السبت، أكتوبر 11، 2008

الوجود الجميل إلى إستطيقا الوجود

بقلم صالح الزناتي

إن الانشغال بالمسألة الجمالية عموما ، يدخل في صلب العمل الفلسفي. إذ أن مسالة الجميل طرحت منذ البدايات الأولي في المتن الفلسفي، بل أن التفكير في سؤال ما الجميل؟ قد انطبع بحدود الأنساق الفلسفية وبإكراهاتها النظرية الصارمة، إذ أن اللغوس أعلن أوليته وإطلاقيته علي حساب الأنظمة الأخرى فاعتبرها في كل الحالات دون المقتضي الأساسي للتجربة الفلسفية، وهو ما كان يقوي العلاقة المتناقضة بين الجميل والحقيقي ومن ذلك بين الفنان والفيلسوف.

إن الفنان بالنسبة لأفلاطون مثلا ، لا يفعل شيئا آخر غير أنه يحاكي الجمال الطبيعي الذي هو بدوره محاكاة لمثال الجمال، إذا الفن بالنسبة له محاكاة للطبيعة التي تحاكي مثال الأشياء، ومثال ذلك فكرة السرير التي يأخذها الحرفي قانونا لصناعة السرير ويخلق عندها السرير المحسوس والمادي أما الفنان فهو يحاكي هذا السرير المحسوس الذي حققه الحرفي، سرير هو ذاته نسخة.وهكذا يأتي الفن في المرتبة الثانية من النظام الأنطلوجي فهناك أولا الفكرة ، ثم الأشياء وأخيرا الإبداعات الفنية. وينطبع هذا الموقف ليعطي للجمال الفني البعد الذي يفصله عن ما هو حقيقي ، بل ليس إلا صورة وهمية تبتعد بنا عن ما هو كلي وأصلي ما دام يتورط في بعد مادي / حسي. إن الجميل لا يكون جميلا إلا بالجمال ، والجمال لا يكون في الأشياء ولا في الأشياء الفنية بل في عالم المثل باعتباره عالم حقيقي وجميل وخير، لذلك يميز أفلاطون بين الجمال في التجربة الحسية المباشرة باعتبارها صفة نحملها عن الكائنات والأشياء ويعتبره ظاهرا ليس إلا انعكاسا للجمال في ذاته أو لمثال الجمال، بحيث لا تكون الأشياء المحسوسة جميلة إلا بمشاركتها في مثال الجمال، ذلك أن فكرة الجمال أرقي من الانشراح الذي تسببه الأشياء الجميلة المحسوسة. إن أفلاطون يؤسس نظرية موضوعية للجمال ، إذ يبين في محاورة " المأدبة" كيف يمكن أن نرتقي من الرغبة في الأجسام الجميلة إلي حب الأنفس الجميلة، حتى ننتهي إلي تأمل الجمال في ذاته، وهو ما يقتضي ضرب من التدريب يرتقي من التطهير إلي الارتقاء وأخيرا التأمل، يعطي هذا التدريب شكلا جدليا صاعدا في اتجاه ما هو مطلق. إن أفلاطون يضحي بالفن والفنان من أجل طلب الكلي والمطلق الذي يعجز الفن عن استقدامه إلا بضرب من التشويه وخرقا للجمالية الحقيقية ولذلك يكون المطلب أساسيا في تحرير اللوغوس الفلسفي من كل محاكاة وفرار من ما حسي استعداد بالإنسان إلي مغامرة الوجود الحق والخير والجميل الذي لا يتأسس إلا بالتأمل وليس بالمحاكاة.

إن مثل هذا الفصل بين الجميل والحقيقي ، نجد صداه أيضا في تاريخ الفلسفة . إذ رغم الإجراء الإشكالي الذي حرر الأثر الفني من كل محاكاة واعتباره أثرا قائما بذاته يتعرف من خلاله الفنان على قدرته على الخلق والإبداع. فالأثر الفني بالنسبة لهيجل ليس إلا تعبيرا عن ما يتمثله الإنسان في صيرورة علاقته البحثية عن المطلق الذي لا يكون مطلقا في كمال كلي ومتعال ومنذ البدايات الأولي بل مطلق لا يكون إلا مجموع الوساطات التي يتوسط بها ذاته والعودة إلى ذاته أكثر بهاءً وجمالا. إن المطلق هو الشغل الشاغل للفيلسوف أما أمر قوله ضمن التجربة الفلسفية لا يكون يقينا ذاتيا أو إملاء أخلاقيا ولا تجربة فنية ، بل استنباطا من أنصاف الحقائق التي تورط فيها هذا المطلق وضاع فيها. إن الفن هو أحد هذه الأشكال التاريخية التي تعبر عن المضامين الحقيقية للحق وهو يبحث عن ذاته، في شكله البدئي الذي يتحول من الفن الرمزي إلي الفن الكلاسيكي إلى الفن الرومانسي الذي لا يبلغ المطلق إلا وهو متعلقا بشكل حسي يرتهن فيه ويتكسر علي حدوده. ولذلك فإن الأثر الفني يكون لا محالة تعبير عن الفكر وفي ذلك رفعته ولكن الفكر لا يكون متصالحا مع ذاته بل مجسدا فيما هو حسي وفي ذلك نقصانه. إن الجميل الفني جميل أرقي لا محالة من الجمال الطبيعي لأنه انعكاس للعمل الدؤوب في محاولة ترويض المطلق بالنسبة للإنسان. فهو شاهد علي أن الإنسان كائن كلي ، يعين فكره بنحو كلي، أي مفصولا عن كل وعي مباشر ، جزئي ولكن الأثر الفني يكون شاهدا أيضا علي ما لا يستطيعه الفنان من جهة إمكان هذا الكلي الذي يتمثله تمثلا أنانيا وحسيا فيختفي الكلي ويعجز الفنان في الإقبال عليه بنحو جميل.

