلى عالم آخر ، عالم الخلود ويعتبر الأستاذ توفيق بكار أن الخاتمة تفتح بابين للتأويل:
1/" أنا الحق يناديك" قد يكون الحق هو الموت فالإنسان لا يدرك الحقيقة إلا عندما يموت فيكون أبو هريرة اختار الموت وهو شهيد لأن في الموت إدراكا للحق.
2/ يمكن أن يكون أبو هريرة قد فني في الحق وذاب في المطلق فخرج عن الزمان والمكاني ومن النسبة إلى المطلق ويكون قد اخترق الحدود بين الدهر والخلود وقد أصاب معنى وجوده بالقصة قصة جهاد كلل بالنجاح وتكون مسيرة أبي هريرة مأسوية إلى حديث " الجمود" إذ في البعث الآخر يفوز بعد البحث الطويل.
ويعتبر الأستاذ طرشونة في " الأدب المريد" أن فشل أبي هريرة ليس سوى نقل لحقيقة المنزلة الوجودية فإرادة بلوغ عالم المطلق في حدث أبو هريرة قال يجيلنا على جملة من التصورات الإسلامية تبعد المسعدي عن عبثية سيزيف وعن الرؤيا الوجودية الغربية فلغة النصوص صوفية في" البعث الآخر" أساسا.
وعلي هذا الأساس نتبين بناء " حدث أبو هريرة قال" الخارجي :
1- 1- التمهيد: تقديم شخصية أبي هريرة التقليدي(بعث أول)
: تحديد الإطار المكاني : الخروج من مكة إلى الصحراء
: تحديد الإطار الزماني : الفجــــر
2- 2- الأزمة: تساؤلات البطل أبي هريرة عن إدراك المعرفة : مغامرة وجودية
تتناول جميع أطوار حياته.
3- 3- الحـــل: معراج أبي هريرة : التجربة الصوفية(البعث الآخر)
"فحدث أبو هريرة قال" من الأدب الرمزي الذهني. أحداثها ليست بواقعية. كل الإحداث ترمز إلى مسيرة أبي هريرة الوجودية من المبتدأ إلى المنتهى هذه الإحداث تقمصتها شخصيات منها الشخصية الرئيسية البطل أبو هريرة وهي ترمز إلى الإنسان في تحمل مسؤوليته الإنسانية في الوجود. ومنها الشخصيات الثانوية التي ترمز إلى أبعاد الإنسان من الحس إلى الروحانيات (ريحانة و ظلمة). هذه الإحداث عن طريق شخصياتها تستقطبها أطر مكانية تتناسب وسلوك أبي هريرة في مسيرته من انغلاق إلى انفتاح حسي إلى الاقتراب من السماء إلى الانعتاق ( مكة – الصحراء الرملية- المجالس الخمرية الدير في الجبل الجبل الحزيز ). كل هذه المسيرة ستحدد بأطر زمانية داخلية خاصة منها ما يرمز الى بداية مغامرة أبي هريرة الوجودية إلى منتهاها ( من الفجر إلى مغرب الشمس).
إن معطيات السرد من أطره وشخوصه لا تقصد لذاتها وإنما استعملت ألفاظها للدلالة على مفاهيم معنوية ذهنية فانتمى هذا الأثر إلى الأدب الرمزي الذهني حيث يقع تجاوز المدلول المادي إلى المدلول المعنوي وهذا التجاوز هو مذهب المسعدي في كتاباته حيث يصرح " ملتزم الرمز اجتهادا" فيجعل الشخصية خلاصة الشخصيات.
هذا الأدب الرمزي من صنف الرمزية الوجودية إذ اتبع المسعدي مراحل الوجودية الغربية الأربع : علاقة الإنسان بذاته وبالكون وبالمجتمع وبالله تأثرا بها لكنه تصرف فيها ووظفها وفق هويّته الإسلامية : وهو إلى ذلك يلتزم بخصوصيات هوتيه العربية رغم نزعته الإنسانية . يظهر ذلك في الرجوع إلى التراث العربي كزمن خارجي فبدت البيئة عربية بصحرائها وبأسماء مدنها وبنمط شخصياتها خاصة منها البطل "أبو هريرة " وبالشكل الأدبي " الأحاديث" وبأساليبه العربية التي تذكرنا بأساليب أشهر الكتاب القدامى.



المصدر : " حدث أبو هريرة قال"
المراجع :- تقديم الأستاذ توفيق بكار" لحدث أبو هريرة قال"
- الأدب المريد للأستاذ محمود طرشونة


صالح الزناتي

.
هل يستطيع أي صحفي أو اعلامي ان يتبرأ من المورثات الثقافيه التي يحملها ..؟؟ هل يقدر على التنصل من اخلاقيات الأديب والمثقف الكاتب؟؟ وهل يستطيع ان يخرج من البيئه التي يعيش بكامل أطرها ومعطياتها ,فيكتب مالا يقبله العقل والقلب ..؟؟ ان الكاتب أو الإعلامي لا بد ان يسير على نهج سلفه الصالح ..وان أمسك قلمه لا بد أن يحمل مع قلمه مشاعره ,احاسيسه ,ثقافته,ومورثاته الخلقية,فتأتي كتاباته تحمل الكروموسومات التي سبق ان حملها سواء من تجارب ثقافية أو مركبات جينية...
على الكاتب ان يزن احرفه وجمله قبل ان يسطرها قلمه فينشرها عبر الإنترت او شاشات التلفاز وأوراق الصحف,لأنه سابقاً قالوا ان غلطة العالم بألف ..فما بالنا بغلطة الكاتب أو الإعلامي .التي غطله واحده كفيله أن تغير او تشتت فكر أناس بسطاء لا يملكون من الدنيا إلا سطحية التفكير و هشاشة العقل

صالح الزناتي

مرحبا بكل من هل علي بالزيارة
مواقع و منتديات هامة و رائعة

tunisia sat

tunisia sat
site web tunisenne

tunisia-sport

منتديات تونس سات

startimes2

kuwait2

hannibal-sat

hannibal-sat
http://www.hannibal-sat.com/vb/

tunisia-web