إن الانخراط بالأثر الفني، في الصيرورة التمثلية لتكوينية الذات في البحث والتعبير عن ذاتها، هو ما يفتح للفن علاقة بالموجود والوجود، هي تلك العلاقة التي من خلالها يسعى الفنان إلى حمل الوجود ببصمته الذاتية وقدرته على اختراعه بنحو يشهد علي فعاليته التمثلية فيما هو متمثل، ولا يكون التمثل ممكنا إلا من خلال تلك الإضافة التي يمنح فيها الفنان للأشياء الحسية أبعادا تفصلها عن وجودها المباشر لترتقي بها إلي مطلب ما هو كلي وكوني . إن الجميل استقبال للكوني وللمطلق وبذلك يفتح هيجل مهمة الفنان والفن علي ما هو مطلق ، وهي المهمة التي سرعان ما يتراجع عنها،إذ أن المطلق لا يرقص إلا علي كماله الذاتي في تطابقه مطلقا مع ذاته ولا يكون ذلك إلا داخل المحراب الفلسفي وليس تحت ريشة الفنان أو سحر كلمات الشاعر كأشكال تخيلية لهذا المطلق. إن الفن إذا ليس إلا مجرد واسطة من أجل بلوغ هذا الارتقاء إلي ما هو فلسفي مطلق أي حقيقي ومعقول في تطابقه مع ما هو واقعي.إن واقعية الفن هي من جنس هذه الواقعية الناقصة ، أي واقعية تنحو إلي التعبير عن الواقع ولكنها تفشل في ذلك فيكون الفن ساعتها إنفصال عن حقيقة هذا الواقع إلي واقع خيالي يشهد بفشل الفنان والفن في التصالح مع الواقع الفعلي والحقيقي. إن هيجل يضحي مرة أخري بالفن علي مذبح الضرورة المنطقية لاكتمال النسق الفلسفي.

إن ربط الفن بالتمثل يحرره لا محالة من النظرة الأفلاطونية ولكنه أوقعه في أسر الفكرة وصيرورتها ليجعل الفنان مجرد شاهدا عليها وكان التجربة الإنسانية هي تجربة فكرية / تمثلية فحسب؟ وكان التمثل والتمثيل هو علاقة ما بالحقيقة . إن اختبار الإنسان خارج هذه التجربة التمثلية ، تكشف أن الإنسان أكثر بكثير واقل بكثير من ذلك، لأن الإنسان ليس هو ما يتمثله عن ذاته بل هو ما يكون ملقي به في العالم وفي الوجود بدون عون أي بدون واسطة سوي السلطوية منها.فهو خاضع إلي إستراتيجية سلطوية ، تتغلغل في قواه ضمن المفاعيل التي لا تفصله عن ذاته فحسب بل تخنق فيه الحق في الحياة ، في الجسد ، في الاختلاف لتحكم قبضتها عليه فتصيره ضمن قوة واحدة هي قوة إنتاج وإعادة إنتاج لما يجب قوله ولما يجب أن يراه. إن هذه الحاكمية وهذه الإستراتيجية الميكروفزيائية تكشف عن وهم التمثل والتمثيل وعن وهم الكلي عندما نرصده قضايا كلية، نبحث عنها في الماوراء أو في الإنسان أو في النزعات الإنسانية التي تتخذ من الكلي محطة يصلها الإنسان وفيها مقره ولكن بها موته أيضا. إن الكلي ليس في الذهن ولا في التاريخ ، لأن التاريخ لا ينشر عقلا ومعقولا، ولا هو بلورة لتمثل متمثل، بل هو مجموع الحيل والمفاعيل العرفانية ، السلطوية التي تزيف،وتسير ، تفصل وتصل ضمن أبعاد لا تعني الكلي ولا حتى الإنسان ولا الحقيقة والحق بل تعني السلطة مما يجعلها تمارس بما يقويها كسلطة تمارس من أجل خلق شروط الحياة كشرط جنائزي. إن ما تقوم به السلطة أمر يهم السلطة حتي تكون سلطة حيوية ، تتمفصل عبر قوي الفرد فتكون الأقوى لأنها الأقدر على الإخضاع والفصل أي على تفعيل إستراتيجيتها الحربية في النشر والانتشار والتحكم و التموقع بل لا يكون كل ذلك ممكنا إلا عبر وسائطها الحيوية .إن السلطة حيوية لأنها ليست فكرة ، ولا تمثلا، ولا تصورا ولا مفهوما بل هي مواقع ، أي مؤسسات وخطابات مرئيات ومنقال. إزاء هذا التفطن الذي جعل من ميشال فوكو يطرح السؤال : كيف يمكن مواجهة السلطة؟ أي ماذا يجب أن ننتظر من المثقف اليوم من دور إزاء هذه الإستراتيجية السلطوية؟هل ننتظر درسا في الخلاص؟ أم درسا في الحقيقة ؟ أم درس في المقاومة ؟

إن المقاومة ليست درس بل تموقع في كل مواقع السلطة وهي أيضا ليست فكرة بل فضح لأرشيف السلطة أي تموقع في وثائقها في سنداتها ومستنداتها ونشرها علي الملأ. إن التموقع فكر لا ينهض ليكون بداهة أو مطلق أو حضور تمثلي ولا هو انكشاف بل هو اشتباك أي مقاومة والتي تعني فك الارتباط أو فصل يخلق فضاءً ويخلق تفكيرا . إن المقاومة تتخذ شكلين - الحق في الاختلاف من أجل الحق في التنوع -الابتعاد عن كل دمج حتى تصبح الحياة حضورا جسديا في العالم. إن علاقة الذات بالذات هي مصدر للمقاومة ولذلك فإن المقاومة بالنظر لفوكو تعني الانثناء علي الخارج وخلق ثغرات في استراتيجية السلطة . لم يعد النضال يفهم أو يترقب إمبراطور الفقراء ولا ملكوت الآخرة ولا حتى عودة العدل بل يقوم مقام الهدف الواضح هو الحياة المفهومة كحاجات أساسية كاكتمال للحسي وللجسد :انجاز لإمكانات وككمال للممكن أي الحق في الحياة بجعلها أرضية للمقاومة بفك مراقبة السلطة عليها أي الحق في الجسد ، في الصحة أي في السعادة وأن يكتشف الإنسان ذاته ويتجاوز كل ما يمكن أن يكون اضطهادا واعتقال للحياة هو الفعل الجميل بحق. جمالية ترتقي إلي "فن إدارة الذات " تلك هي المقاومة وذلك هو طريق الجمالية عندما ينقطع الوجود عن التمثل وعن مطلب الكلي ليتعين مقاومة تخلق اشتباكا ربما يقتضي تأويلها كإتيقا للمشكل و لما هو إشكالي.

ليست هناك تعليقات:

صالح الزناتي

.
هل يستطيع أي صحفي أو اعلامي ان يتبرأ من المورثات الثقافيه التي يحملها ..؟؟ هل يقدر على التنصل من اخلاقيات الأديب والمثقف الكاتب؟؟ وهل يستطيع ان يخرج من البيئه التي يعيش بكامل أطرها ومعطياتها ,فيكتب مالا يقبله العقل والقلب ..؟؟ ان الكاتب أو الإعلامي لا بد ان يسير على نهج سلفه الصالح ..وان أمسك قلمه لا بد أن يحمل مع قلمه مشاعره ,احاسيسه ,ثقافته,ومورثاته الخلقية,فتأتي كتاباته تحمل الكروموسومات التي سبق ان حملها سواء من تجارب ثقافية أو مركبات جينية...
على الكاتب ان يزن احرفه وجمله قبل ان يسطرها قلمه فينشرها عبر الإنترت او شاشات التلفاز وأوراق الصحف,لأنه سابقاً قالوا ان غلطة العالم بألف ..فما بالنا بغلطة الكاتب أو الإعلامي .التي غطله واحده كفيله أن تغير او تشتت فكر أناس بسطاء لا يملكون من الدنيا إلا سطحية التفكير و هشاشة العقل

صالح الزناتي

مرحبا بكل من هل علي بالزيارة
مواقع و منتديات هامة و رائعة

tunisia sat

tunisia sat
site web tunisenne

tunisia-sport

منتديات تونس سات

startimes2

kuwait2

hannibal-sat

hannibal-sat
http://www.hannibal-sat.com/vb/

tunisia-web